

-
طبيعة انتشار الديانات السابقة:
رغم محدودية طبيعتها إلا أن بعض الأديان السماوية، وكثيرا من الديانات الوضعية قد حاولت نشر مبادئها، ولكن كيف كانت طبيعة هذه المحاولات؟
شهد التاريخ أن العنف والقهر قد صاحبا غالبية هذه المحاولات، فقد فرض "أمنحتب" فرعون مصر على شعبه عبادة إله الشمس "آتون"، وأغلق معابد الآلهة الأخرى وحطم تماثيلها ومحا صورها واضطهد المخالفين، وقريب من هذا حدث مع البوذية والكونفوشيوسية في جنوب شرقي آسيا، وقبل حكم "قباذ" كسرى فارس لم يكن للمزدكية اعتبار، فتبناها وحاول فرضها على شعبه، كما نشر "دارا" الفارسي الزرادشتية حربا.
أما بالنسبة للديانات السماوية فقد جاء في العهد القديم: "حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. وإن لم تسالمك، بل عملت معك حربا، فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها، فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا. وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما، بل تحرمها تحريما". (التثنية 20: 10ـ 17).
وتطبيقا لهذا فقد حكى العهد القديم أيضا أن موسى - عليه السلام - قد أرسل اثني عشر ألف رجل لمحاربة أهل مدين، فحاربوهم وانتصروا عليهم، وقتلوا كل ذكر منهم، وسبوا نساءهم وأولادهم. وكان داود - عليه السلام - يقتل أعداءه ولا يبقي ذكرا ولا أنثى ولا طفلا، وكان أحيانا يمثل بمن يقتلهم "فكلم موسى الشعب قائلا: جردوا منكم رجالا للجند، فيكونوا على مديان ليجعلوا نقمة الرب على مديان. ألفا واحدا من كل سبط من جميع أسباط إسرائيل ترسلون للحرب. فاختير من ألوف إسرائيل ألف من كل سبط. اثنا عشر ألفا مجردون للحرب. فأرسلهم موسى ألفا من كل سبط إلى الحرب، هم وفينحاس بن ألعازار الكاهن إلى الحرب، وأمتعة القدس وأبواق الهتاف في يده. فتجندوا على مديان كما أمر الرب وقتلوا كل ذكر. وملوك مديان قتلوهم فوق قتلاهم: أوي وراقم وصور وحور ورابع أوي. خمسة ملوك مديان. وبلعام بن بعور قتلوه بالسيف. وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم، ونهبوا جميع بهائمهم، وجميع مواشيهم وكل أملاكهم. وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم، وجميع حصونهم بالنار. وأخذوا كل الغنيمة وكل النهب من الناس والبهائم". (العدد 31: 3 - 11).
وفي العهد الجديد لم يهمل الإنجيل الكلام عن الحروب، فقد جاء فيه نص صريح واضح على لسان السيد المسيح - عليه السلام - يقول: "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض. ما جئت لألقي سلاما، بل سيفا". (متى 10: 34).
وعلى أرض الواقع فإن المسيحية لم تكن لتنتشر - في البداية - لولا سلطة قسطنطين - الإمبراطور البيزنطي - الذي أراد أن يكون سيدها، وأما شارلمان فقد كان متحمسا للمسيحية، يؤمن أن من واجبه تحويل جيرانه إليها بالقوة، فقد ظل يحارب السكسونيين ثلاثا وثلاثين سنة بعنف ووحشية حتى أخضعهم وحولهم قسرا للمسيحية، وحين اعتنقها بعض المصريين نكلت بهم الدولة الرومانية الوثنية، ونفي كثيرون منهم أو أحرقوا أو ذبحوا قربانا للآلهة الوثنية. وفي سنة 304 م نكل الإمبراطور دقلديانوس بالقبط؛ فنفي بعضهم من مصر، ورمي بعضهم للوحوش الضارية في حلقة الألعاب على مشهد من الناس، وما زال القبط يذكرون هذا العصر ويسمونه "عصر الشهداء" ويتخذونه مبدأ لتقويمهم الخاص.
وكان المتوقع أن يستريح القبط من هذا التعنت وهذه الوحشية حين صارت المسيحية دين الدولة الرومانية الرسمي، لكنهم اصطلوا في العهد المسيحي للدولة بمثل ما عانوه في عهدها الوثني، فقد كانت الكنيسة البيزنطية على مذهب يسمى "الملكاني"، وهو يقول بطبيعتين للمسيح عليه السلام: إلهية وبشرية، بينما قالت كنيسة الإسكندرية المصرية بطبيعة واحدة.
وقد أصرت السلطة على نشر مذهبها، وأصر القبط على مذهبهم، فنكلت الدولة بهم، وصارت البلاد مسرحا للاختلافات الدينية، واقتتل الناس لأجل ذلك، وتاقت نفوس القبط للخلاص من ضغط الرومان.
فلم يكن عجبا أن رحب كثيرون منهم بالفاتحين المسلمين، فلا غرابة في قول المؤرخ المسيحي ميخائيل السوري: إن الله المنتقم الجبار أتى بأبناء إسماعيل من الصحراء لينقذوا الأمم من عسف الروم[25].
وفي روسيا انتشرت المسيحية على يد جماعة اسمها "إخوان السيف"، وقد دخلت المسيحية إليها على يد فلاديمير دوق كييف (985- 1015م)، وكان يضرب به المثل في الوحشية والشهوانية، وقد وصل إلى زعامة الدوقية فوق جثة أحد إخوته، وقد اقتنى من النسوة ثلاثة آلاف وخمسمائة، على أن هذا كله لم يمنع من تسجيله قديسا في الكنيسة في عداد القديسين بالكنيسة الأرثوذكسية؛ لكونه الرجل الذي جعل من الروس شعبا مسيحيا، وهذا كفيل بغفران ذنوبه، إذ أمر بتعميد الروس جميعا في مياه نهر الدنيبر[26].
ولم تكن الكشوف الجغرافية الأوربية في مطالع العصر الحديث خالصة لوجه الحضارة والمدنية، فقد ارتكب المنصرون الذين رافقوا هذه الرحلات من الأعمال البشعة مالا يليق بالإنسانية؛ فقد أبادوا - مثلا - الهنود الحمر السكان الأصليين لأمريكا، وكذا فعلوا في بقية مستعمراتهم الجديدة، فحين اكتشف الإسبان جزيرة هاييتي بالبحر الكاريبي أبدوا من ضروب الوحشية ما لم يسبق له مثيل، متفننين في تعذيب سكانها؛ بقطع أناملهم، وفقء عيونهم، وصب الزيت المغلي والرصاص المذاب في جراحهم، أو بإحراقهم أحياء على مرأى من الأسرى؛ ليعترفوا بمخابئ الذهب أو ليهتدوا إلى الدين. وقد حاول أحد الرهبان إقناع أحد زعماء سكان الجزيرة بالتنصر مخبرا إياه أنه إن تنصر سيذهب إلى الجنة، فسأله الزعيم الهندي - وكان مشدودا إلى المحرقة -: وهل في الجنة إسبانيون؟ فأجاب الراهب: طبعا، ما داموا يعبدون الإله الحق! فما كان من الهندي إلا أن قال: إذن أنا لا أريد أن أذهب إلى مكان أصادف فيه أبناء هذه الأمة المتوحشة[27].
ولعل من قبيل تحصيل الحاصل الإشارة إلى ما ارتكبه الصليبيون - الذين جاءوا إلى الشرق رافعين شعارا دينيا - من مذابح وفواجع، وأفجع منه ما حدث بالأندلس.
مصداقا لما سبق نورد شهادة باحث مسيحي، يقول فيها: "الإسلام كديانة سماوية لم يحاول إفناء أصحاب الديانات الأخرى أثناء الحروب معهم، فحينما ظهر المذهب البروتستانتي في أوربا على يد مارتن لوثر قامت الكنيسة الكاثوليكية اعتمادا على تفسير الفقرة (34) من الإصحاح العاشر من إنجيل متى تفسيرا على هواهم، وهي تقول على لسان السيد المسيح: "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا"، وعلى هذا الأساس ظهرت "نظرية الخلاص" في الملة الكاثوليكية، ومضمونها أن خلاص روح الإنسان لا يكون إلا بالإذعان التام لتعاليم الكنيسة الكاثوليكية فقط، وعلى أساس هذه النظرية ينظر الكاثوليك لأتباع المذاهب المسيحية الأخرى على أنهم هراطقة وملحدون، ويسمحون بتعذيبهم والتنكيل بهم، وهذا ما حدث في عام 1572م، حيث دعا الكاثوليك البروتستانت ضيوفا عليهم في باريس 24 أغسطس للبحث في تسوية وتقريب وجهات النظر بين الكاثوليك والبروتستانت، وحضر قادة الملة البروتستانتية إلى باريس، فما كان من الكاثوليك إلا أن سطوا على ضيوفهم البروتستانت في ظلمة الليل وقتلوهم جميعا، وجرت دماؤهم في الشوارع، وانهالت التهاني على تشارلز التاسع ملك فرنسا بغير حساب من بابا الفاتيكان، ومن ملوك الدول الكاثوليكية على هذه المجزرة البشرية.
ومثل هذا ما حدث للأقباط الأرثوذكس في مصر على يد الكاثوليك الرومان بعد "مؤتمر خلقدونيا" لبحث طبيعة السيد المسيح - وقد اختلفوا في ذلك - لذلك أقيمت المجازر البشرية، وكان يتم وضعهم - أي المخالفين الرومان - في زيت مغلي، ويتم كشط جلودهم وإغراقهم أحياء في الماء؛ لكي يتركوا الملة الأرثوذكسية، ووصل عدد القتلى أكثر من مليون قتيل أو شهيد مسيحي أرثوذكسي رفضوا ترك ملتهم، والانضمام إلى الملة الكاثوليكية"[28]. فالحرب إذن سنة كونية لم يخل منها تاريخ أمة بشرية، ولكن شتان بين مفهومها لدى المسلمين، ولدى غيرهم.
ثالثا. الحرب في الإسلام ضرورة وليست غاية لإزالة العقبات التي تحول بين الدعاة وبين عامة الشعب، ومن أهدافها حماية الدعاة من الأذى وحماية المستضعفين:
إن المتتبع لنصوص القرآن وأحكام السنة النبوية في الحروب يرى أن الباعث على القتال ليس فرض الإسلام دينا على المخالفين، ولا فرض نظام اجتماعي، بل كان الباعث على القتال في الإسلام هو دفع الاعتداء.
وها هنا قضيتان إحداهما نافية والأخرى مثبتة:
أما النافية فهي: أن القتال ليس للإكراه في الدين، ودليلها قوله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (البقرة: 256)، ولقد منع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا حاول أن يكره بعض ولده على الدخول في الإسلام[29]، وجاءت امرأة عجوز إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في حاجة لها، وكانت غير مسلمة، فدعاها إلى الإسلام فأبت فتركها عمر، وخشي أن يكون في قوله - وهو أمير المؤمنين - إكراه فاتجه إلى ربه ضارعا قائلا: "اللهم أرشدت ولم أكره"، وتلا قوله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)، ولقد نهى القرآن الكريم عن الفتنة في الدين، واعتبر فتنة المتدين في دينه أشد من قتله، وأن الاعتداء على العقيدة أشد من الاعتداء على النفس؛ ولذا جاء فيه صريحا: (والفتنة أشد من القتل) (البقرة: 191).
وأما القضية الثانية: وهي أن القتال لدفع الاعتداء، فقد نص عليها القرآن أيضا، إذ يقول: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194)) (البقرة)، وإن القرآن بمحكم نصوصه جعل الذين لا يقاتلون المؤمنين في موضع البر إن وجدت أسبابه، وجعل الذين يقاتلون هم الذين يعتدون؛ فقد جاء فيه: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (9)) (الممتحنة).
ومع أن القتال شرع لدفع الاعتداء لم يأمر القرآن بالحرب عند أول بادرة من الاعتداء، أو عند الاعتداء بالفعل إذا أمكن دفع الاعتداء بغير القتال؛ فقد جاء فيه: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين (126) واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون (127)) (النحل)[30].
وتحت عنوان لماذا شرع القتال؟ يقول د. المطعني: لم تكن شريعة الإسلام أوحدية في مشروعية القتال، فالقرآن يقص علينا أن كثيرا من الأنبياء مارسوا هذا الفن بإذن الله، فقال: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين (146)) (آل عمران). والتاريخ النبوي لبني إسرائيل حافل بالمعارك بين الأنبياء ومعارضيهم، فليس القتال إذا مسبة ولا نقيصة لا في الإسلام ولا في غير الإسلام من الرسالات السابقة.
ومشروعية القتال في الإسلام من الضرورات التشريعية التي يلجأ إليها المسلمون حين لا يكون من حيلة إلا القتال، وهو لم يشرع في الإسلام ليكون وسيلة للبطش والتجبر والقهر، وحبا في سفك الدماء، ونهب الأموال، والتشفي الأهوج، بل شرع لردع الظلم، وحماية الحق، ورعاية الفضيلة ولرد العدوان، شرع لإقرار التوازن في الأرض، وإشاعة السلام والأمن، والقضاء على الطغيان، وفي هذا الإطار كانت معارك المسلمين في عصر النبوة، وعصر الخلافة الراشدة، ومن سار سيرتهم من ولاة الأمور.
ومن الأهداف العليا في مشروعية القتال في الإسلام حماية الدين والعقيدة، ودحر الفتنة، وحماية المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، وكل أولئك مقاصد نبيلة، وقيم إنسانية مقدسة يجب أن تحمى وتصان. قال عز وجل: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (193)) (البقرة)، وقال تعالى: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا (75)) (النساء). فالقتال في الإسلام ضرورة، وإجراء استثنائي له موجباته ودواعيه، وهو كما قال أمير الشعراء شوقي مخاطبا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ليس القتال للإجبار على اعتناق الإسلام:
ومهما اتفقنا أو اختلفنا حول الأسباب التي أدت إلى مشروعية القتال في الإسلام: إباحة ووجوبا، فليس من بين الأسباب أن القتال شرع لإجبار الناس على الدخول في الإسلام، ونتحدى بأعلى صوت من يدعي ذلك من أعداء الإسلام وعملائهم، ونقول لهم:
أمامكم الإسلام قرآنا وسنة وإجماعا وتاريخا وسيرة، فهيا فأتونا بنص من كتاب الله أو من أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، أو من إجماع علمائه، أو واقعة من تاريخه وسيرته تدل على أن من أهداف القتال في الإسلام جبر الناس على الدخول فيه كراهية وقسرا.
والإسلام كله معروف كالشمس، فليس فيه جوانب علنية وأخرى سرية، فما الذي يعجزهم أن يقوموا بهذه التجربة؟ وصدق الشاعر الذي قال في أمثالهم:
يقولون أقوالا ولا يعلمونها
وإن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
وليس عقابا على الكفر:
وكذلك ليس في مشروعية القتال في الإسلام أن يكون عقابا على كفر من كفر، وإلحاد من ألحد باستثناء حد الردة، ولتوضيح هذا نقول: إن الكفر في تقدير الإسلام نوعان:
الأول: الكفر الذي ولد عليه صاحبه ونشأ عليه، أو الكفر الأصلي إذا صح هذا التعبير، وصاحبه لم يسبق له الدخول في الإسلام.
الثاني: الكفر الطارئ على صاحبه بعد الدخول في الإسلام.
فالنوع الأول لا يقاتل عليه صاحبه ولا يقتل، بل يكتفى بدعوته إلى الإسلام، فإن أسلم فحسن، وإن امتنع ترك وشأنه والله هو الذي يتولى حسابه، فالكافر الأصلي دمه مصون، والاعتداء عليه حرام كالاعتداء على ماله وعرضه.
أما النوع الثاني ففيه حد الردة الوارد في السنة وعمل الخلفاء الراشدين مع إجماعهم عليه.
ولو كان القتال والقتل عقابا على الكفر في النوع الأول لما تهاون فيه صاحب الرسالة، ولا الخلافة الراشدة من بعده، فكم من الاتفاقات ومعاهدات الصلح التي عقدوها مع الناس مع تركهم على عقائدهم دون أن يكرهوهم أو يقاتلوهم على كفرهم، ومن أوضح الأمثلة تصالح عمر بن الخطاب مع نصارى فلسطين، وامتناعه أن يصلي في الكنيسة حين أذن للصلاة مع دعوة قسيسها أن يصلي فيها، ولكن عمر - رضي الله عنه - امتنع عن الصلاة فيها قائلا: لو صليت لجاء المسلمون وقالوا عمر صلى هنا فأخذوا الكنيسة!
ثم تصالح عمرو بن العاص مع قبط مصر، وتركهم على عقيدتهم دون أي إكراه على تركها والدخول في الإسلام، بل إنه ساعد القبط على استقرار شئونهم الدينية باستدعاء البطريرك بنيامين الذي كان مختفيا هربا من بطش الرومان، وأعطاه الأمان ليرعى شئون الأقباط دينيا في مصر.
بل إن صاحب الدعوة نفسه - صلى الله عليه وسلم - كان يعقد معاهدات صلح، ويترك أهل البلاد على عقائدهم مهما كانت مخالفة للإسلام أصولا وفروعا، ولا تنس المعاهدة التي عقدها مع اليهود في المدينة عقب الهجرة مع تركهم على يهوديتهم، أحرارا في تأدية طقوسهم الدينية على مرأى ومسمع من المسلمين.
وبهذا تتبين لنا جوانب أخرى من سماحة الإسلام، أبرزها جانبان:
الأول: أن مع مشروعية القتال في الإسلام لم يكن من أهدافه حمل الناس بالقوة المسلحة على اعتناق الإسلام؛ لأن في القرآن العظيم نصا واضحا وصريحا ومحكما يمنع من هذا الهدف، وهو قوله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (البقرة:256).
الثاني: ومع مشروعية القتال في الإسلام فإنه يخلو - منهجا وسيرة - من أن يكون عقابا على الكفر الأصلي الذي ولد عليه صاحبه ونشأ، فالكفر أعظم الذنوب، ومع ذلك فالأمر فيه موكول إلى الله سبحانه يعاقب عليه في الآخرة بالخلود في النار.
أما في الدنيا فليس لأحد أن يعاقب صاحب الكفر الأصلي بالقتال عليه أو القتل، ودم الكافر كفرا أصليا مصون كماله وعرضه، إلا إذا حارب المسلمين، أو انضم لمن يحاربهم، فيكون هو الذي أهدر دم نفسه، ذلكم هو الإسلام، وتلك هي سماحته الرحيمة[31].
الحرب لإزالة الطواغيت:
فإذا كان طاغية أو ملك قد أرهق شعبه من أمره عسرا، وضيق عليه في فكره، وحال بينه وبين الدعوات الصالحة أن تتجه إليه، فإن حق صاحب الدعوة إذا كان في يده قوة أن يزيل تلك الحجز التي تحول بينه وبين دعوته ليصل إلى أولئك المستضعفين، وتخلو وجوههم لإدراك الحقائق الجديدة، وإعلان اعتناقها إن رأوا ذلك وآمنوا به، ولكن محمدا النبي الأمين - صلى الله عليه وسلم - لم يلجأ إلى ذلك ابتداء حتى لا يظن أحد أنه قاتل ليفرض دينه على الناس، أو ليكرههم عليه؛ ولذلك سلك طريقين:
أولهما: أن يرسل الدعوة الدينية إلى الملوك والرؤساء في عصره يدعوهم إلى الإسلام، ويحملهم إثمهم، وإثم من يتبعونهم إن لم يجيبوا دعوته، ولذلك جاء في كتابه إلى هرقل: "أسلم تسلم، وإلا فعليك إثم الأريسيين: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64)) (آل عمران)".
ثانيهما: أنه بعد هذه الدعوة الرسمية أخذ يعلن الحقائق الإسلامية ليتعرفها رعايا تلك الشعوب فيتبعها من يريد اتباعها، وقد اتبعها فعلا بعض أهل الشام ممن يخضعون لحكم الرومان، وعرف المصريون وغيرهم حقيقتها، حتى لم تعد مجهولة لمن يريد أن يتعرفها، وتسامعت بها البلاد المتاخمة لبلاد العرب.
العوامل التي أدت إلى قتال الروم في العهد النبوي:
1. أن الروم قد ابتدءوا فاعتدوا على المؤمنين الذين دخلوا في الإسلام من أهل الشام، فكان ذلك فتنة في الدين وإكراها للمسلمين على الكفر، وما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - ليسكت عن ذلك، وقد جاء لدعوة دينية، وإنه إن كان لا يحمل الناس على اعتناق الإسلام كرها، فلا يمكن أن يسكت عمن يحاولون أن يخرجوا أتباعه من دينهم كرها، إنه لا يريد أن يعتدي، ولا أن يعتدى عليه؛ ولذلك عد هذا العمل من جانب الرومان اعتداء على دينه وعليه؛ لأنه صاحب الدعوة فلا بد أن يزيل هذه الفتنة.
2. أن كسرى عندما بلغه كتاب الرسول هم بقتل من حملوه، وأخذ الأهبة[32] ليقتل النبي صلى الله عليه وسلم، واختار من قومه من يأتيه برأسه الشريف الطاهر، ولكن أنى لكسرى وأمثاله من الطغاة أن يمكنهم الله - عز وجل - من ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم - وقد علم بالأمر - ما كان ليسكت حتى يرتكب كسرى هذا الإثم، بل إنه القوي العادل الحصيف؛ ولذلك كان لا بد أن يصرعه وجيشه قبل أن يصرعه هو.
لهاتين الحقيقتين اتجه النبي - صلى الله عليه وسلم - لقتال الرومان والفرس لمنع الفتنة في الدين من أولئك الرومان ومحاربيهم، كما قاتل المشركين لمنع هذه الفتنة، إذ يقول القرآن: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (193)) (البقرة).
ويقول ابن تيمية في قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الروم: "وأما النصارى فلم يقاتل النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدا منهم، حتى أرسل رسله إلى قيصر وإلى كسرى، وإلى المقوقس والنجاشي، وملوك العرب بالشرق والشام، فدخل في الإسلام من النصارى وغيرهم من دخل، فعمد النصارى بالشام فقتلوا بعض من قد أسلم، فالنصارى هم الذين حاربوا المسلمين أولا، وقتلوا من أسلم منهم بغيا وظلما، فلما بدأ النصارى بقتل المسلمين أرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - سرية أمر عليها زيد بن حارثة، ثم جعفرا، ثم ابن رواحة، وهو أول قتال قاتله المسلمون بمؤتة من أرض الشام، واجتمع على أصحابه خلق كثير من النصارى، واستشهد الأمراء الثلاثة - رضي الله عنهم - وأخذ الراية خالد بن الوليد"[33].
وبهذا يتبين أن قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن إلا دفعا للاعتداء، والاعتداء الذي حدث في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على صورتين:
· أن يهاجم الأعداء النبي - صلى الله عليه وسلم - فيرد كيدهم في نحورهم.
· أن يفتن الأعداء المسلمين عن دينهم، ولا بد أن يمنع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الاعتداء على حرية الفكر والعقيدة.
وفي الصورتين نجد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يفرض دينه، ولا يكره أحدا عليه، ولكن يحمي حرية الاعتقاد التي هي مبدأ من مبادئه، إذ قد جاءت مقررة في القرآن، حيث يقول: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (البقرة: 256).
ولما جاءت الخلافة إلى أبي بكر، ثم عمر أرسلا الجيوش إلى كسرى وهرقل بعد أن خمدت الردة، وصارت الكلمة لله ولرسوله وللمؤمنين في جزيرة العرب.
رابعا. الوقائع التاريخية منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء من بعده تشهد بأن أحدا لم يكره على الدخول في الإسلام، وقد شهد بهذا العديد من مفكري الغرب من غير المسلمين:
تسامح إسلامي فريد عبر التاريخ:
واقعيا، وضعت اللبنات الأولى في صرح خصلة [34] التسامح في تاريخ المسلمين في ممارسات صاحب الدعوة نفسه، إلى جانب أقواله الداعية إليها، كموقفه من مشركي قريش، الذين آذوه وأخرجوه هو وآله وأصحابه حين فتح مكة؛ إذ جاءه أبو سفيان فقال: «يا رسول الله، أبيدت خضيراء قريش، لا قريش بعد اليوم. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن»[35]. وهذا نموذج وشاهد على تسامحه ورفقه صلى الله عليه وسلم.
[25]. الإمبراطورية البيزنطية، ترجمة: د. حسين مؤنس، محمد زايد، ص107. الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر، دمشق، ط6، 1425هـ/ 2004م، ص112.
[26]. الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر، دمشق، ط6، 1425هـ/ 2004م، ص113، 114 بتصرف يسير.
[27]. الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر، دمشق، ط6، 1425هـ/ 2004م، ص115، 116 بتصرف.
[28]. الإرهاب صناعة غير إسلامية، نبيل لوقا بباوي، دار البباوي للنشر، القاهرة، 2002م، ص86، 87.
[29]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/1985م، ج3، ص280.
[30]. نظرية الحرب في الإسلام، الإمام محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1425هـ/2004م، ص12، 13.
[31]. سماحة الإسلام في الدعوة إلى الله والعلاقات الإنسانية منهاجا وسيرة، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1414هـ/1993م، ص148: 151.
[32]. الأهبة: الاستعداد الكامل.
[33]. رسالة القتال، ابن تيمية، مجموع الرسائل النجدية، دار المعرفة، بيروت.
[34]. الخصلة: هي خلق في الإنسان يكون فضيلة أو رزيلة، والجمع خصال.
[35]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة (4724).
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة عبدالمعز في المنتدى الرد على الأباطيل
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 19-11-2010, 10:19 PM
-
بواسطة محمد مصطفى في المنتدى حقائق حول التوحيد و التثليث
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 11-05-2010, 08:00 PM
-
بواسطة المسلم الناصح في المنتدى الذب عن الأنبياء و الرسل
مشاركات: 9
آخر مشاركة: 15-09-2007, 10:43 PM
-
بواسطة حاشجيات في المنتدى منتدى الكتب
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 15-09-2007, 03:29 AM
-
بواسطة عماد حمدى في المنتدى شبهات حول السيرة والأحاديث والسنة
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 19-02-2007, 12:07 AM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات