

-
النجومُ المضيئةُ والدررُ البهيجة .. المنثورةُ على طريقِ السيدة خديجة؛ صاحبةِ النسبِ والحسب والشرف والجمال والمال ..
بحثٌ (*) في سيرة أم المؤمنين
« الطاهرة خديجة بنت خويلد » رضي الله عنها
إسلام السيدة خديجة
تمهيد :
توجد شخصيات لم تسطر التاريخ أو تكتبه فحسب أو تتعايش معه فقط بل صنعته وشاركت في صياغته؛ من هذه الشخصيات السيدة خديجة رضي الله عنها ؛ أم المؤمنين أم القاسم والفاطمة الزهراء البتول ؛ سيدة نساء الجنة والعالمين، ونخرجُ من الروايات التي ذكرها كُتَّاب السير بنتيجة وهي أن السيدة خديجة اختارت برغبتها الزواج بالشاب الأمين محمد، وهي الزوج التي مكثت مع الشاب القوي الأمين خمسة عشر عاما قبل البعثة وكانت نِعم المرأة الصالحة التي تقف بجوار زوجها وكان لها دورا متميزا عند البعثة، كانت خديجة رضي الله عنها قد ألقى الله في قلبها صفاء الروح، ونور الإيمان، والاستعداد لتقبُّل الحق، كان قد مضى على زواجها من محمد 15 عاماً، وقد بلغ محمد الأربعين من العمر، وكان قد اعتاد على الخلوة في غار "حراء" ليتأمل ويتدبر في الكون . قال السهيلي في روضه الأنف :" وَآمَنَتْ بِهِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَصَدّقَتْ بِمَا جَاءَهُ مِنْ اللّهِ وَوَازَرَتْهُ عَلَى أَمْرِهِ وَكَانَتْ أَوّلَ مَنْ آمَنَ بِاَللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَصَدّقَ بِمَا جَاءَ مِنْهُ فَخَفّفَ اللّهُ بِذَلِكَ عَنْ نَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلّمَ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا مِمّا يَكْرَهُهُ مِنْ رَدّ عَلَيْهِ وَتَكْذِيبٍ لَهُ فَيَحْزُنُهُ ذَلِكَ إلّا فَرّجَ اللّهُ عَنْهُ بِهِ إذَا رَجَعَ إلَيْهَا، تُثَبّتُهُ وَتُخَفّفُ عَلَيْهِ وَتُصَدّقُهُ وَتُهَوّنُ عَلَيْهِ أَمْرَ النّاسِ؛ رَحِمَهَا اللّهُ تَعَالَى ". فلنتبعها عن كثب .
بداية البعثة ودور (*) أم المؤمنين خديجة في تثبيت النبي المصطفى صلوات الله عليه وآله وسلم والوقوف بجواره بما آتاها الله من رجحان عقل وقوة شخصية ليبشّره ورقة بن نوفل باصطفاء الله له خاتماً للأنبياء عليهم السلام، وفي ليلة القدر، عندما نزل الوحى على محمدٍ واصطفاه الله ليكون خاتم الانبياء والمرسلين كما :
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ:« أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ : الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ (1) فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ (2) وَهُوَ فِيغَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ (3) فَقَالَ :" اقْرَأْ "، قَالَ :" مَا (4) أَنَا بِقَارِئٍ "، قَالَ :" فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي " ، فَقَالَ :" اقْرَأْ "، قُلْتُ :" مَا أَنَا بِقَارِئٍ "، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ :" اقْرَأْ "، فَقُلْتُ :" مَا أَنَا بِقَارِئٍ " (5)، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي (6) الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ [ 96 / العلق / الآية - 1 - 5 ] فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ :" زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي "؛ فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ (7) فَقَالَ لِخَدِيجَةَ :" لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي " (8) وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ " .
فبماذا ردت السيدة الكريمة على زوجها في هذا الموقف العصيب وكيف تصرفت!! ؛ فلنسمع لقولها بعد أن طمأنته قائلةً خَدِيجَةُ له :" كَلَّا؛ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ (9) اللَّهُ أَبَدًا : إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ (10) فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِالْعُزَّى؛ ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ (11) فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ (12) مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ :" يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ " (13)، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ :" يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى !؟" فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ :" هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى (14)، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا (15) لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ !"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ :" أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ !! "(16)، قَالَ :" نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ (17) وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا "، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ (18) وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ .. حتى حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيما بلغنا [هكذا يقول البخاري]، حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدى له جبريل، فقال : يا محمد، إنك رسول الله حقا . فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك .» [ هذه رواية البخاري في صحيحه ] .
انها حالة نادرة الحدو ث وتحتاج لتثبت وموقف السيدة خديجة؛ زوج النبي وتصرفها يمتاز بالتثبت من أهل العلم ومراجعة ما يقولون .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ :" بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ [ قاعد] عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَرُعِبْتُ مِنْهُ (19) [فجئثت منه،حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي ] فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ :" زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي " [وجاء عند البخاري والشوكاني :" فدثروني ، وفي رواية للبخاري أيضا (فزملوني) ] فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى :
(20) يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ .... إِلَى قَوْلِهِ ... وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ
قبل أن تفرض الصلاة ، - قال أبو سلمة : وهي الأوثان التي كان أهل الجاهلية يعبدون، فَحَمِيَ الْوَحْيُ (21) وَتَتَابَعَ. تَابَعَهُ (المقصود يَحْيَى بْن بُكَيْر) عَبْدُاللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَأَبُو صَالِحٍ وَتَابَعَهُ هِلَالُ بْنُ رَدَّادٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ بَوَادِرُهُ (22) [ هذه الرواية جاءت أيضاً في صحيح البخاري ] .
يروي ابن حجر العسقلاني روايةً في الإصابةِ فيقول :" وعند أبي نعيم في الدلائل بسند ضعيف عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان جالساً معها (أي السيدة أم المؤمنين خديجة) إذا رأى شخصاً بين السماء والأرض فقالت له خديجة:" ادن مني فدنا منها " ، فقالت :" تراه!" ، قال :" نعم "، قالت :" أدخل رأسك تحت درعي "، ففعل فقالت :" تراه ! "قال :" لا "، قالت :" أبشر ؛ هذا ملك إذ لو كان شيطاناً لما استحيا ". [ضعيف]
وجاء في فتح الباري لابن حجر العسقلاني أيضاً من رواية إسماعيل بن ابي حكيم : أن خديجة قالت :" أي ابن عم [ ارادت المصطفى الهادي ] أتستطيع أن تخبرني بصاحبك إذا جاء ؟"، قال :" نعم"، فجاءه جبريل، فقال :" يا خديجة، هذا جبريل"، قالت:" قم فاجلس على فخذي اليسرى"، ثم قالت :" هل تراه ؟" قال :" نعم"، قالت:" فتحول إلى اليمنى كذلك"، ثم قالت :" فتحول فاجلس في حجري كذلك"، ثم ألقت خمارها وتحسرت وهو في حجرها وقالت :" هل تراه ؟" قال :"لا" ، قالت :" اثبت"، فوالله إنه لملك وما هو بشيطان " . [ الحديث مرسل ] (23) .
وجاء أيضا عند ابن حجر العسقلاني في فتح الباري من رواية أبي ميسرة :" أنه صلى الله عليه وآله وسلم قصَّ على خديجة ما رأى في المنام فقالت:" له أبشر فإن الله لن يصنع بك إلا خيراً"، ثم أخبرها بما وقع له من شق البطن وإعادته، فقالت له:" أبشر إن هذا والله خير "، ثم استعلن له جبريل فذكر القصة فقال لها:" أرأيتك الذي كنت رأيت في المنام فإنه جبريل استعلن لى بأن ربى أرسله إلى" ، وأخبرها بما جاء به فقالت:" أبشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا فاقبل الذي جاءك من الله فإنه حق وأبشر فإنك رسول الله حقا" . [ الحديث مرسل ]
وتوجد رواية آخرى جاءت في كتاب " السيرة النبوية لابن هشام ج1 ص 230 " : قال ابن إسحاق:"عن خديجة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله:" أي ابن عم؛ أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟" قال:" نعم"، فجاءه جبريل عليه السلام، فقال رسول الله لخديجة:" يا خديجة هذا جبريل قد جاءني"، قالت:" قم يا ابن عم فاجلس على فخذي اليسرى"؛ فقام رسول الله فجلس عليها، قالت:" هل تراه؟" قال :" نعم"، قالت :"فتحول واجلس على فخذي اليمنى"; فتحول رسول الله فجلس على فخذها اليمنى، فقالت:" هل تراه؟" قال:" نعم"، قالت:" فتحول واجلس في حجري"، فتحول رسول الله فجلس في حجرها، قالت :" هل تراه؟" قال:" نعم"، [وفي رواية أخرى] أدخلت رسول الله بينها وبين درعها، ثم ألقت خمارها عن وجهها، ورسول الله جالس في حجرها، ثم قالت:" له هل تراه؟" قال:" لا"، فذهب عند ذلك جبريل، فقالت:" يا ابن عم؛ اثبت وأبشر ؛ فو الله إنه لملك وما هذا بشيطان".وهذا حديث لا يثبت.
ثم رآه بأجياد فنزل إليه وبسط له بساطاً وبحث في الأرض فنبع الماء فعلمه جبريل كيف يتوضأ فتوضأ وصلى ركعتين نحو الكعبة وبشره بنبوته وعلمه « اقرأ باسم ربك » ، ثم انصرف فلم يمر على شجر ولا حجر إلا قال :" سلام عليك يا رسول الله " ، فجاء إلى خديجة فأخبرها فقالت :" أرني كيف أراك فأراها فتوضأت كما توضأ ثم صلت معه وقالت أشهد أنك رسول الله " . ثم يقول في الإصابة في تميز الصحابة، الإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني في نهاية الرواية ؛ قلت :" وهذا أصرح ما وقفت عليه في نسبتها إلى الإسلام " .
... يتبع إن شاء الله تعالى
(*) الصفحة السادسة من ملف الهدى
12 شوال من العام الهجري 1431 ~ 19 سبتمبر من العام الميلادي 2010 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش والمراجع :
(1. ) جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري للإمام ابن حدجر العسقلاني :" بِمَعْنَى يَتَحَنَّف، أَيْ : يَتَّبِع الْحَنِفِيَّة وَهِيَ دِين إِبْرَاهِيم، وَالْفَاء تُبْدَل ثَاء فِي كَثِير مِنْ كَلَامهمْ . وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن هِشَام فِي السِّيرَة " يَتَحَنَّف " بِالْفَاءِ أَوْ التَّحَنُّث إِلْقَاء الْحِنْث وَهُوَ الْإِثْم، كَمَا قِيلَ يَتَأَثَّم وَيَتَحَرَّج وَنَحْوهمَا . قَوْله :" وَهُوَ التَّعَبُّد " هَذَا مُدْرَج فِي الْخَبَر، وَهُوَ مِنْ تَفْسِير الزُّهْرِيّ كَمَا جَزَمَ بِهِ الطِّيبِيُّ وَلَمْ يَذْكُر دَلِيله، نَعَمْ فِي رِوَايَة الْمُؤَلِّف مِنْ طَرِيق يُونُس عَنْهُ فِي التَّفْسِير مَا يَدُلّ عَلَى الْإِدْرَاج . قَوْله :" اللَّيَالِي ذَوَات الْعَدَد" يَتَعَلَّق بِقَوْلِهِ يَتَحَنَّث، وَإِبْهَام الْعَدَد لِاخْتِلَافِهِ، كَذَا قِيلَ . وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُدَد الَّتِي يَتَخَلَّلهَا مَجِيئُهُ إِلَى أَهْله، وَإِلَّا فَأَصْل الْخَلْوَة قَدْ عُرِفَتْ مُدَّتهَا وَهِيَ شَهْر، وَذَلِكَ الشَّهْر كَانَ رَمَضَان رَوَاهُ اِبْن إِسْحَاق .
(2. ) وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة قَالَتْ :" إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ كَانَ أَوَّل شَأْنه يَرَى فِي الْمَنَام، وَكَانَ أَوَّل مَا رَأَى جِبْرِيل بِأَجْيَاد، صَرَخَ جِبْرِيل :" يَا مُحَمَّد " فَنَظَرَ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَرَفَعَ بَصَره فَإِذَا هُوَ عَلَى أُفُق السَّمَاء فَقَالَ " يَا مُحَمَّد ، جِبْرِيل " فَهَرَبَ فَدَخَلَ فِي النَّاس فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ عَنْهُمْ فَنَادَاهُ فَهَرَبَ . ثُمَّ اِسْتَعْلَنَ لَهُ جِبْرِيل مِنْ قِبَل حِرَاء، فَذَكَر قِصَّة إِقْرَائِهِ ( اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك ) وَرَأَى حِينَئِذٍ جِبْرِيل لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ يَاقُوت يَخْتَطِفَانِ الْبَصَر، وَهَذَا مِنْ رِوَايَة اِبْن لَهِيعَة عَنْ أَبِي الْأَسْوَد، وَابْن لَهِيعَة ضَعِيف . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ وَجْه آخَر عَنْ عَائِشَة مَرْفُوعًا " لَمْ أَرَهُ - يَعْنِي جِبْرِيل - عَلَى صُورَته الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا إِلَّا مَرَّتَيْنِ "وَبَيَّنَ أَحْمَد فِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود أَنَّ الْأُولَى كَانَتْ عِنْد سُؤَاله إِيَّاهُ أَنْ يُرِيه صُورَته الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا، وَالثَّانِيَة عِنْد الْمِعْرَاج . وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيق مَسْرُوق عَنْ عَائِشَة " لَمْ يَرَ مُحَمَّد جِبْرِيل فِي صُورَته إِلَّا مَرَّتَيْنِ : مَرَّة عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهَى، وَمَرَّة فِي أَجْيَاد " وَهَذَا يُقَوِّي رِوَايَة اِبْن لَهِيعَة، وَتَكُون هَذِهِ الْمَرَّة غَيْر الْمَرَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَضُمّهَا إِلَيْهِمَا لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُون رَآهُ فِيهَا عَلَى تَمَام صُورَته، وَالْعِلْم عِنْد اللَّه تَعَالَى .
(3. ) وَوَقَعَ فِي السِّيرَة الَّتِي جَمَعَهَا سُلَيْمَان التَّيْمِيُّ فَرَوَاهَا مُحَمَّد بْن عَبْدالْأَعْلَى عَنْ وَلَده مُعْتَمِر بْن سُلَيْمَان عَنْ أَبِيهِ أَنَّ جِبْرِيل أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ فِي حِرَاء وَأَقْرَأهُ [ اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك ] ثُمَّ اِنْصَرَفَ، فَبَقِيَ مُتَرَدِّدًا، فَأَتَاهُ مِنْ أَمَامه فِي صُورَته فَرَأَى أَمْراً عَظِيماً .
(4. ) " مَا " نَافِيَة، إِذْ لَوْ كَانَتْ اِسْتِفْهَامِيَّة لَمْ يَصْلُح دُخُول الْبَاء، وَإِنْ حُكِيَ عَنْ الْأَخْفَش جَوَازه فَهُوَ شَاذّ، وَالْبَاء زَائِدَة لِتَأْكِيدِ النَّفْي، أَيْ : مَا أُحْسِنُ الْقِرَاءَة . [العسقلاني]
(5. ) فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا قِيلَ لَهُ ( اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك ) أَيْ : لَا تَقْرَؤُهُ بِقُوَّتِك وَلَا بِمَعْرِفَتِك؛ لَكِنْ بِحَوْلِ رَبّك وَإِعَانَته؛ فَهُوَ يُعَلِّمك، كَمَا خَلَقَك وَكَمَا نَزَعَ عَنْك عَلَق الدَّم وَغَمْز الشَّيْطَان فِي الصِّغَر، وَعَلَّمَ أُمَّتك حَتَّى صَارَتْ تَكْتُب بِالْقَلَمِ بَعْد أَنْ كَانَتْ أُمِّيَّة، ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيّ . وَقَالَ غَيْره : إِنَّ هَذَا التَّرْكِيب - وَهُوَ قَوْله مَا أَنَا بِقَارِئ - يُفِيد الِاخْتِصَاص . وَرَدَّهُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يُفِيد التَّقْوِيَة وَالتَّأْكِيد، وَالتَّقْدِير : لَسْت بِقَارِئ أَلْبَتَّةَ . فَإِنْ قِيلَ : لِمَ كَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثًا ؟ أَجَابَ أَبُو شَامَة بِأَنْ يُحْمَل قَوْله أَوَّلًا " مَا أَنَا بِقَارِئ " عَلَى الِامْتِنَاع؛ وَثَانِيًا عَلَى الْإِخْبَار بِالنَّفْيِ الْمَحْض؛ وَثَالِثًا عَلَى الِاسْتِفْهَام . وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ فِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد فِي مَغَازِيه عَنْ عُرْوَة أَنَّهُ قَالَ : كَيْفَ أَقْرَأ وَفِي رِوَايَة عُبَيْد بْن عُمَيْر عَنْ اِبْن إِسْحَاق : مَاذَا أَقْرَأ ؟ وَفِي مُرْسَل الزُّهْرِيّ فِي دَلَائِل الْبَيْهَقِيّ :" كَيْفَ أَقْرَأ ؟" كُلّ ذَلِكَ يُؤَيِّد أَنَّهَا اِسْتِفْهَامِيَّة . وَاَللَّه أَعْلَم .
(6. ) بِغَيْنٍ مُعْجَمَة وَطَاء مُهْمَلَة، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ بِتَاءٍ مُثَنَّاة مِنْ فَوْق كَأَنَّهُ أَرَادَ ضَمَّنِي وَعَصَرَنِي، وَالْغَطّ حَبْس النَّفَس، وَمِنْهُ غَطَّهُ فِي الْمَاء، أَوْ أَرَادَ غَمَّنِي وَمِنْهُ الْخَنْق . وَلِأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنَده بِسَنَدٍ حَسَن : "فَأَخَذَ بِحَلْقِي".
(7. ) فَزَمَّلُوهُ أَيْ : لَفُّوهُ . وَالرَّوْع بِالْفَتْحِ الْفَزَع .
(8. ) قَوْله :" لَقَدْ خَشِيت عَلَى نَفْسِي "، دَلَّ هَذَا مَعَ قَوْله " يَرْجُف فُؤَاده " عَلَى اِنْفِعَال حَصَلَ لَهُ مِنْ مَجِيء الْمَلَك، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ " زَمِّلُونِي ".
وَالْخَشْيَة الْمَذْكُورَة اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُرَاد بِهَا عَلَى اِثْنَيْ عَشَر قَوْلًا :
أَوَّلهَا : الْجُنُون وَأَنْ يَكُون مَا رَآهُ مِنْ جِنْس الْكَهَانَة، جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي عِدَّة طُرُق، وَأَبْطَلَهُ أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ وَحُقّ لَهُ أَنْ يُبْطِل، لَكِنْ حَمَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ لَهُ قَبْل حُصُول الْعِلْم الضَّرُورِيّ لَهُ أَنَّ الَّذِي جَاءَهُ مَلَك وَأَنَّهُ مِنْ عِنْد اللَّه تَعَالَى .
ثَانِيهَا : الْهَاجِس، وَهُوَ بَاطِل أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِرّ وَهَذَا اِسْتَقَرَّ وَحَصَلَتْ بَيْنهمَا الْمُرَاجَعَة .
ثَالِثهَا : الْمَوْت مِنْ شِدَّة الرُّعْب .
رَابِعهَا : الْمَرَض، وَقَدْ جَزَمَ بِهِ اِبْن أَبِي جَمْرَة .
خَامِسهَا : دَوَام الْمَرَض .
سَادِسهَا : الْعَجْز عَنْ حَمْل أَعْبَاء النُّبُوَّة .
سَابِعهَا : الْعَجْز عَنْ النَّظَر إِلَى الْمَلَك مِنْ الرُّعْب .
ثَامِنهَا : عَدَم الصَّبْر عَلَى أَذَى قَوْمه .
تَاسِعهَا : أَنْ يَقْتُلُوهُ .
عَاشِرهَا : مُفَارَقَة الْوَطَن .
حَادِيَ عَشَرهَا : تَكْذِيبهمْ إِيَّاهُ .
ثَانِيَ عَشَرهَا : تَعْيِيرهمْ إِيَّاهُ .
وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَال بِالصَّوَابِ وَأَسْلَمهَا مِنْ الِارْتِيَاب الثَّالِث وَاَللَّذَانِ بَعْده، وَمَا عَدَاهَا فَهُوَ مُعْتَرَض . وَاَللَّه أعلم .
(9. ) " كَلَّا " مَعْنَاهَا النَّفْي وَالْإِبْعَاد، وَيَحْزُنك بِفَتْحِ أَوَّله وَالْحَاء الْمُهْمَلَة وَالزَّاي الْمَضْمُومَة وَالنُّون مِنْ الْحُزْن . وَلِغَيْرِ أَبِي ذَرّ بِضَمِّ أَوَّله وَالْخَاء الْمُعْجَمَة وَالزَّاي الْمَكْسُورَة ثُمَّ الْيَاء السَّاكِنَة مِنْ الْخِزْي . ثُمَّ اِسْتَدَلَّتْ عَلَى مَا أَقْسَمَتْ عَلَيْهِ مِنْ نَفْي ذَلِكَ أَبَدًا بِأَمْرٍ اِسْتِقْرَائِيّ وَصَفَتْهُ بِأُصُولِ مَكَارِم الْأَخْلَاق؛ لِأَنَّ الْإِحْسَان إِمَّا إِلَى الْأَقَارِب أَوْ إِلَى الْأَجَانِب؛ وَإِمَّا بِالْبَدَنِ أَوْ بِالْمَالِ؛ وَإِمَّا عَلَى مَنْ يَسْتَقِلّ بِأَمْرِهِ أَوْ مَنْ لَا يَسْتَقِلّ؛ وَذَلِكَ كُلّه مَجْمُوع فِيمَا وَصَفَتْهُ بِهِ .
(10. ) وَالْكَلّ بِفَتْحِ الْكَاف : هُوَ مَنْ لَا يَسْتَقِلّ بِأَمْرِهِ كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى ( وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ ) وَقَوْلهَا " وَتَكْسِب الْمَعْدُوم " فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ وَتُكْسِب بِضَمِّ أَوَّله، وَعَلَيْهَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ : الصَّوَاب الْمُعْدِم بِلَا وَاو أَيْ : الْفَقِير؛ لِأَنَّ الْمَعْدُوم لَا يَكْسِب . قُلْت : وَلَا يَمْتَنِع أَنْ يُطْلَق عَلَى الْمُعْدِم الْمَعْدُوم لِكَوْنِهِ كَالْمَعْدُومِ الْمَيِّت الَّذِي لَا تَصَرُّف لَهُ، وَالْكَسْب هُوَ الِاسْتِفَادَة . فَكَأَنَّهَا قَالَتْ : إِذَا رَغِبَ غَيْرك أَنْ يَسْتَفِيد مَالًا مَوْجُودًا رَغِبْت أَنْتَ أَنْ تَسْتَفِيد رَجُلًا عَاجِزًا فَتُعَاوِنَه . وَقَالَ قَاسِم بْن ثَابِت فِي الدَّلَائِل : قَوْله يَكْسِب مَعْنَاهُ مَا يَعْدَمهُ غَيْره وَيَعْجِز عَنْهُ يُصِيبهُ هُوَ وَيَكْسِبهُ . قَالَ أَعْرَابِيّ يَمْدَح إِنْسَانًا : كَانَ أَكْسَبَهُمْ لِمَعْدُومٍ، وَأَعْطَاهُمْ لِمَحْرُومٍ وَأَنْشَدَ فِي وَصْف ذِئْب كَسُوب كَذَا الْمَعْدُوم مِنْ كَسْب وَاحِد أَيْ : مِمَّا يَكْسِبهُ وَحْده . اِنْتَهَى . وَلِغَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيّ " وَتَكْسِب " بِفَتْحِ أَوَّله، قَالَ عِيَاض : وَهَذِهِ الرِّوَايَة أَصَحّ . قُالْ ابن حجر : قَدْ وَجَّهْنَا الْأُولَى، وَهَذِهِ الرَّاجِحَة، وَمَعْنَاهَا تُعْطِي النَّاس مَا لَا يَجِدُونَهُ عِنْد غَيْرك، فَحَذَفَ أَحَد الْمَفْعُولَيْنِ، وَيُقَال : كَسَبْت الرَّجُل مَالًا وَأَكْسَبْته بِمَعْنًى . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ تَكْسِب الْمَالَ الْمَعْدُومَ وَتُصِيب مِنْهُ مَا لَا يُصِيب غَيْرك . وَكَانَتْ الْعَرَب تَتَمَادَح بِكَسْبِ الْمَال، لَا سِيَّمَا قُرَيْش . وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ قَبْل الْبَعْثَة مَحْظُوظًا فِي التِّجَارَة . وَإِنَّمَا يَصِحّ هَذَا الْمَعْنَى إِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ مَا يَلِيق بِهِ مِنْ أَنَّهُ كَانَ مَعَ إِفَادَته لِلْمَالِ يَجُود بِهِ فِي الْوُجُوه الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْمَكْرُمَات . وَقَوْلهَا عليها رضوان الله تعالى:" وَتُعِين عَلَى نَوَائِب الْحَقّ " هِيَ كَلِمَة جَامِعَة لِأَفْرَادِ مَا تَقَدَّمَ وَلِمَا لَمْ يَتَقَدَّم وَفِي رِوَايَة الْمُصَنِّف (البخاري) فِي التَّفْسِير مِنْ طَرِيق يُونُس عَنْ الزُّهْرِيّ مِنْ الزِّيَادَة " وَتَصْدُق الْحَدِيث " وَهِيَ مِنْ أَشْرَف الْخِصَال . وَفِي رِوَايَة هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّة " وَتُؤَدِّي الْأَمَانَة " . وَفِي هَذِهِ الْقِصَّة مِنْ الْفَوَائِد اِسْتِحْبَاب تَأْنِيس مَنْ نَزَلَ بِهِ أَمْر بِذِكْرِ تَيْسِيره عَلَيْهِ وَتَهْوِينه لَدَيْهِ، وَأَنَّ مَنْ نَزَلَ بِهِ أَمْر اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُطْلِع عَلَيْهِ مَنْ يَثِق بِنَصِيحَتِهِ وَصِحَّة رَأْيه .
(11. ) أَيْ : صَارَ نَصْرَانِيًّا، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ هُوَ وَزَيْد بْن عَمْرو بْن نُفَيْل لَمَّا كَرِهَا عِبَادَة الْأَوْثَان إِلَى الشَّام وَغَيْرهَا يَسْأَلُونَ عَنْ الدِّين، فَأَمَّا وَرَقَة فَأَعْجَبَهُ دِين النَّصْرَانِيَّة فَتَنَصَّرَ، وَكَانَ لَقِيَ مَنْ بَقِيَ مِنْ الرُّهْبَان عَلَى دِين عِيسَى وَلَمْ يُبَدَّل، وَلِهَذَا أَخْبَرَ بِشَأْنِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ وَالْبِشَارَة بِهِ، إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِمَّا أَفْسَدَهُ أَهْل التَّبْدِيل .
(12. ) "فَكَانَ يَكْتُب الْكِتَاب الْعِبْرَانِيّ فَيَكْتُب مِنْ الْإِنْجِيل بِالْعِبْرَانِيَّةِ" وَفِي رِوَايَة يُونُس وَمَعْمَر :" وَيَكْتُب مِنْ الْإِنْجِيل بِالْعَرَبِيَّةِ" . وَلِمُسْلِمٍ :" فَكَانَ يَكْتُب الْكِتَاب الْعَرَبِيّ"، وَالْجَمِيع صَحِيح؛ لِأَنَّ وَرَقَة تَعَلَّمَ اللِّسَان الْعِبْرَانِيّ وَالْكِتَابَة الْعِبْرَانِيَّة فَكَانَ يَكْتُب الْكِتَاب الْعِبْرَانِيّ كَمَا كَانَ يَكْتُب الْكِتَاب الْعَرَبِيّ، لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْكِتَابَيْنِ وَاللِّسَانَيْنِ . وَوَقَعَ لِبَعْضِ الشُّرَّاح هُنَا خَبْط فَلَا يُعْرَج عَلَيْهِ . وَإِنَّمَا وَصَفَتْه بِكِتَابَةِ الْإِنْجِيل دُون حِفْظه لِأَنَّ حِفْظ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل لَمْ يَكُنْ مُتَيَسِّرًا كَتَيَسُّرِ حِفْظ الْقُرْآن الَّذِي خُصَّتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّة، فَلِهَذَا جَاءَ فِي صِفَتهَا :" أَنَاجِيلهَا صُدُورهَا " .
(13. ) قَوْلهَا رضوان الله تعالى عليها :" يَا اِبْن عَمّ " هَذَا النِّدَاء عَلَى حَقِيقَته، وَوَقَعَ فِي مُسْلِم :" يَا عَمّ " وَهُوَ وَهْم؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لِجَوَازِ إِرَادَة التَّوْقِير لَكِنَّ الْقِصَّة لَمْ تَتَعَدَّد وَمَخْرَجهَا مُتَّحِد، فَلَا يُحْمَل عَلَى أَنَّهَا قَالَتْ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، فَتَعَيَّنَ الْحَمْل عَلَى الْحَقِيقَة . وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ - كما قال ابن حجر - فِيمَا مَضَى فِي الْعِبْرَانِيّ وَالْعَرَبِيّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كَلَام الرَّاوِي فِي وَصْف وَرَقَة وَاخْتَلَفَتْ الْمَخَارِج فَأَمْكَنَ التَّعْدَاد، وَهَذَا الْحُكْم يَطَّرِد فِي جَمِيع مَا أَشْبَهَهُ . وَقَالَتْ رضي الله عنها فِي حَقّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ :" اِسْمَعْ مِنْ اِبْن أَخِيك" . لِأَنَّ وَالِده عَبْداللَّه بْن عَبْدالْمُطَّلِب وَوَرَقَة فِي عِدَد النَّسَب إِلَى قُصَيّ بْن كِلَاب الَّذِي يَجْتَمِعَانِ فِيهِ سَوَاء، فَكَانَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّة فِي دَرَجَة إِخْوَته . أَوْ قَالَتْهُ عَلَى سَبِيل التَّوْقِير لِسِنِّهِ . وَفِيهِ إِرْشَاد إِلَى أَنَّ صَاحِب الْحَاجَة يُقَدَّم بَيْن يَدَيْهِ مَنْ يُعْرَف بِقَدْرِهِ مِمَّنْ يَكُون أَقْرَب مِنْهُ إِلَى الْمَسْئُول، وَذَلِكَ مُسْتَفَاد مِنْ قَوْل خَدِيجَة لِوَرَقَةَ : "اِسْمَعْ مِنْ اِبْن أَخِيك "؛ أَرَادَتْ بِذَلِكَ أَنْ يَتَأَهَّبَ لِسَمَاعِ كَلَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ وَذَلِكَ أَبْلَغ فِي التَّعْلِيم .
(14. ) عند البخاري :"هَذَا النَّامُوس الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى "؛ ولِلْكُشْمِيهَنِيّ " أَنْزَلَ اللَّه "، وَفِي التَّفْسِير " أُنْزِلَ " عَلَى الْبِنَاء لِلْمَفْعُولِ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ " هَذَا " إِلَى الْمَلَك الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ فِي خَبَره، وَنَزَّلَهُ مَنْزِلَة الْقَرِيب لِقُرْبِ ذِكْره . وَالنَّامُوس : صَاحِب السِّرّ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمُؤَلِّف؛ الإمام البخاري فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء . وَزَعَمَ اِبْن ظَفَر أَنَّ النَّامُوس صَاحِب سِرّ الْخَيْر، وَالْجَاسُوس صَاحِب سِرّ الشَّرّ . وَالْأَوَّل الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور . وَقَدْ سَوَّى بَيْنهمَا رُؤْيَة بْن الْعَجَّاج أَحَد فُصَحَاء الْعَرَب . وَالْمُرَاد بِالنَّامُوسِ هُنَا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام . وَقَوْله " عَلَى مُوسَى " وَلَمْ يَقُلْ "عَلَى عِيسَى" مَعَ كَوْنه نَصْرَانِيًّا؛ لِأَنَّ كِتَاب مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مُشْتَمِل عَلَى أَكْثَر الْأَحْكَام، بِخِلَافِ عِيسَى . وَكَذَلِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ . أَوْ لِأَنَّ مُوسَى بُعِثَ بِالنِّقْمَةِ عَلَى فِرْعَوْن وَمَنْ مَعَهُ، بِخِلَافِ عِيسَى . كَذَلِكَ وَقَعَتْ النِّقْمَة عَلَى يَد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ بِفِرْعَوْن هَذِهِ الْأُمَّة وَهُوَ أَبُو جَهْل بْن هِشَام وَمَنْ مَعَهُ بِبَدْرٍ . أَوْ قَالَهُ تَحْقِيقًا لِلرِّسَالَةِ؛ لِأَنَّ نُزُول جِبْرِيل عَلَى مُوسَى مُتَّفَق عَلَيْهِ بَيْن أَهْل الْكِتَاب، بِخِلَافِ عِيسَى فَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْيَهُود يُنْكِرُونَ نُبُوَّته، وَأَمَّا مَا تَمَحَّلَ - هكذا يرى ابن حجر - لَهُ السُّهَيْلِيّ مِنْ أَنَّ وَرَقَة كَانَ عَلَى اِعْتِقَاد النَّصَارَى فِي عَدَم نُبُوَّة عِيسَى وَدَعْوَاهُمْ أَنَّهُ أَحَد الْأَقَانِيم فَهُوَ مُحَال لَا يُعَرَّج عَلَيْهِ فِي حَقّ وَرَقَة وَأَشْبَاهه مِمَّنْ لَمْ يَدْخُل فِي التَّبْدِيل وَلَمْ يَأْخُذ عَمَّنْ بَدَّلَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ عِنْد الزُّبَيْر بْن بَكَّار مِنْ طَرِيق عَبْداللَّه بْن مُعَاذ عَنْ الزُّهْرِيّ فِي هَذِهِ الْقِصَّة أَنَّ وَرَقَة قَالَ : نَامُوس عِيسَى . وَالْأَصَحّ مَا تَقَدَّمَ، وَعَبْداللَّه بْن مُعَاذ ضَعِيف . نَعَمْ فِي دَلَائِل النُّبُوَّة لِأَبِي نُعَيْم بِإِسْنَادٍ حَسَن إِلَى هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّة أَنَّ خَدِيجَة أَوَّلًا أَتَتْ اِبْن عَمّهَا وَرَقَة فَأَخْبَرَتْه الْخَبَر فَقَالَ :" لَئِنْ كُنْت صَدَقْتنِي إِنَّهُ لَيَأْتِيه نَامُوس عِيسَى الَّذِي لَا يُعَلِّمهُ بَنُو إِسْرَائِيل أَبْنَاءَهُمْ . فَعَلَى هَذَا فَكَانَ وَرَقَة يَقُول تَارَة "نَامُوس عِيسَى" وَتَارَة "نَامُوس مُوسَى"، فَعِنْد إِخْبَار خَدِيجَة لَهُ بِالْقِصَّةِ قَالَ:" لَهَا نَامُوس عِيسَى" بِحَسَبِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ النَّصْرَانِيَّة، وَعِنْد إِخْبَار النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ لَهُ قَالَ:" لَهُ نَامُوس مُوسَى"، لِلْمُنَاسَبَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، وَكُلّ صَحِيح . وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أصدق و أَعْلَم .
(15. ) " يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَع" كَذَا فِي رِوَايَة الْأَصِيلِيّ، وَعِنْد الْبَاقِينَ " يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا " بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَر كَانَ الْمُقَدَّرَة قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَهُوَ مَذْهَب الْكُوفِيِّينَ فِي قَوْله تَعَالَى ( اِنْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ ) . وَقَالَ اِبْن بَرِّيّ : التَّقْدِير : يَا لَيْتَنِي جُعِلْت فِيهَا جَذَعًا . وَقِيلَ : النَّصْب عَلَى الْحَال إِذَا جَعَلْت فِيهَا خَبَر لَيْتَ، وَالْعَامِل فِي الْحَال مَا يَتَعَلَّق بِهِ الْخَبَر مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْرَار، قَالَهُ السُّهَيْلِيّ وَضَمِير " فِيهَا " يَعُود عَلَى أَيَّام الدَّعْوَة . وَالْجَذَع - بِفَتْحِ الْجِيم وَالذَّال الْمُعْجَمَة - هُوَ الصَّغِير مِنْ الْبَهَائِم، كَأَنَّهُ تَمَنَّى أَنْ يَكُون عِنْد ظُهُور الدُّعَاء إِلَى الْإِسْلَام شَابًّا لِيَكُونَ أَمْكَنَ لِنَصْرِهِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّن سِرّ وَصْفه بِكَوْنِهِ كَانَ كَبِيراً أَعْمَى .
(16. ) اسْتَبْعَدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ أَنْ يُخْرِجُوهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سَبَب يَقْتَضِي الْإِخْرَاج، لِمَا اِشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ مَكَارِم الْأَخْلَاق الَّتِي تَقَدَّمَ مِنْ خَدِيجَة وَصْفهَا.
(17. ) قَوْل ورَقة : " إِلَّا عُودِيَ" وَفِي رِوَايَة يُونُس فِي التَّفْسِير " إِلَّا أُوذِيَ " فَذَكَرَ وَرَقَة أَنَّ الْعِلَّة فِي ذَلِكَ مَجِيئُهُ لَهُمْ بِالِانْتِقَالِ عَنْ مَأْلُوفهمْ، وَلِأَنَّهُ عَلِمَ مِنْ الْكُتُب أَنَّهُمْ لَا يُجِيبُونَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَلْزَمهُ لِذَلِكَ مُنَابَذَتهمْ وَمُعَانَدَتهمْ فَتَنْشَأ الْعَدَاوَة مِنْ ثَمَّ، وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُجِيب يُقِيم الدَّلِيل عَلَى مَا يُجِيب بِهِ إِذَا اِقْتَضَاهُ الْمَقَام .
(18. ) وقَوْل ورَقة :" إِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمك " إِنْ شَرْطِيَّة وَاَلَّذِي بَعْدهَا مَجْزُوم . زَادَ فِي رِوَايَة يُونُس فِي التَّفْسِير " حَيًّا " وَلِابْنِ إِسْحَاق :" إِنْ أَدْرَكْت ذَلِكَ الْيَوْم " يَعْنِي يَوْم الْإِخْرَاج . قَوْله :" مُؤَزَّرًا " بِهَمْزَةٍ أَيْ : قَوِيًّا مَأْخُوذ مِنْ الْأَزْر وَهُوَ الْقُوَّة وَأَنْكَرَ الْقَزَّاز أَنْ يَكُون فِي اللُّغَة مُؤَزَّر مِنْ الْأَزْر . وَقَالَ أَبُو شَامَة : يُحْتَمَل أَنْ يَكُون مِنْ الْإِزَار، أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى تَشْمِيره فِي نُصْرَته ، قَالَ الْأَخْطَل :
قَوْم إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرهمْ .
وقَوْله :" ثُمَّ لَمْ يَنْشَب " بِفَتْحِ الشِّين الْمُعْجَمَة أَيْ لَمْ يَلْبَث . وَأَصْل النُّشُوب التَّعَلُّق، أَيْ : لَمْ يَتَعَلَّق بِشَيْءٍ مِنْ الْأُمُور حَتَّى مَاتَ . وَهَذَا بِخِلَافِ مَا فِي السِّيرَة لِابْنِ إِسْحَاق أَنَّ وَرَقَة كَانَ يَمُرّ بِبِلَالٍ وَهُوَ يُعَذَّب، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَأَخَّرَ إِلَى زَمَن الدَّعْوَة، وَإِلَى أَنْ دَخَلَ بَعْض النَّاس فِي الْإِسْلَام . فَإِنْ تَمَسَّكْنَا بِالتَّرْجِيحِ فَمَا فِي الصَّحِيح أَصَحّ، وَإِنْ لَحَظْنَا الْجَمْع أَمْكَنَ أَنْ يُقَال : الْوَاو فِي قَوْله : وَفَتَرَ الْوَحْي . لَيْسَتْ لِلتَّرْتِيبِ ، فَلَعَلَّ الرَّاوِيَ لَمْ يَحْفَظ لِوَرَقَة ذِكْرًا بَعْد ذَلِكَ فِي أَمْر مِنْ الْأُمُور فَجَعَلَ هَذِهِ الْقِصَّة اِنْتِهَاء أَمْره بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمه لَا إِلَى مَا هُوَ الْوَاقِع . وَفُتُور الْوَحْي عِبَارَة عَنْ تَأَخُّره مُدَّة مِنْ الزَّمَان، وَكَانَ ذَلِكَ لِيَذْهَب مَا كَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ وَجَدَهُ مِنْ الرَّوْع، وَلِيَحْصُل لَهُ التَّشَوُّف إِلَى الْعَوْد، فَقَدْ رَوَى الْبخاري فِي التَّعْبِير مِنْ طَرِيق مَعْمَر مَا يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ .
التحقيق والتثبت : وَقَعَ فِي تَارِيخ أَحْمَد بْن حَنْبَل عَنْ الشَّعْبِيّ أَنَّ مُدَّة فَتْرَة الْوَحْي كَانَتْ ثَلَاث سِنِينَ، وَبِهِ جَزَمَ اِبْن إِسْحَاق، وَحَكَى الْبَيْهَقِيّ أَنَّ مُدَّة الرُّؤْيَا كَانَتْ سِتَّة أَشْهُر، وَعَلَى هَذَا فَابْتِدَاء النُّبُوَّة بِالرُّؤْيَا وَقَعَ مِنْ شَهْر مَوْلِده وَهُوَ رَبِيع الْأَوَّل بَعْد إِكْمَاله أَرْبَعِينَ سَنَة، وَابْتِدَاء وَحْي الْيَقَظَة وَقَعَ فِي رَمَضَان . وَلَيْسَ الْمُرَاد بِفَتْرَةِ الْوَحْي الْمُقَدَّرَة بِثَلَاثِ سِنِينَ وَهِيَ مَا بَيْن نُزُول " اِقْرَأْ " وَ " يَا أَيّهَا الْمُدَّثِّر " عَدَم مَجِيء جِبْرِيل إِلَيْهِ، بَلْ تَأَخُّر نُزُول الْقُرْآن فَقَطْ . ثُمَّ رَاجَعْ الإمام العسقلاني الْمَنْقُول عَنْ الشَّعْبِيّ مِنْ تَارِيخ الْإِمَام أَحْمَد، وَلَفْظه مِنْ طَرِيق دَاوُدَ بْن أَبِي هِنْد عَنْ الشَّعْبِيّ : أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّة وَهُوَ اِبْن أَرْبَعِينَ سَنَة فَقُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ إِسْرَافِيل ثَلَاث سِنِينَ فَكَانَ يُعَلِّمهُ الْكَلِمَة وَالشَّيْء، وَلَمْ يَنْزِل عَلَيْهِ الْقُرْآن عَلَى لِسَانه فَلَمَّا مَضَتْ ثَلَاث سِنِينَ قُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ جِبْرِيل، فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآن عَلَى لِسَانه عِشْرِينَ سَنَة . وَأَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ وَحْي آخَر مُخْتَصَرًا عَنْ دَاوُدَ بِلَفْظِ : بُعِثَ لِأَرْبَعِينَ، وَوُكِّلَ بِهِ إِسْرَافِيل ثَلَاث سِنِينَ، ثُمَّ وُكِّلَ بِهِ جِبْرِيل فَعَلَى هَذَا فَيَحْسُن - بِهَذَا الْمُرْسَل إِنْ ثَبَتَ - الْجَمْع بَيْن الْقَوْلَيْنِ فِي قَدْر إِقَامَته بِمَكَّةَ بَعْد الْبَعْثَة، فَقَدْ قِيلَ ثَلَاث عَشْرَة، وَقِيلَ عَشْر، وَلَا يَتَعَلَّق ذَلِكَ بِقَدْرِ مُدَّة الْفَتْرَة، وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَدْ حَكَى اِبْن التِّين هَذِهِ الْقِصَّة، لَكِنْ وَقَعَ عِنْده مِيكَائِيل بَدَل إِسْرَافِيل، وَأَنْكَرَ الْوَاقِدِيّ هَذِهِ الرِّوَايَة الْمُرْسَلَة وَقَالَ : لَمْ يُقْرَن بِهِ مِنْ الْمَلَائِكَة إِلَّا جِبْرِيل، اِنْتَهَى التحقيق . وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، فَإِنَّ المعلوم في الأصول أن الْمُثْبِت مُقَدَّم عَلَى النَّافِي إِلَّا إِنْ صَحِبَ النَّافِيَ دَلِيل نَفْيه فَيُقَدَّم وَاَللَّه أَعْلَم . وَأَخَذَ السُّهَيْلِيّ هَذِهِ الرِّوَايَة فَجَمَعَ بِهَا الْمُخْتَلِف فِي مُكْثه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ بِمَكَّة، فَإِنَّهُ قَالَ : جَاءَ فِي بَعْض الرِّوَايَات الْمُسْنَدَة أَنَّ مُدَّة الْفَتْرَة سَنَتَانِ وَنِصْف، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى أَنَّ مُدَّة الرُّؤْيَا سِتَّة أَشْهُر، فَمَنْ قَالَ مَكَثَ عَشْر سِنِينَ حَذَفَ مُدَّة الرُّؤْيَا وَالْفَتْرَة، وَمَنْ قَالَ ثَلَاث عَشْرَة أَضَافَهُمَا . وَهَذَا الَّذِي اِعْتَمَدَهُ السُّهَيْلِيّ مِنْ الِاحْتِجَاج بِمُرْسَلِ الشَّعْبِيّ لَا يَثْبُت، وَقَدْ عَارَضَهُ مَا جَاءَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ مُدَّة الْفَتْرَة الْمَذْكُورَة كَانَتْ أَيَّامً ، أقول؛ الرمادي: وَسَيَأْتِي مَزِيد بيان لِذَلِكَ فِي بحث النبوة من هذه السلسلة المباركة من ملف الهدى إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
(19.) "فَرُعِبْت مِنْهُ " بِضَمِّ الرَّاء وَكَسْر الْعَيْن، وَلِلْأَصِيلِيِّ بِفَتْحِ الرَّاء وَضَمّ الْعَيْن أَيْ : فَزِعْت، دَلَّ عَلَى بَقِيَّة بَقِيَتْ مَعَهُ مِنْ الْفَزَع الْأَوَّل ثُمَّ زَالَتْ بِالتَّدْرِيجِ . قَوْله :" فَقُلْت زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي "، وَفِي رِوَايَة الْأَصِيلِيّ وَكَرِيمَة زَمِّلُونِي مَرَّة وَاحِدَة، وَفِي رِوَايَة يُونُس فِي التَّفْسِير فَقُلْت:" دَثِّرُونِي" فَنَزَلَتْ ( يَا أَيّهَا الْمُدَّثِّر قُمْ فَأَنْذِرْ ) أَيْ : حَذِّرْ مِنْ الْعَذَاب مَنْ لَمْ يُؤْمِن بِك ( وَرَبّك فَكَبِّرْ ) أَيْ عَظِّمْ ( وَثِيَابك فَطَهِّرْ ) أَيْ : مِنْ النَّجَاسَة، وَقِيلَ الثِّيَاب النَّفْس، وَتَطْهِيرهَا اِجْتِنَاب النَّقَائِص، وَالرُّجْز هُنَا الْأَوْثَان ، وَالرُّجْز فِي اللُّغَة : الْعَذَاب ، وَسَمَّى الْأَوْثَان هُنَا رُجْزًا؛ لِأَنَّهَا سَبَبه .
(20. ) سُئِلَ أبو سلمة بن عبدالرحمن، عن أولِ ما نزل من القرآن، قال : { يا أيها المدثر } . قلت : يقولون : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } . فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن ذلك، وقلت له مثل الذي قلت، فقال جابر : لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال :"جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا، فأتيت خديجة فقلت : دثروني ، وصبوا علي ماء باردا، قال : فدثروني وصبوا علي ماء باردا، قال : فنزلت : { يا أيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر } . [صحيح البخاري]
(21.) " فَحَمِيَ الْوَحْي" أَيْ جَاءَ كَثِيراً، وَفِيهِ مُطَابَقَة لِتَعْبِيرِهِ عَنْ تَأَخُّره بِالْفُتُورِ، إِذْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى اِنْقِطَاع كُلِّيّ فَيُوصَف بِالضِّدِّ وَهُوَ الْبَرَد . قَوْله : ( وَتَتَابَعَ ) تَأْكِيد مَعْنَوِيّ، وَيُحْتَمَل أَنْ يُرَاد بِحَمِيَ : قَوِيَ، وَتَتَابَعَ : تَكَاثَرَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ وَأَبِي الْوَقْت " وَتَوَاتَرَ " وَالتَّوَاتُر مَجِيء الشَّيْء يَتْلُو بَعْضه بَعْضًا مِنْ غَيْر تَخَلُّل .
(22. ) وَقَالَ يُونُس يَعْنِي اِبْن يَزِيد الْأَيْلِيّ، وَمَعْمَر هُوَ اِبْن رَاشِد :" بَوَادِره " يَعْنِي أَنَّ يُونُس وَمَعْمَرًا رَوَيَا هَذَا الْحَدِيث عَنْ الزُّهْرِيّ فَوَافَقَا عُقَيْلًا عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا بَدَل قَوْله [ يَرْجُف فُؤَاده] " تَرْجُف بَوَادِره"، وَالْبَوَادِر جَمْع بَادِرَة وَهِيَ اللَّحْمَة الَّتِي بَيْن الْمَنْكِب وَالْعُنُق تَضْطَرِب عِنْد فَزَع الْإِنْسَان، فَالرِّوَايَتَانِ مُسْتَوِيَتَانِ فِي أَصْل الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا دَالّ عَلَى الْفَزَع، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِي رِوَايَة يُونُس وَمَعْمَر مِنْ الْمُخَالَفَة لِرِوَايَةِ عُقَيْل غَيْر هَذَا فِي أَثْنَاء السِّيَاق، وَاَللَّه الْمُوَفِّق لما يحبه ويرضى.
(23. ) يعلمنا شيخنا - اطال الله عمره و اتم عليه صحته- فضيلة الدكتور أحمد عمر هاشم فيقول في كتابه "قواعد أصول الحديث؛ مقرر العام الدراسي الأول/ الأزهر الشريف ص: 85-86:" الحديث الضعيف هو ما لم تجتمع فيه صفات الحديث الصحيح ولا صفات الحديث الحسن . وهذه الصفات هي :
1. ) اتصال السند ،
2. ) عدالة الراوي [ الذي لم تثبت وثاقة رواته كلاً أو بعضاً لجهالةٍ في حالهم، أو خدش في صدقهم ] ،
3. ) ضبطه وعدم الشذوذ ،
4. ) عدم العلة ،
5. ) مجئ الحديث من وجه آخر إذا كان في الاسناد مستور غير متهم بالكذب ولا بكثرة الغلط .
ويخلص فضيلته - حفظه الله - إلى أن :" كل حديث فقدَّ هذه الشروط أو بعضها فهو ضعيف . والحديث المرسل ضعيف لفقده شرط اتصال السند " انتهى كلام معالي الدكتور هاشم . وعليه فالحديث الضعيف لا يحتج به ولا يتخذ دليلاً على الأحكام الشرعية .
**
(*) يجد الكاتب فائدة من تخصيص فصل في نهاية هذا البحث تحت عنوان :" الدروس المستفادة من حياة السيدة خديجة مع النبي وبعد وفاتها" .
**
يتبع بإذنه سبحانه وتعالى
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة د. الرمادي في المنتدى منتديات المسلمة
مشاركات: 7
آخر مشاركة: 24-01-2017, 06:49 AM
-
بواسطة ابو ياسمين دمياطى في المنتدى منتدى الصوتيات والمرئيات
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 08-06-2012, 05:42 PM
-
بواسطة @سالم@ في المنتدى منتديات المسلمة
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 07-11-2011, 09:07 PM
-
بواسطة د. الرمادي في المنتدى منتدى الأسرة والمجتمع
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 18-07-2010, 01:42 AM
-
بواسطة .maryam. في المنتدى شبهات حول السيرة والأحاديث والسنة
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 06-04-2008, 01:32 AM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات