بسم الله الرحمن الرحيم

( 1 )

فضلاً عن أن الإسلام ، مارس أدقّ هندسة وأحكمها، لتحقيق الوفاق بين الإنسان وذاته، وبينه، وبين المجتمع، والعالم، والكون، فإنه جعل كل موقف، يستند إلى أكثر من خط، أو ضمان، لكي يتحقق، ويتأكد، ويتمكن، من الاستمرار لصالح الإنسان.

إنه - ابتداءً - يعتمد خطين أساسين: الذات، والموضوع، فيغذّي الخط الأول بالتوجيه، ويتعامل مع الخط الثاني بالتشريع.. يمنح الخط الأول عمقًا عقيديًّا، ويمنح الخط الثاني، شبكة من المعطيات التشريعية. ثم هو فضلاً عن هذا وذاك، يعيد صياغة البيئة العامة، والعلاقات الاجتماعية، بما يعين على أداء المهمة، ويمنح الممارسة المطلوبة، المزيد من الضمانات.

لكأننا إزاء مثلث، أحكمت أضلاعه، تتعاضد فيه، وتتكامل أطراف المساحة كافة، ما بين الفردي، والجماعي، والتنظيمي، لكي تؤدي جميعًا مهمتها في تيسير الحياة، على هدي الإسلام ، وتمكينها من مجابهة المعضلات والتحديات، بأكبر قدر من التماسك والمرونة في الوقت نفسه.

وعبر عصر الرسالة، شهدت عملية بناء الحياة الإسلامية ، مرحلتين أساسيتين، تمثلت أولاهما، بالعصر المكي، وتمثلت أخراهما بالعصر المدني. ففي العصر الأول الذي استغرق زهاء الثلاثة عشر عامًا، كان الجهد، ينصب على بناء الإنسان، المسلم بالعقيدة، وتوجيهه وفق مطالبها ومفرداتها.. بينما مضى الجهد في العصر المدني، الذي استغرق زهاء السنوات العشر، إلى بناء المجتمع والدولة، بالتشريع، مع استمرار الخط الأول، لكي ما يلبث البنيان، أن ينهض قائمًا، واضحًا، متميزًا، متماسكًا، قديرًا على الاستمرار، بتجذّره في العقيدة، وتلقيه تشريعات السماء، وشروح وإضافات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .

ومع البنيان العقيدي، والتشريعي، كانت تجري عملية بناء اجتماعي شامل، أو بعبارة أدق: عملية تشكيل جديد، للبيئة العامة، التي تحميها الدولة، ويتحرك فيها الإنسان المسلم.

ولقد انعكس هذا التركيب الثلاثي، على جل الممارسات الحيوية في الحياة الإسلامية، بحيث إن أية ممارسة، كانت تجد ضماناتها، ومقوماتها، في السياقات الثلاثة، الأمر الذي يجعلها قديرة، على التحقق بأكبر قدر من "الإسلامية"، و "التوازن"، و "العطاء".

إن البعد التوجيهي، يجذّر الممارسة في المنظور العقيدي، ويربطها بالله سبحانه، الأمر الذي يمنحها قدرة أشدّ، على الديمومة والفاعلية، في إطار الإسلامية. ذلك أن أية مخالفة عنها، أي ميل، أو تزوير في تفاصيلها، وجزئياتها، سيؤول إلى غضب الله سبحانه، وإلى عقابه، الذي يخشاه المسلم الجاد.. وفي المقابل، فإن التزام مطالبها، والتحقق بها، والإحسان في تنفيذها، سيؤول إلى رضى الله، الذي يطمح إليه المؤمن الجاد، كهدف عزيز، لكل ما يقوم به، وينفّذه في واقع الحياة..

والبعد التشريعي ينظم الممارسة، ويضع ضوابطها، ويرسم مسالكها، بالعلم الإلهي، الذي لا يخفى عليه شيء، في الأرض ولا في السماء، والذي تجيء معطياته التنظيمية، وهي تنطوي على كل إيجابيات الجهد التشريعي، توازنًا، وتكاملاً، ومرونة، ودقة، وإحكامًا، وانسجامًا مع مطالب الإنسان، وتوافقًا مع السنن والنواميس.

والبعد الاجتماعي، يتكفل بتهيئة البيئة، أو المناخ المناسب، للممارسة بأكبر قدر من الإسلامية ، عن طريق رسم وتصميم العلاقات الموزونة المرنة، بين كافة أطراف الحياة الاجتماعية، وسائر مفرداتها ومقوماتها.

بعد ذلك سيجد المسلم نفسه، يتحرك لأداء هذه الممارسة، أو تلك، والتعامل مع مطالبها، وقد تهيأت له كافة الضمانات، والدفوع والروادع والقدرات والمحفزات، ما بين توجيه بقوة العقيدة، المتجذرة في الأعماق، وتنظيم، بقوة التشريع القادم من السماء، وتيسير للبيئة، أو المناخ العام، الذي يجعل الممارسة أكثر قدرة على التحقق في واقع الحياة اليومية، دون أن تفقد شيئًا من مطالبها الإيمانية، أو نبضها الإسلامي.