النجومُ المضيئةُ والدررُ البهيجة .. المنثورةُ على طريقِ السيدة خديجة؛ صاحبةِ النسبِ والحسب والشرف والجمال والمال ..

بحثٌ في سيرة أم المؤمنين(*)
« الطاهرة خديجة بنت خويلد » رضي الله عنها
" توفيت خديجة فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أريت لخديجة بيتا من قصب لا صخب فيه ولا نصب قال وهو قصب اللؤلؤ"
« ... الحزن »

تمهيد :
تضيقُ الدنيا على رحابتها، وتطبقُ السماءُ على الأرضِ من جميع أطرافِها وكأنها سقطت عليها، وتنكسف الشمس وتغيب عن مدارها وكأنها تريد أن تنقض على رأس رائيها وينفلق القمر ويستتر فتتيه الخطوات على طريق الألم وتتعثر؛ حين نفقد عزيز نحتاجه ووليف نريد أن يسير معنا على درب الحياة لنصل إلى غايتنا فيقف المرء وحيداً فلا يجد آحدا بجواره فيشعر وكأن تدفق الدماء في عروقها يكاد يكون مستحيلاً فينغلق القلب على سويداءه وغرفِهِ وأجنحتِه فلا تدري أهو ينبض أم يخفق أم آخر نبض له ما تسمعه، وتنسد منافذ الهواء فلا يكاد يصل إلى الرئتين فيختنق الزمان قبل الإنسان وتئن النفس أنين الكليم أكثر مما يئن المذنب في نار الجحيم ويتوجع الألم وليس صاحبه السليم ويسري سم الوحدة في مفاصله فيقعده ويشل أجزاء جسده ويتملكه زعاف الغربة .... ولولا عقيدة بقضاءِ الخالقِ العادل و إيمان بقدرِهِ عقيدة إيمانية راسخة كالجبال العوالي الشمخ الثوابت في قلب المؤمن لأقدم على خلع نفسه من بين جوانحها وفسخ روحه من جعبتها وصدق السميع البصير العليم حين يقول " ومايشاؤون إلا أن يشاء الله "، بغياب الحبيب يمتلؤ المكان بدخان الفراق المنبعث من موقد الموت ... وتحترق الدمعة حين انبعاثها وتدحرجها فتحد أخدودا على خد الحزين كبركان منفجر يسيل لحيظة معرفة خبر الوفاة، ساعتها قد يغيب الإدراك ويتوقف التفكير وتتملك المرء حيرة خاصةً حين يحتاج الخليل خليله والمحب رفيقه والعاشق وليفه فشريط الخطوات على درب الحياة مازال معقودا على خصلاتها وضفائرها فإذا انفرط المعقود وانفك الشريط تقلب بمفرده في فراشه البارد وإن لم يرقد عليه وتبرز أشواك الوحدة على دربه وإن لم يمش عليه بعد، وهنا نحتاج لمواقف الرجال؛ وعزيمتهم التي لاتخور ... اقول هذا لأن الناس بأكملهم؛ كافرهم ورافضهم ومكذبهم ومعاندهم والعالمين بآنسهم وجنهم إلآ قليلاً في جانب على المعمورة يقفون ضده صلى الله عليه وآله وسلم ويأتمرون لإنهائه وتصفيته .. وامرأة واحدة بلكل كيانها ووجودها تقف على الجانب الآخر؛ امرأة واحدة؛ هي معه بقلبها قبل كلماتها، وبعقلها وبإدراكها تسانده على تبعة الرسالة التي يتحلمها بمفرده قبل احاسيسها وشجونها وعواطفها وموهبتها الجبارة كأنثى وقدراتها تفهم الرجل الذي هو قدرها ومصيرها أكثر من بقية الرجال الذين حوله وإن كانوا معه، وبمخزون عاطفة الأمومة التي فطرت المرأة عليها وحبها المتدفق كشلالات عظام الأنهار أعطت هذا الرجل عليه السلام كل كيانها وكل وجودها وعاطفتها وجوانب حياتها .. هكذا فهمت حين اطلعت على سيرتها العطرة؛ في حقيقة الأمر لا يريد الرجل جسد المرأة وإن رغب فيه لإشباع شهوة قد تبقى ذكراها لحيظات أو آمد ما بقدر ما يريد الرجل المرأة ككيان أنثى تنسجم معه فتشعره برجولته قبل أن يشعر بأنوثتها، تشعره أنها مَلِكَته التي توجت على رأس مملكته وامبراطوريته وإن سارت بجوار قدمه، الرجل الحق لا يريد الجسد بقدر ما يريد عاطفة الأنثى الجياشة التي تمتلكه وإن قالت له أنت أمير قلبي وملك روحي وأنت سيدي .
هي ... خديجة؛ أم المؤمنين التي إذا ألم به شئ توجه إليها فتأنسه وتواسيه؛ فتضعه بين القلب والفوأد وتجلسه بين الرمش والحدقة وتسقيه من شفتي حنانها قبل ان يرتوي من ماء زمزم امرأة ملئت كونه ودنياه رُزقَ منها الولد، فتحت له قلبها فافترشه وجلس بمفرده في ثناياه فرزق حبها اصغت إليه ففتحت عقلها قبل أذنها ليسمع قلب المحب كلمات الحبيب وأيُّ حبيبٍ إنه رسول رب العالمين وخاتم الأنبياء وآخر المرسلين وإمام القادة الغر المحجلين سيد ولد آدم آجمعين، امرأة نزل في قبرها ليضعها بيده الشريفة ليكن آخر العهد أن ترقد في انتظاره من جديد وضع رأسَها على تراب الأرض وكأنه يريد أن يفرش رموشه لها لتضع رأسها المتعب من أعباء الرسالة والدعوة وأيام المقاطعة، إنه رجل من طراز خاص ندر أن يوجد وإن طلبَ منا جميعاً أن يكون هو لنا قدوة، شهد له العدو قبل الصديق وشهد له المتربصون به السوء قبل المحبين والتابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، هذا الرجل عاشر امرأة من طراز خاص ؛ وليت نساء أمتي يدرسن سيرتهالعطرة، عرفها حق المعرفة كـــ "امرأة" وإن غابت بجسدها إلا أن عبيق حبها يملؤ أنفه ويتمركز بين خياشيمه تصعد أبخرة حبها من فوأده الذي وسع الدنيا برحمته للعالمين؛ وإن غابت بكلماتها لكنه يسمع صوتها ليل نهار ما فارقه نبرة الصوت الندي وما غاب عنه نظراتها، يتذكرها؛ أعتذر ... فهو ما نساها ... أقصد ... يردد اسمها كأنها تعيش معه في ذهابه ومجيئه . أن تفقد شيئاً غالياً مسألة تقلقك أما حين تفقد عمادك فقد تنهار قواك والمعين هو الله تعالى ...
قال الزبير :" ... ماتت على الصحيح(!) بعد المبعث بعشر سنين في شهر رمضان، وقيل : بثمان(!)، وقيل : بسبع(!)، فأقامت معه صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة على الصحيح، وقال ابن عبدالبر : أربعاً وعشرين سنة وأربعة أشهر، وسيأتي من حديث عائشة ما يؤيد الصحيح في أن موتها قبل الهجرة بثلاث سنين، وذلك بعد المبعث على الصواب بعشر سنين،و توفيت رضي الله عنها قبل معراج النبي صلى الله عليه وسلم، ولها من العمر خمس وستون سنة، ودفنت بالحجُون، لترحل من الدنيا بعدما تركت سيرةً عطرة، وحياة حافلةً، لا يُنسيها مرور الأيام والشهور والأعوام والدهور فرضي الله عنها وأرضاها .

قال عروة بن الزبير :" توفيت خديجة فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أريت لخديجة بيتا من قصب لا صخب فيه ولا نصب قال وهو قصب اللؤلؤ" [الألباني - السلسلة الصحيحة 7/1612، ثم قال:" حديث مرسل ورجاله ثقات]
قال ابن هشام :" وعاشت معه خمساً وعشرين سنة؛ وظلا معاً إلى أن توفاها الله وهي في الخامسة والستين، وكان عمره في الخمسين، وهي أطول فترة أمضاها النبي مع هذه الزوجة الطاهرة من بين زوجاته جميعاً، وهي - وإن كانت في سن أمِّه - أقرب زوجاته إليه؛ فلم يتزوج عليها غيرها طوال حياتها" .

وفاتها : العام الثالث قبل الهجرة [ 3 ق. هـ ~ العام الميلادي: 619 ب.م.]
جاء في الموسوعة التاريخية ما نصه :" 3 ق ه وفاة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها. تفاصيل الحدث: توفيت زوج النبي صلى الله عليه وسلم، خديجة التي آمنت به إذ كفر به الناس، وآوته إذ رفضه الناس، وصدقته إذ كذبه الناس، ورزقه الله منها الولد. وفي البخاري عن عروة بن الزبير أنه قال: (تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلاَثِ سِنِينَ، فَلَبِثَ سَنَتَيْنِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ وَنَكَحَ عَائِشَةَ وَهْيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ ثُمَّ بَنَى بِهَا وَهْيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ). قال ابن حجر :"هذا ـ الحديث ـ صورته مرسل لكنه لما كان من رواية عروة مع كثرة خبرته بأحوال عائشة يحمل على أنه حمله عنها..." والرواية في صحيح البخاري عن عروة بن الزبير / 3896 والحديث صحيح]
قال في الاستيعاب :" فأقامت معه صلى الله عليه وسلم أربعاً وعشرين سنة وتوفيت وهي بنت أربع وستين سنة وستة أشهر‏.‏ " وجاء في الاستيعاب قوله :" واختلف في وقت وفاتها فقال أبوعبيدة معمر بن المثنى ‏:‏ توفيت خديجة قبل الهجرة بخمس سنين ‏.‏
وقيل بأربع سنين ‏.‏
وكانت وفاتها قبل تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة ‏.‏
وقال قتادة ‏:‏ توفيت خديجة قبل الهجرة بثلاث سنين ‏.‏
قال أبو عمر‏ :‏ قول قتادة عندنا أصح لما حدثنا بن فتح قال حدثنا محمد ابن عبدالله بن زكريا النيسابوري بمصر قال ‏:‏ حدثنا عمي قال ‏:‏ حدثنا الميموني قال ‏:‏ حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبدالرزاق عن معمر عن هشام ابن عروة عن أبيه قال ‏:‏ توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بثلاث سنين أو نحو ذلك وروى يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت ‏:‏ توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة قال ‏:‏ ابن شهاب وذلك بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسبعة أعوام ‏.

ونميل إلى قول قتادة وعروة بن الزبير وهذا مانعتمده من الروايات .

وتشاء الأقدار أن يتزامن وقت وفاتها والعام الذي تُوفِّي فيه أبوطالب عم رسول الله، الذي كان أيضًا يدفع عنه ويحميه بجانب السيدة خديجة رضي الله عنها؛ ومن ثَمَّ فقد حزن الرسول ذلك العام حزنًا شديدًا حتى سُمي " عام الحزن "، وحتى خُشي عليه، ومكث فترة بعدها بلا زواج.
قال العسقلاني :" قال ابن إسحاق كانت وفاة خديجة وأبي طالب في عام واحد وكانت خديجة وزيد صدقا على الإسلام وكان يسكن إليها وقال غيره ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين على الصحيح وقيل بأربع وقيل بخمس وقالت عائشة ماتت قبل أن تفرض الصلاة يعني قبل أن يعرج بالنبي صلى الله عليه وسلم ويقال‏ :‏ كان موتها في رمضان وقال الواقدي توفيت لعشر خلون من رمضان وهي بنت خمس وستين سنة ثم أسند من حديث حكيم بن حزام أنها توفيت سنة عشر من البعثة بعد خروج بني هاشم من الشعب ودفنت بالحجون ونزل النبي صلى الله عليه وسلم في حفرتها ولم تكن شرعت الصلاة على الجنائز‏.‏ [ المرجع: "الإصابة في تميز الصحابة الجزء السابع " ]
قال ابن إسحاق ‏:‏ وتوفي أبوطالب وخديجة قبل مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بثلاث سنين قال ‏:‏ فلما توفي أبوطالب خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس من ثقيف المنعة ثم رجع من الطائف إلى مكة ‏.‏ وحدثنا عبدالله بن معاوية عن هشام ابن عروة أن عروة بن الزبير كتب إلى عبدالملك بن مروان أما بعد فإنك كتبت إلي تسألني عن خديجة بنت خويلد متى توفيت وإنها توفيت قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة بثلاث سنين ‏.‏
قال أبوعمر ‏:‏ يقال إنها كانت وفاتها بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام وقيل إنها كانت يوم توفيت خزيمة بنت جهم بن قيس العبدرية ‏.‏ من بني عبدالدار بن قصي هاجرت مع أبيها وأمها خولة أم حرملة إلى أرض الحبشة روى عنها أبوالسفر سعيد بن محمد ذكرها ابن السكن في الصحابيات وليس في حديثها دليل على صحبتها ولا على رؤيتها ‏.‏المرجع: الاستيعاب كتاب النساء وكناهنَّ ".
عاشت السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها حياة حافلة بالعطاء حتي وافتها المنية في العاشر من رمضان قبل هجرة المصطفي بثلاثة أعوام ولها من العمر 65 عاماً ودفنت في الحجون؛ وهو مكان مرتفع بمكة " مقابر المعلاة "، وفي أحلك فترات الدعوة وأشد مراحل الاضطهاد للنبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه من المؤمنين.
قال الواقدي :" خرجوا من شعب بني هاشم قبل الهجرة بثلاث سنين، فتوفي أبو طالب، وقبله خديجة بشهر وخمسة أيام. [سير أعلام النبلاء ( 3 / 57 ) ].
ونزل رسول الله في قبرها ولم تكن صلاة الجنازة فرضت بعد وحزن عليها رسول الله حزناً شديداً .تاقت روح السيدة خديجة رضي الله عنها إلى بارئها.
وجاء في أسد الغابة في معرفة الصحابة :تحت عنوان "بداية ذكر وفاة خديجة وأبي طالب وذهاب رسول الله إلى الطائف وعودته"
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏ :" ‏مازالت قريش كاعة عني حتى مات عمي أبو طالب ‏"‏ ‏.‏ وفي السنة العاشرة أول ذي القعدة وقيل‏ :‏ النصف من شوال توفي أبوطالب وكان عمره بضعاً وثمانين سنة، ثم توفيت بعده خديجة بثلاثة أيام، وقيل بشهر، وقيل ‏:‏ كان بينهما شهر وخمسة أيام، وقيل ‏:‏ خمسون يوماً ودفنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجون، ولم تكن الصلاة على الجنائز يومئذ ، وقيل ‏:‏ إنها ماتت قبل أبي طالب وكان عمرها خمساً وستين سنة، وكان مقامها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما تزوجها أربعاً وعشرين سنة وستة أشهر ، وكان موتها قبل الهجرة بثلاث سنين وثلاثة أشهر ونصف ، وقيل‏ :‏ قبل الهجرة بسنة ، والله أعلم ‏.‏

قال عروة ‏:‏ ما ماتت خديجة إلا بعد الإسراء، وبعد أن صلت الفريضة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما اشتد بأبي طالب مرضه دعا بني عبدالمطلب فقال‏ :‏ إنكم لن تزالوا بخير ما سمعتم قول محمد واتبعتم أمره؛ فاتبعوه وصدقوه ترشدوا‏ .‏
أخبرنا عبيدالله بن أحمد بإسناده عن يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال ‏:‏ ثم إن خديجة وأبا طالب ماتا في عام واحد؛ فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب، وكانت خديجة وزير صدق على الإسلام، وكان يسكن إليها، ولم يتزوج عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت ‏.‏ [المرجع: أسد الغابة ]

ذكرتُ المراجع والأقوال إذ أحياناً يتعذر التوفيق بين الروايات والله اعلم بالصواب.

يتبع إن شاء الله تعالى

17 ذو القعدة 1431 هـ ~ 25 أكتوبر 2010م.
ــــــــ
الهوامش :
قال عبدالله بن عباس:" لما توفيت خديجة بنت خويلد بمكة جاءه جبريل عليه السلام بصورة عائشة في سرقة حرير أخضر فقال يا محمد هذه عائشة زوجتك في الدنيا وزوجتك في الآخرة عوضا عن خديجة بنت خويلد" [ ابن عدي في كتابه الكامل في الضعفاء : 8/66 ، حديث: باطل]
وجاء الحديث بصياغة آخرى فقد ورد :" لما توفيت خديجة بنت خويلد بمكة جاء جبرائيل عليه السلام بصورة عائشة في سرقة حرير أخضر فقال : يا محمد هذه عائشة زوجتك في الدنيا وزوجتك في الآخرة عوضا عن خديجة بنت خويلد " . [الراوي: عبدالله بن عباس رواه ابن القيسراني في كتابه: ذخيرة الحفاظ - 4/1970 ، مِن رواة الحديث: موسى بن عبدالرحمن منكر الحديث عن الثقات.]
ـــ
يتبع بإذنه سبحانه وتعالى