الرد على دعوى انتشار الإسلام بحد السيف وإساءة معاملة الآخر

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات


مـواقـع شـقــيـقـة
شبكة الفرقان الإسلامية شبكة سبيل الإسلام شبكة كلمة سواء الدعوية منتديات حراس العقيدة
البشارة الإسلامية منتديات طريق الإيمان منتدى التوحيد مكتبة المهتدون
موقع الشيخ احمد ديدات تليفزيون الحقيقة شبكة برسوميات شبكة المسيح كلمة الله
غرفة الحوار الإسلامي المسيحي مكافح الشبهات شبكة الحقيقة الإسلامية موقع بشارة المسيح
شبكة البهائية فى الميزان شبكة الأحمدية فى الميزان مركز براهين شبكة ضد الإلحاد

يرجى عدم تناول موضوعات سياسية حتى لا تتعرض العضوية للحظر

 

       

         

 

    

 

 

    

 

الرد على دعوى انتشار الإسلام بحد السيف وإساءة معاملة الآخر

النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: الرد على دعوى انتشار الإسلام بحد السيف وإساءة معاملة الآخر

مشاهدة المواضيع

  1. #4
    تاريخ التسجيل
    Nov 2011
    المشاركات
    1,863
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    ذكر
    آخر نشاط
    08-10-2025
    على الساعة
    11:18 PM

    افتراضي

    ويجدر بنا الآن أن نذكر مظاهر تسامح المسلمين مع الآخر، في عصورهم المختلفة، وذلك على النحو الآتي:
    1. التسامح في عهد الراشدين:
    إن في بقية حقب تاريخ المسلمين نماذج ناصعة مشرفة من التسامح والعدالة في معاملة الآخر؛ فحين فتحت مصر في عهد الخليفة عمر بن الخطاب على يد عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أمن عمرو النصارى على معتقداتهم، وأعاد البطريرك بنيامين إلى زعامتهم، بعد أن كان مختفيا لمدة طويلة فرارا من بطش البيزنطيين حكام مصر في ذلك الوقت، وقد قيل: إن الإمبراطور البيزنطي جستنيان أمر بقتل مائتي ألف من القبط في مدينة الإسكندرية، وإن اضطهادات خلفائه حملت كثيرين على الالتجاء إلى الصحراء.. كما أوكل ابن العاص إلى بنيامين الإشراف على شئون أهل طائفته من القبط[36].
    ويوضح نص الصلح بين المسلمين والمقوقس - حاكم مصر من قبل البيزنطيين - بعد فتح حصن بابليون ملامح سياسة المسلمين تجاه أهالي البلاد المفتوحة، وما تتميز به من نبل وتسامح، يقول النص[37]:
    "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر، الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم، وكنائسهم وصلبهم، وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص، ولا يساكنهم النوب[38]، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية - إذا اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم - خمسين ألف ألف، وعليهم ما جنى لصوتهم[39]، فإن أبى أحد منهم أن يجيب؛ رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى، رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم والنوب فله مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب، فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا".
    ويرجع النجاح الذي أحرزه الإسلام في مصر - في بعض أسبابه - إلى ما لاقاه المسلمون من ترحيب الأهالي المسيحيين الذين كرهوا الحكم البيزنطي، فاليعاقبة[40] الذين كانوا يمثلون السواد الأعظم[41] من المحكومين المسيحيين قد عوملوا معاملة مجحفة من أتباع المذهب الأرثوذكسي من الحكام البيزنطيين، الذين ألقوا في قلوبهم بذور السخط والحنق اللذين لم ينسهما أعقابهم حتي الوقت الحاضر.
    فقد كان بعضهم يعذب ثم يلقى به في اليم، وتبع كثيرون منهم بطريقهم في التخلص لينجوا من الاضطهاد، وأخفى عدد كبير منهم عقائدهم الحقيقية، وتظاهروا بقبول قرارات مجمع خلقدونية بآسيا الصغرى، الذي عقد سنة 451م، واتخذ قرارا بتأكيد القول بطبيعتين للمسيح - لاهوتية: إلهية، ناسوتية: مادية جسدية بشرية - وتكفير أصحاب الطبيعة الواحدة؛ أي: اللاهوتية[42].
    وقد حاول الإمبراطور البيزنطي هرقل (610 - 641م) بعد انتصاره على الفرس سنة 638م، جمع مذاهب الدولة المتصارعة، وتوحيدها والتوفيق بينها، وتقررت صورة التوفيق في أن يمتنع الناس عن الخوض في الكلام عن كنه طبيعة السيد المسيح، وعما إذا كانت له صفة واحدة أم صفتان، ولكن عليهم أن يشهدوا بأن الله له إرادة واحدة، أو قضاء واحد، وقد حصل وفاق على ذلك.
    وصمم هرقل على إظهار هذا المذهب الجديد على ما عداه من المذاهب المخالفة له متوسلا إلى ذلك بكل الوسائل، ولكن نصارى مصر نابذوه العداء وتبرءوا من هذه البدعة - وذلك التحريف - واستماتوا في سبيل عقيدتهم القديمة، واستمرت محاولات التوفيق دون جدوى.
    أما الفتح الإسلامي فقد وفر لنصارى مصر حياة تقوم على الحرية التي لم ينعموا بها قبل ذلك بقرن من الزمان، وتركهم المسلمون أحرارا على أن يدفعوا الجزية، وكفلوا لهم حرية ممارسة شعائرهم الدينية، ولم يضعوا أيديهم على شيء من ممتلكات الناس، ولم يرتكبوا أعمال سلب ونهب. وليس هناك شاهد على أن ارتداد بعض القبط مبكرا عن دينهم، ودخولهم في الإسلام على نطاق واسع كان راجعا إلى اضطهاد، أو ضغط يناقض مبدأ التسامح الذي درج عليه حكامهم الجدد من المسلمين.
    فقد تحول كثير من هؤلاء القبط النصارى إلى الإسلام قبل أن يكتمل الفتح الإسلامي لمصر، حين كانت الإسكندرية - حاضرة البلاد في ذلك الوقت - لا تزال تقاوم الفاتحين. وقد سار كثير من القبط بعد ذلك بسنين قليلة على نهج إخوانهم؛ ففي عهد الخليفة عثمان بن عفان (23 - 35هـ) بلغ خراج مصر اثني عشر مليون دينار، ثم نقص في عهد معاوية بن أبي سفيان (41 - 60هـ) إلى خمسة ملايين، وذلك بسبب دخول عدد كبير في الدين الإسلامي من نصارى مصر، ثم أخذ الخراج في النقصان في عهد عمر بن عبد العزيز (99 - 101هـ) حتى إن والى مصر اقترح ألا يعفى من يعتنقون الإسلام بعد ذلك من أداء الجزية، ولكن الخليفة الورع أبى موافقته على طلبه قائلا: إن الله قد بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - داعيا ولم يبعثه جابيا[43].
    ولكن بعض الولاة الذين جاءوا بعد ذلك خرجوا أحيانا شيئا ما على روح التسامح هذه، ولكن كان هذا بمنزلة الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا يلغيها، فقد جاءت فترات - خصوصا في العصرين الفاطمي والأيوبي - ترقى فيها رجال من أهل الذمة إلى أعلى المناصب، فكان منهم الوزراء والكتاب في دواوين الحكومة، وجمعوا الثروات الطائلة. وفي عهد السلطان المتسامح - بشهادة الخصوم قبل الأصدقاء - صلاح الدين الأيوبي (569 - 589هـ) وخلفائه، نعم النصارى وسعدوا إلى حد كبير؛ فقد خففت عنهم الضرائب، وصار منهم الوزراء والكتاب، والصيارفة؛ رغم ظروف الصراع الإسلامي الصليبي.
    وهكذا كان الإنصاف والتسامح طابعا عاما للحكم الإسلامي لمصر، فيما عدا بعض الحالات الاستثنائية، التي سرعان ما كانت تزول، والتي لم يتورع مرتكبوها عن التعدي على الرعية من إخوانهم من المسلمين أنفسهم، فهم ظالمون بدافع من ذواتهم وطباعهم، لا بعقيدتهم وتعاليم شرعهم.
    ومما يؤيد هذا الطابع العام من الإنصاف والتسامح تجاه الآخر، أنه على الرغم من تسارع كثيرين من أهل مصر إلى اعتناق الإسلام منذ لحظات الفتح - كما سلف الذكر - فإن المسلمين لم يصيروا أغلبية بها إلا خلال القرن الرابع الهجري.
    فلو كان الإسلام لا يقبل الآخر والمسلمون لا يميلون إلى التنوع، ولا يستريحون إلى التعامل والتعايش مع مخالفيهم في العقيدة في البلاد التي لهم فيها شوكة، وبالتالي استعملوا العنف والشدة - بل السيف كما زعم المغالطون - في نشر عقيدتهم - لما احتاج الأمر إلى ثلاثة قرون أو أكثر ليصيروا أغلبية في مصر، بل ربما لم يحتاجوا إلى ثلاث سنوات إذا كان السيف مسلطا على الرقاب.
    بل زد على ذلك فقل إن بقاء أقلية غير مسلمة - معقولة العدد مستقرة الحال لحد كبير - بهذا البلد بعد مرور أكثر من أربعة عشر قرنا على فتح المسلمين له لدليل قوي على تسامحهم تجاه الآخر، بل التفاعل معه، وذلك بدافع من تعاليم دينهم: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (المائدة: 8).
    وقد كان المسلمون الفاتحون يخيرون خصومهم بين ثلاث خصال: الإسلام، أو الجزية، أو القتال - كما هو معروف - فإذا أسلموا طواعية فهم إخوة لنا في الدين، لهم ما لنا وعليهم ما علينا من الحقوق والواجبات، وإذا أبوا الدخول في الإسلام، وقبلوا دفع الجزية قبلت منهم، وتركوا وشأنهم، ومنحوا أمانا على أموالهم وأنفسهم وعقائدهم، فإذا رفضوا الأمرين كان معنى ذلك أنهم مصرون على الحرب والعناد.
    وحين كان المسلمون ينتصرون لم يكونوا - في الغالب - يستخدمون ما يسمى بحق الغالب في فرض شروطه على المغلوب، فلم يكونوا يكرهون الناس على اعتناق الإسلام، فهؤلاء المهزومون، بعد هزيمتهم: بين مسلم برغبته ورضاه، وبين ذمي يعطى عهدا.
    وقد توسع المسلمون في معنى الذمي فجعلوه يشمل أهل الكتاب من اليهود، والمسيحيين، وجميع أهل الشرك من المجوس، وعبدة الأوثان، وعبدة النيران والحجارة، والصابئة[44]، فكل هؤلاء يعاهدون وتؤخذ منهم الجزية، فقد أخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجزية من مجوس هجر[45] - شرق شبه جزيرة العرب -، وأخذها عمر بن الخطاب من مجوس فارس[46]. - والجزية كما صار واضحا ومستقرا في الأذهان مبلغ بسيط، دلالة على بذل الولاء للسلطة القائمة مقابل حمايتها لأهل ذمتها، وليست جزاء للمخالفين في الدين، وإلا فهل يعاقب المسلم على إسلامه بدفع الزكاة؟! وإذا قبل هؤلاء جميعا دفع الجزية كان من حقهم البقاء على عقائدهم وأحوالهم السابقة.
    وهاك نماذج لبعض المعاهدات التي نظمت العلاقات والالتزامات بين المسلمين وغيرهم. فقد جاء في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأهل إيلياء - بيت المقدس - ما يلي: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان؛ أعطاهم أمانا لأنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبانهم، سقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صلبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية، كما يعطي أهل المدائن، وعلى أن يخرجوا منها الروم واللصوص؛ فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض، فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم.
    وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله، وذمة رسوله، وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية، شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان"[47].
    2. تسامح صلاح الدين الأيوبي مع الصليبيين بعد فتح بيت المقدس:
    ماذا صنع السلطان صلاح الدين الأيوبي بالصليبيين الذين كانوا ببيت المقدس حين حررها من أسرهم؟
    لقد تم التسليم على أن يعطي كل رجل من الصليبيين عن نفسه عشرة دنانير مصرية، وكل امرأة خمسة دنانير، وكل صغير أو صغيرة دينارين، وقد عومل الأسرى من الشيوخ والنساء والأطفال معاملة تنطوي على كثير من السخاء والكرم والشهامة والسماحة؛ فقد من السلطان على ملكة مسيحية كانت مترهبة بالقدس بمن معها وما معها من المال والمجوهرات، كما سمح للبطريرك الأعظم أن يحمل معه ما قيمته مائتا ألف دينار من تحف ثمينة ومجوهرات كنسية، على حين بخل هذا البطريرك على بعض أتباعه ببعض هذا المال لفكهم من الأسر.
    وأمر السلطان المنادين بالمناداة في شوارع المدينة بمعافاة العاجزين عن الدفع، وأنهم طلقاء يذهبون أنى شاءوا، فاتجه بعض هؤلاء نحو إمارة طرابلس الصليبية؛ فأغلقها أميرها في وجوههم، واتجه بعض آخر نحو صور؛ فرفض حاكمها المركيز كنراد إدخالهم حتى لا يتحمل عبء إطعامهم وحمايتهم، ورغبت جماعة ثالثة في الانحدار إلى أوربا؛ فاعتذرت سفن التجار الإيطاليين عن حملهم بدون أجر، لولا إرغام السلطات الإسلامية لها على حملهم، وقد اجتمعت نسوة الفرسان الصليبيين المأسورين والمجروحين يسألن السلطان الرحمة والإشفاق والإنفاق عليهن، فأطلق لهن أزواجهن الأسرى، ومن فقدت زوجها خصص لها نفقة، ولم يضرب الرق في النهاية سوى على خمسة عشر ألفا من مجموع حوالي مائة ألف صليبي كانوا بالمدينة المقدسة[48].
    لك أن تقارن هذا بصنيع الصليبيين الشنيع بالمسلمين بالقدس حين احتلوها، تقارن هذه السماحة العظيمة، والإنسانية الرحبة بتلك المجازر البشرية سابقا، وبما يحدث الآن من أهوال بفلسطين المحتلة على أيدي الصهاينة؛ لتدرك مدى سماحة المسلمين - بدافع من مبادئ دينهم الحنيف بالأساس - على مسيرة تاريخهم تجاه الآخر، مقابل إساءة هذا الآخر وعدوانيته عندما تمكنه الفرصة، ولتعلم - دون مبالغة أو تعصب - أنه مهما قيل عن بعض ما في تاريخ المسلمين من مثالب - لكونهم بشرا كالبشرـ فإنه يسمو نبلا ويرقى إنسانية عن كل تواريخ الملل والأمم الأخرى عند المقارنة، والشواهد على ذلك موفورة في كل عصر.
    ولم تقتصر السماحة على الشعوب المسلمة قديمة العهد بالإسلام، التي تشبعت نفوسها بتعاليمه السامية، وإنما تمثلت أيضا في سلوكيات تلك الشعوب حديثة العهد به، التي كثيرا ما توصف بالعنف والشراسة والقسوة، كالمغول والترك؛ فعلى الرغم مما أظهره أوزبك خان (712 - 742 هـ /1313 - 1342م) - سلطان دولة مغول القبجاق، التي حكمت في أعالي بحر قزوين وجنوب روسيا الآن - من التحمس في نشر الإسلام، وتفانيه في الإخلاص له، فقد كان كثير التسامح نحو رعاياه من المسيحيين، فقد منحهم الحرية التامة في إقامة شعائرهم الدينية من غير أن يتعرض لهم أحد بسوء.
    ومن أهم الوثائق التي تسترعي الانتباه عن التسامح الإسلامي، ذلك العهد الذي منحه أوزبك خان للمطران بطرس سنة 1313م، وقد جاء فيه: "بمشيئة العلي القدير وعظمته ورحمته من أوزبك إلى أمرائنا كبيرهم وصغيرهم، إن كنيسة بطرس مقدسة لا يحل لأحد أن يتعرض لها، أو لأحد من خدامها، أو قسيسيها بسوء، ولا أن يستولي على شيء من ممتلكاتها، أو متاعها، أو رجالها، ولا أن يتدخل في أمورها؛ لأنها مقدسة كلها، ومن خالف أمرنا هذا بالتعدي عليها فهو أثيم أمام الله، وجزاؤه منا القتل، ولندع المطران ينعم بالأمان والبهجة، ولندعه يقرر نظم كل المسائل الكنسية بقلب سليم، وفؤاد عادل قويم. وإننا نعلن في حزم أننا نحن وأولادنا وأمراء دولتنا وولاة أقاليمنا لن نتدخل بأي حال في شئون الكنيسة، ولا شئون المطران، ولا في شئون المدن، والمراكز، والقرى، والأراضي المخصصة للصيد في البر والبحر، ولا في الأراضي، والمراعي، والصحاري، ولا في المدن والأماكن الداخلة في أملاكها الخاصة، ولا في الكروم والطواحين، ولا في مراعي الشتاء، ولا في أي شيء من ممتلكات الكنيسة وأمتعتها. ولندع بال المطران في راحة دائمة خاليا من كل تعب أو نصب، ولندع قلبه سليما قويما، ولندعه يصلي لله من أجلنا، ومن أجل أولادنا وأمتنا، حتى إذا وضع يديه على شيء مقدس ثبتت عليه التهمة، وباء بغضب من الله، وكان جزاؤه القتل، حتى يلقي مصيره الرعب والفزع في قلوب الآخرين. وإذا فرض الخراج أو غيره من الضرائب، كالرسوم الجمركية، والمكوس، وضرائب الطرق، والأراضي غير المزروعة، أو إذا أردنا حشد الجنود من بين رعايانا، فلا يجمع شيء بالقوة والإكراه من الكنائس التابعة للمطران بطرس، أو لأي أحد من رجال الدين التابعين له.
    وكل ما يؤخذ من رجال الدين بالقوة والإكراه يرد إليهم أضعافا ثلاثة، ولتكن شرائعهم، وكنائسهم، وأديارهم، ومعابدهم محل الاحترام والتعظيم، وكل من يتهم أو يحط من شأن هذا الدين فلن يقبل منه أي عذر ولا أن يطلب العفو، بل يكون جزاؤه القتل. وسوف يتمتع إخوة القسيسين والشمامسة الذين يجلسون إلى مائدة واحدة وفي دار واحدة، بنفس هذه المزايا والحقوق".
    ويمكن أن نستدل على أن هذا المرسوم لم يكن مجرد كلمات جوفاء، أو مجرد حبر على ورق، وأن التسامح الذي وعد به هؤلاء المسيحيون قد أصبح حقيقة واقعة، بهذه الرسالة التي بعث بها البابا يوحنا الثاني والعشرون سنة 1318م إلى الخان يشكر فيها الأمير المسلم على ما أظهره من عطف على رعاياه المسيحيين، ويثني على هذه المعاملة الطيبة التي كان أوزبك يعاملهم بها[49].
    ولا شك أن هذا التشابه الكبير - بل شبه المطابقة - بين نصوص كتب العهود الممنوحة لغير المسلمين من قبل الفاتحين المسلمين ومضامينها، إنما يعبر عن سياسة ثابتة للمسلمين في هذا الشأن، فهي تنص صراحة على تأمين الناس على أنفسهم وأموالهم، ومللهم وشرائعهم، وعلى حمايتهم من الاعتداء عليهم. وقد أشاعت هذه المعاهدات العادلة جوا من الطمأنينة والأمان عند السكان، وأزالت عن نفوسهم الخوف الذي يشعر به المغلوب في مثل هذه الظروف، ففي فتوح الإسلام الأمر مختلف، فالمسلمون - غالبا - لم يفتحوا البلاد ليدمروها ويذلوا أهلها، وإنما ليعمروها ويعزوا أهلها، ويحرروهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فهم أصحاب رسالة خالدة تحمل للناس العدل والإنصاف، وتحقق لهم الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية.
    ولكن الناس في البلاد المفتوحة - لأنهم لم يشهدوا فتحا كالفتح الإسلامي من قبل - كانوا في حاجة إلى وقت ليعرفوا أهداف المسلمين الحقيقية، فلما تكشفت لهم حقيقة الإسلام أسرعوا إلى اعتناقه بأعداد كبيرة، وقد حرص المسلمون على الوفاء بكل ما التزموا به، ولم يكن هذا من حسن السياسة فقط، وإنما هو واجب ديني يفرضه الإسلام على المسلمين، فالوفاء بالعهد ليس منة من المسلمين، ولكنه مسئولية واجبة عليهم؛ إعمالا لقوله تعالى: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا (34)) (الإسراء)، ولقول رسوله صلى الله عليه وسلم: «ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة»[50].


    [36]. الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد، ترجمة. د. حسن إبراهيم وآخرين، النهضة المصرية، القاهرة، 1970م، ص123.
    [37]. تاريخ الطبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، طـ5، 1987م، ج4، ص109. معالم تاريخ مصر الإسلامية، د. عبد الفتاح فتحي، د. جمال فوزي، دار الثقافة العربية، القاهرة، 1999م، ص40: 42.
    [38]. النوب: سكان البلاد الواقعة في جنوب مصر وشمال السودان.
    [39]. اللصوت: اللصوص.
    [40]. اليعاقبة: فرقة من النصارى، وهم أتباع يعقوب البراذعي الذي عاش في الشام في القرن السادس عشر الميلادي، يقولون باتحاد اللاهوت والناسوت، ويعرفون بـ "أصحاب الطبيعة الواحدة".
    [41]. السواد الأعظم: معظم الناس.
    [42]. انظر: محاضرات في النصرانية، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، ص143: 177. تاريخ العصور الوسطى، نورمان كانتور، ترجمة: د. علي الغمراوي، د. قاسم عبده، مكتبة سعيد رأفت، 1: 265.
    [43]. الطبقات الكبير، ابن سعد، الطبقات الكبير، ج7، ص373. الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد، ترجمة. د: حسن إبراهيم وآخرين، النهضة المصرية، القاهرة، 1970م، ص123، 124.
    [44]. كتاب الخراج، أبو يوسف، تحقيق: د. محمد إبراهيم البنا، دار الإصلاح، القاهرة، ص265.
    [45]. فتوح البلدان، البلاذري، تحقيق: د. صلاح الدين المنجد، النهضة المصرية، القاهرة، ص97. كتاب الأموال، ابن سلام، تحقيق: محمد خليل هراس، دار الفكر، 1981م، ص35.
    [46]. فتوح البلدان، البلاذري، تحقيق: د. صلاح الدين المنجد، النهضة المصرية، القاهرة، د. ت، ص98. العالم الإسلامي في العصر الأموي: دراسة سياسية، د. عبد الشافي عبد اللطيف، ط1، 1984م، ص373.
    [47]. تاريخ الطبري، ابن جرير الطبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، طـ5، 1987م، ج3، ص609.
    [48]. التاريخ الحربي المصري في عهد صلاح الدين، د. نظير سعداوي، النهضة المصرية، القاهرة، 1957م، ص192، 193.
    [49]. الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد، ترجمة. د: حسن إبراهيم وآخرين، النهضة المصرية، القاهرة، 1970م، 271: 273. المسلمون في القوقاز والبلقان زمن العثمانيين، د. جمال فوزي، دار الثقافة العربية، القاهرة، 2001، ص29، 30.
    [50]. صحيح: أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الخراج، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات (3054)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الجزية، باب لا يأخذ المسلمون من ثمار أهل الذمة ولا أموالهم شيئا بغير أمرهم إذا أعطوا ما عليهم ( 18511)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (445).



    التعديل الأخير تم بواسطة الشهاب الثاقب. ; 21-03-2016 الساعة 11:56 PM
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    هل الله يُعذب نفسه لنفسههل الله يفتدى بنفسه لنفسههل الله هو الوالد وفى نفس الوقت المولوديعنى ولد نفسه سُبحان الله تعالى عما يقولون ويصفون

    راجع الموضوع التالي


الرد على دعوى انتشار الإسلام بحد السيف وإساءة معاملة الآخر

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. الرد القاطع على شبهة انتشار الإسلام بالسيف
    بواسطة عبدالمعز في المنتدى الرد على الأباطيل
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 19-11-2010, 10:19 PM
  2. انتشار المسيحية بحد السيف
    بواسطة محمد مصطفى في المنتدى حقائق حول التوحيد و التثليث
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 11-05-2010, 08:00 PM
  3. الرد على شبهة انتشار الإسلام بالإكراه
    بواسطة المسلم الناصح في المنتدى الذب عن الأنبياء و الرسل
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 15-09-2007, 10:43 PM
  4. كتاب انتشار الإسلام بحد السيف
    بواسطة حاشجيات في المنتدى منتدى الكتب
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 15-09-2007, 03:29 AM
  5. الرد على شبهه انتشار الاسلام بحد السيف
    بواسطة عماد حمدى في المنتدى شبهات حول السيرة والأحاديث والسنة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 19-02-2007, 12:07 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

الرد على دعوى انتشار الإسلام بحد السيف وإساءة معاملة الآخر

الرد على دعوى انتشار الإسلام بحد السيف وإساءة معاملة الآخر