

-
الفرق بين سب الله تعالى وسب رسوله في الحدود
يلقي بعض النصارى هذه الشبهة
اقتباس
من سب النبي يقتل دون استتابه
ولكن
من سب الله يغفر له إذا استتاب
معنى هذا أن:
كرامة النبي أعظم من كرامة الله
ومكانته ارفع من مكانة الله عند المسلم
اليس هذا هو الكفر في عينه؟
الرد من كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول لشيخ الاسلام ابن تيمية
طريقة من فَرَّق بين سب الله وسب رسوله، وذلك من وجوهٍ:
أحدها: أن سب الله حقٌّ محضٌ لله، وذلك يسقط بالتوبة كالزنى والسرقة وشرب الخمر، وسبُّ النبي صلى الله عليه وسلم فيه حقان: لله وللعبد، فلا يسقط حقُّ الآدميّ بالتوبة كالقتل في المحاربة، هذا فرق القاضي أبي يعلى في خلافهِ.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم تلحقهُ المعرَّةُ بالسبِّ، لأنهُ مخلوقٌ، وهو من جنسِ الآدميين الذين تلحقهم المعرَّةُ والغضاضةُ بالسبّ والشتم، وكذلك يثابون على سبهم، ويعطيهم الله من حسناتِ الشاتم أو من عنده عِوضاً على ما أصابهم من المصيبة بالشتم، فمَن سبه فقد انتقص حرمته، والخالق سبحانه لا تلحقه معرةٌ ولا غضاضةٌ بذلك، فإنهُ منزهٌ عن لحوقِ المنافع والمضارّ، كما قال سبحانه فيما يرويه عنه رسولهُ صلى الله عليه وسلم : "يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَن تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي" وإذا كان سبُّ النبي صلى الله عليه وسلم قد يُؤَثِّرُ انتقاصُه في النفوس، وتلحقه بذلك معرَّةٌ وضَيمٌ، وربما كان سبباً للتنفير عنه، وقلة هيبته، وسقوط حرمته، شُرعت العقوبة على خصوص الفساد الحاصل بسبه، فلا تسقط بالتوبة كالعقوبة على جميع الجرائم، وأما سابُّ الله سبحانه فإنه يضُّر نفسَهُ بمنزلةِ الكافر والمرتد، فمتى تاب زال ضررُ نفسه فلا يقتل.
وهذا الفرق ذكره طوائف من المالكية والشافعية والحنابلة، منهم القاضي عبدالوهاب بن نصر، والقاضي أبو يعلى في "المُجَرّدِ" وأبو علي بن البناء، وابن عقيلٍ، وغيرهم، وهو يتوجهُ مع قولنا: إن سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم حدٌّ للهِ كالزنى والسرقةِ.
يؤيدُ ذلك أن القذف بالكفر أعظم من القذف بالزنى، ثم لم يُشْرع عليه حدٌّ مقدَّرٌ كما شُرع على الرمي بالزنى، وذلك لأن المقذوف بالكفر لا يلحقه العار الذي/ يلحقه بالرمي بالزنى، لأنه بما يُظهر من الإيمان يُعلم كذبُ القاذف، وبما يُظهره من التوبة تزول عنه تلك المعرَّةُ، بخلاف الزنى فإنه يُسْتَسَرُّ به، ولا يمكنه إظهار البراءة منهُ، ولا تزول معرَّتهُ في عُرف الناس عند إظهار التوبةِ، فكذلك سابُّ الرسول يُلْحِق بالدينِ وأهلهِ من المعرةِ ما لا يلحقهم إذا سبَّ اللهَ، لكون المنافي لسبِّ اللهِ ظاهراً معلوماً لكل أحدٍ علماً يشتركُ فيه كلُّّ الناسِ.
سبّ الرسول يكون على وجه الاستخفاف وسبّ الله غالباً لا يكون على هذا الوجه
الوجه الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يُسَبُّ على وجه الاستخفاف به والاستهانة، وللنفوس الكافرة والمنافقة إلى ذلك داعٍ: من جهة الحسد على ما آتاه الله من فضلهِ، ومن جهةِ المخالفةِ في دينهِ، ومن جهةِ الانقهار تحت حكم دينه وشرعهِ، ومن جهةِ المراغمة لأُمتهِ، وكل مفسدةٍ يكونُ إليها داعٍ فلا بدَّ من شرع العقوبة عليها حداًّ، وكل ما شُرعت العقوبة عليه لم يَسقط بالتوبة كسائر الجرائم، وأما سب الله سبحانه فإنه لا يقع في الغالب استخفافاً واستهانةً، وإنما يقع تديناً واعتقاداً، وليس للنفوس في الغالب داعٍ إلى إيقاع السبِّ إلا عن اعتقادٍ، يرونه تعظيماً وتمجيداً، وإذا كان كذلك لم يحتج خصوص السب إلى شرعٍ زاجرٍ، بل هو نوعٌ من الكفرِ، فيقتل الإنسان عليه لردته وكفره، إلا أن يتوبَ.
وهذا الوجه من نمط الذي قبله، والفرق بينهما أن ذلك بيانٌ لأن مفسدة السب لا تزول بإظهار التوبة، بخلاف مفسدة سب الله تعالى، والثاني بيانٌ لأن سبَّ الرسولِ إليه داعٍ طَبَعيّ فيُشرع الزَّجْر عليه لخصوصه كشربِ الخمر، وسبُّ الله تعالى ليس إليه داعٍ طَبَعيّ فلا يحتاج خُصوصه إلى حدّ زاجرٍ كشرب البول وأكل الميتة والدم.
والوجه الرابع: أن سب النبي صلى الله عليه وسلم حدٌّ وجب لسبِّ آدميٍّ ميتٍ لم يُعلم أنه عفا عنه، وذلك لا يَسقط بالتوبة، بخلاف سبّ الله تعالى، فإنه قد عُلم أنه قد عفا عمن سبه إذا تاب، وذلك أن سبَّ الرسولِ مُتردَّدٌ في سقوط حدِّهِ بالتوبةِ بين سب اللهِ وسبّ سائرِ الآدميين، فيجب إلحاقه بأشبه الأصلين به، ومعلومٌ أن سبَّ الآدمي إنما لم تسقط عقوبته/ بالتوبة لأن حقوق الآدميين لا تسقط بالتوبة، لأنهم ينتفعون باستيفاء حقوقهم، ولا ينتفعون بتوبة التائب، فإذا تاب مَنْ للآدمي عليه حقُّ قصاصٍ أو قذفٍ فإنَّ له أن يأخذه منه لينتفع به اشتفاءً ودَرْكَ ثَأْرٍ وصيانة عِرْضٍ، وحقُّ الله قد علم سقوطه بالتوبة، لأنه سبحانه إنما أوجب الحقوق لينتفع بها العبادُ، فإذا رجعوا إلى ما ينفعهم حصل مقصود الإيجاب، وحينئذٍ فلا ريب أن حرمة الرسول أُلحقت بحرمة الله من جهةِ التغليظ، لأن الطعنَ فيه طعنٌ في دين الله وكتابه، وهو من الخلق الذين لا تسقط حقوقهم بالتوبة، لأنهم يَنتفعون باستيفاء الحقوق ممن هي عليه، وقد ذكرنا ما دلَّ على ذلك من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له أن يُعاقب من آذاه وإن جاءه تائباً، وهو صلى الله عليه وسلم كما أنه بَلَّغ الرسالة لينتفع بها العبادُ فإذا تابوا ورجعوا إلى ما أمرهم به فقد حصل مقصوده، فهو أيضاً يتألَّم بأذاهم له، فله أن يعاقب من آذاه تحصيلاً لمصلحة نفسه، كما له أن يأكل ويشرب، فإن تمكين البشر من استيفاءِ حقهِ ممن بغى عليه من جملة مصالح الإنسان، ولولا ذلك لماتت النفوسُ غمّاً، ثم إليه الخِيَرةُ في العفوِ والانتقامِ، فقد تترجح عندهُ مصلحة الانتقامِ، فيكون فاعلاً لأمر مباحٍ وحظٍّ جائزٍ، كما له أن يتزوج النساء، وقد يترجح العفو، والأنبياءُ ـ عليهم السلامُ ـ منهم من كان قد يترجّحُ عنده أحياناً الانتقام، ويُشدِّدُ الله قلوبهم فيه حتى تكونَ أشد من الصخر كنوحٍ وموسى، ومنهم من كان يترجح عنده العفوُ فيلين الله قلوبهم فيه حتى تكونَ أليَن من اللبن كإبراهيم وعيسى، فإذا تعذر عفوه عن حقّهِ تعين استيفاؤُهُ، وإلا لَزِم إهدارُ حقهِ بالكليّةِ.
قولهم: "إذا سقط المتبوع بالإسلام فالتابع أَولى".
قلنا: هو تابع من حيث تغلَّظت عقوبته، لا من حيث إن له حقاً في الاستيفاء لا ينجبر بالتوبة.
قولهم: "ساب الواحد من الناس لا يختلف حاله بين ما قبل الإسلام وبعده، بخلاف سابِّ الرسولِ".
عنه جوابان:
أحدهما: المنع فإن سب الذميّ للمسلم جائزٌ عندهُ، لأنه يعتقد كفره وضلالهُ، وإنما يحرِّمهُ عنده العهد الذي بيننا وبينه فلا فرق بينهما، وإن فُرِض الكلام في سبٍّ خارجٍ عن الدِّين مثل الرمي بالزنى والافتراء عليه ونحو ذلك، فلا فرق في ذلك بين سب الرسول وسب الواحدِ من الأُمّةِ، ولا ريب أن الكافر إذا أسلم صار أخاً للمسلمين يؤذيه ما يؤذيهم وصار معتقداً لحرمةِ أعراضهم، وزال المبيحُ لانتهاك أعراضهم، ومع ذلك لا يَسقط حقّ المشتوم بإسلامه، وقد تقدم هذا الوجه غير مرةٍ.
الثاني: أن شاتم الواحد من الناس لو تاب وأظهر براءة المشتوم وأثنى عليه ودعا له بعد رفعه إلى السلطان كان له أن يستوفي حدَّه مع ذلك، فلا فَرق بينه وبين شاتم الرسول إذا أظهر اعتقاد رسالته وعلوَّ منزلته، وسبب ذلك أن إظهار مثل هذه التوبة لا يُزِيل ما لحق المشتومَ من الغَضَاضةِ والمعرَّةِ، بل قد يَحْمل ذلك على خوف العقوبة، وتبقى آثار السب الأول جارحةً، فإن لم يكن المشتوم من أخذ حقه بكلِّ حالٍ لم يندمل جرحه.
قولهم: "القتل حق الرسالة، وأَما البشرية فإنما لها حقوق البشرية والتوبةُ تقطُع حق الرسالةِ".
قلنا: لا نُسَلِّم ذلك، بل هو من حيث هو بشر مفضلٌ في بشريته على الآدميين تفضيلاً يوجب قتل سابه، ولو كان القتل إنما وجب لكونه قدحاً في النبوة لكان مثل غيره من أنواع الكفر، ولم يكن خصوص السبِّ موجباً للقتل، وقد قدَّمنا من الأدلة ما يدلُّ على أن خصوص السبِّ موجب للقتل وأنه ليس بمنزلة سائر أنواع الكفر، ومَن سَوَّى بين السابِّ للرسول وبين المُعْرِضِ عن تصديقه فقط في العقوبة فقد خالف الكتاب والسنة الظاهرة والإجماع الماضي، وخالف المعقول، وسَوَّى بين الشيئين المتباينين، وكون القاذف له لم يجب عليه مع القتل جلدُ ثمانين أوضح دليل على أن القتل عقوبةٌ لخصوصِ السبِّ، وإلا كان قد اجتمع حقان: حقٌّ للهِ وهو تكذيبُ رسولهِ فيوجبُ القتلَ، وحقٌّ لرسولهِ وهو سبهُ فيوجبُ الجلدَ على هذا الرأي فكان ينبغي قبل التوبة على هذا أن يجتمع عليه الحدَّانِ، كما لو ارتدَّ وقذف مسلماً (أو نقض العهد وقذف مسلماً) وبعد التوبة يُستوفى منه حدُّ القذف، فكان إنما للنبي صلى الله عليه وسلم أن يعاقب من سبه وجاء تائباً بالجلد فقط، كما أنه ليس للإمام أن يُعاقب قاطع الطريق إذا جاء تائباً إلا بالقَودِ ونحوه مما هو خالصُ حقِّ الآدميّ، ولو سلمنا أن القتل حقُّ الرسالة فقط فهو رِدَّةٌ مغلَّظةٌ بما فيه ضررٌ أو نقضٌ مغلَّظٌ بما فيه ضررٌ، كما لو اقترن بالنقض حرابٌ وفسادٌ بالفعل من قطع طريقٍ وزنى بمسلمةٍ وغير ذلك، فإن القتل هنا حقٌّ للهِ، ومع هذا لم يُسقط بالتوبةِ والإسلامِ، وهذا متحققٌ سواءٌ قلنا إن سابَّ الله يقتل بعد التوبة أو لا يقتل كما تقدم تقريرهُ.
قولهم: "إذا أسلم سقط القتلُ المتعلقُ بالرسالةِ".
قلنا: هذا ممنوعٌ، أما إذا سَوَّينا بينه وبين سب الله فظاهرٌ، وإن فرَّقنا فإن هذا شِبْهٌ من باب فعل المحاربِ لله ورسولهِ الساعي في الأرض فساداً، والحجة داعيةٌ إلى رَدْع أمثاله كما تقدم، وإن سَلَّمنا سقوط الحق المتعلِّق بالكفر بالرسالة، لكن لم يسقط الحقُّ المتعلق بشتم الرسول وسبه، فإن هذه جنايةٌ زائدةٌ على نفس الرسول مع التزام تركها، فإنَّ الذمي ملتزمٌ لنا أن لا يُظهر السب، وليس ملتزماً لنا أن لا يَكفر به، فكيف يُجعل ما التزم تركه من جنس ما قد قررناه عليه؟ وجماعُ الأمر أن هذه الجنايةَ على الرسالةِ نقضٌ يتضمنُ حراباً وفساداً أو ردةٌ تضمنت فساداً وحراباً، وسقوطُ القتل عن مثلِ هذا ممنوعٌ كما تقدم.
قولهم: "حق البشرية انغمر في حق الرسالة، وحق الآدمي انغمر في حق اللهِ".
قلنا: هذه دعوى محضةٌ، ولو كان كذلك لما جاز للنبي صلى الله عليه وسلم العفو عمن سبه، ولا جاز عقوبته بعد مجيئه تائباً، ولا احتيج خصوصُ السب أن يُفْرَد بذكر العقوبة، لِعِلْم كلِّ أحدٍ أن سب الرسول أغلظ من الكفر به، فلما جاءت الأحاديث والآثار في خصوص سبِّ الرسولِ بالقتل عُلم أن ذلك لخاصةٍ في السبِّ وإن اندرج في عموم الكفر.
وأيضاً، فحقُّ العبدِ لا ينغمر في حقِّ اللهِ قَطُّ، نعم العكسُ موجودٌ، كما تندرجُ عقوبةُ القاتِلِ على عِصيانهِ للهِ في القَوَد وحدّ القذفِ، أما أن يندرج حقُّ العبد في حق اللهِ فباطلٌ، فإنَّ من جَنَى جنايةً واحدةً تعلَّق بها حقان: لله ولآدميّ، ثم سقط حقُّ الله لم يَسقط حقُّ الآدمي، سواءٌ كان من جنسٍ أو جنسين، كما لو جَنَى جناياتٍ متفرقةً كمن قَتَل في قطع الطريق، فإنه إذا سَقط عنه تَحَتُّم القتلِ لم يَسقط عنه القَوَد ولو سرق سرقةً ثم سقط عنه القطعُ لم يسقط عنه الغُرْمُ بإجماعِ المسلمين، حتى عند من قال: "إن القطع والغرم لا يجتمعان"، نعم إذا جَنَى جنايةً واحدةً فيها حقان لله ولآدميّ: فإن كان موجب الحقين من جنسٍ واحدٍ تداخلا، وإن كانا من جنسين ففي التداخل خلافٌ معروفٌ، مثالُ الأولِ قتلُ المحاربِ فإنه يوجب القتل حقاً لله وللآدميّ، والقتل لا يتعدّدُ، فمتى قُتل لم يبق للآدميّ حقٌّ في تركته من الدية، وإن كان له أن يأخذ الدية إذا قَتل عدة مقتولين فيُقتل ببعضهم عند الشافعي وأحمد وغيرهما، أما إن قلنا: "إن موجب العمد القود عيناً" فظاهرٌ، وإن قلنا: "إنّ موجبه أَحد شيئينِ"، فإنما ذاك حيث يمكن العفو، وهنا لا يمكن العفو، فصار موجبه القود عيناً، وَوَلِيُّ استيفائه الإمام، لأن ولايته أعمُّ، ومثال الثاني: أخذُ المال سرقة وإتلافه، فإنه موجبٌ للقطع حداً للهِ، وموجبٌ للغُرْم حقّاً لآدمي، ولهذا قال الكوفيون: إن حدَّ الآدمي يدخل في القطع فلا يجبُ، وقال الأكثرون: بل يُغْرم للآدمي ماله، وإن قُطعت يده، وأما إذا جَنى جناياتٍ متفرقةً لكل جناية حدٌّ، فإن كانت لله وهي من جنس واحدٍ تداخلت بالاتفاق، وإن كانت من أجناسٍ وفيها القتل تداخلت عند الجمهور، ولم تتداخل عند الشافعي، وإن كانت للآدميين لم تتداخل عند الجمهور، وعند مالكٍ تتداخل في القتل، إلا حدّ القذف، فهنا هذا الشاتم السابُّ لا ريب أنه تعلق بشتمه حقٌّ لله، وحقٌّ لآدميٍّ، ونحنُ نقولُ: إنَّ موجب كل منهما القتل، ومَن يُنازعنا إما أن يقول: اندرج حقُّ الآدميّ في حقِّ الله أو موجبه الجلدُ، فإذا قُتل فلا كلام إلا عند من يقولُ: إن موجبَهُ الجلدُ، فإنه يجب أن يخرج على الخلاف، وأما إذا سقط حقُّ اللهِ بالتوبةِ فكيف يسقط حقُّ العبد؟ فإنا لا نحفظ لهذا نظيراً، بل النظائرُ تخالفه كما ذكرناه، والسنةُ تدلُّ على خلافهِ، وإثباتُ حكمٍ بلا أصلٍ ولا نظير غير جائزٍ، بل مخالفته للأصُولِ دليلٌ على بُطلانِهِ.
وأيضاً، فَهَبْ أن هذا حدٌّ محضٌ لله، لكن لِمَ يُقالُ: "إنَّه يسقط بالتوبةِ"؟ وقد قدمنا أن الردة ونقض العهد نوعان: مجرَّدٌ، ومغلَّظٌ، فما تَغَلَّظ منه بما يضر المسلمين يجب قتل صاحبه بكلّ حالٍ وإن تاب، وبيّنا أن السبَّ من هذا النوع.
وأيضاً، فأقصى ما يُقال أن يُلْحَق هذا السبّ بسبِّ اللهِ، وفيه من الخلاف ما سيأتي ذِكرُهُ إن شاء الله تعالى.
وأما ما ذُكر من الفرق بين سبِّ المسلم وسبّ الكافر فهو ـ وإن كان له توجهٌ، كما للتسوية بينهما في السقوطِ توجهٌ أيضاً ـ فإنه معارِضٌ بما يدلُّ على أن الكافر أولى بالقتل بكلِّ حالٍ من المسلم، وذلك أنَّ الكافر قد ثبت المبيح لدمه وهو الكفر، وإنما عَصَمهُ العهدُ، وإظهاره السب لا ريب أنه محاربةٌ للهِ ورسولهِ وإفسادٌ في الأرض ونكايةٌ في المسلمين، فقد تحقق الفساد من جهته، وإظهاره التوبة بعد القدرة عليه لا يوثقُ بها كتوبةِ غيره من المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فساداً، بخلاف من عُلِمَ منه الإسلام وصدرت منه الكلمة من السب مع إمكان أنها لم تصدر عن اعتقادٍ، بل خرجت سفهاً أو غلطاً، فإذا عاد إلى الإسلام ـ مع أنه لم يزل يتديّنُ به لم يُعلم منه خلافهُ ـ كان أولى بقبولِ توبتهِ، لأنَّ ذنبه أصغرُ، وتوبته أقربُ إلى الصحةِ.
ثم إنه يُجاب عنه بأن إظهار المسلم تجديدُ الإسلامِ بمنزلةِ إظهارِ الذمي الإسلام، لأن الذمي كان يزعه عن إظهار سبه ما أظهره من عقدِ الأمان كما يَزَع المسلم ما أظهره من عقد الإيمان، فإذا كان المسلمُ الآن إنما يُظهر عَقْد إيمان قد ظهر ما يدلُّ على فسادهِ فكذلك الذميّ إنما يُظهرُ عقدَ أمانٍ قد ظهر ما يدلُّ على فسادهِ، فإنه من يتهمُ في أمانهِ يتهم في إيمانهِ، ويكونُ منافقاً في الإيمان كما كان منافقاً في الأمان، بل ربما كان حالُ هذا الذي تاب بعد معاينة السيف أشدَّ على المسلمين من حاله قبل التوبة، فإنه كان في ذلةِ الكفرِ، والآنَ فإنَّهُ يشرك المسلمين في ظاهر العزِّ مع ما ظهر من نفاقه وخُبثه الذي لم يُظهر ما يدلُّ على زواله، على أن في تعليل سبِّهِ بالزندقة نظراً، فإن السبَّ أمرٌ ظاهرٌ أظهرهُ ولم يَظهر منه ما يدلُّ على استبطانه إياهُ قبل ذلك، ومن الجائز أن يكون قد حَدَث له ما أو جب الردَّةَ.
نعم إن كان ممن تكرر ذلك منه أو له دلالاتٌ على سوءِ العقيدة فهنا الزندقةُ ظاهرةٌ، لكن يقال: نحن نقتله لأمرين، لكونه زنديقاً، ولكونه سابّاً، كما نقتل الذمي لكونه كافراً غير ذي عهد، ولكونه سابّاً، فإن الفرق بين المسلم والذميّ في الزندقةِ لا يمنع اجتماعهما في علةٍ أخرى تقتضي كون السبِّ موجباً للقتل، وإن أحدث السابُّ اعتقاداً صحيحاً بعد ذلك، بل قد يقالُ: إنَّ السبَّ إذا كان موجباً للقتلِ قُتلَ صاحبهُ وإن كان صحيح الاعتقادِ في الباطنِ حال سبهِ كسبهِ للهِ تعالى وكالقذفِ في إيجابهِ للجلدِ وكَسَبِّ جميع البَشَرِ.
وأما الفرق الثاني الذي مبناه على أن السب يوجب قتل المسلم حدّاً لأن مفسدته لا تزول بسقوطهِ بتجديد الإسلام، بخلاف سبِّ الكافرِ، فمضمونه أنَّا نُرَخِّص لأهل الذمة في إظهار السبِّ إذا أظهروا بعده الإسلام، ونَأْذَن لهم أن يشتموا ويسبوا ثم بعد ذلك يسلمون، وما هذا إلا بمثابة أن يُقال: عِلْم الذميّ بأنه إذا زنى بمسلمةٍ أو قطع الطريق أُخذ فقُتل إلا أن يُسلم يَزَعه عن هذه المفاسد، إلا أن يكون من يريد الإسلام، وإذا أسلم فالإسلام يَجُبُّ ما كان قبله، ومعلومٌ أن معنى هذا أن الذميّ يُحتملُ منه ما يقوله ويفعله من أنواع المحاربة والفساد إذا قصد أن يُسلم بعده وأسلم، ومعلومٌ أن هذا غير جائزٍ، فإن الكلمة الواحدة من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تُحتمل بإسلام ألوفٍ من الكفارِ، وَلأَن يظهر دين الله ظهوراً يمنعُ أحداً أن ينطق فيه بطعنٍ أحبُّ إلى الله ورسولهِ من أن يدخل فيه أقوامٌ وهو منتهكٌ مستهانٌ، وكثير ممن يسبُّ الأنبياء من أهلِ الذمةِ قد يكون زنديقاً لا يبالي إلى أي دين انتسب، فلا يُبالي أن يَنال غرضه من السب ثم يظهر الإسلام كالمنافق سواء، ثم هذا يوجب الطمع منهم في إظهار عرضهِ، فإنه ما دام العدو يرجو أن يستبقي ولو بوجهٍ لم يزعه ذلك عن إظهار مقصوده في وقتٍ ما ثم إن ثبت ذلك عليه ورفع إلى السلطان وأمر بقتله أظهر الإسلام، وإلا فقد حصل غرضهُ، وكلُّ فسادٍ قُصد إزالتهُ بالكليةِ لم يُجعل لفاعله سبيلٌ إلى استبقائه بعد الأخذ كالزنى والسرقة وقطع الطريق فإن كان مقصودُ الشارعِ من تطهير الدارِ من ظهور كلمة الكفر والطعن في الدين أبلغ من مقصوده من تطهيرها من وجودِ هذه القبائِحِ ابتغى أن يكون تحتم عقوبةِ من فعل ذلك أبلغ من تحتم عقوبةِ هؤلاءِ.
وفقهُ هذا الجواب أن تعلم أن ظهور الطعن في الدين من سبِّ الرسولِ ونحوه فسادٌ عريضٌ وراء مجرد الكفر، فلا يكون حصول الإسلام ماحياً لذلك الفساد.
وأما الفرق الثالث قولهم: "إن الكافر لم يلتزم تحريم السبِّ" فباطلٌ، فإنه لا فرق بين إظهاره لسبِّ النبي صلى الله عليه وسلم وبين إظهاره لسبِّ آحادٍ من المسلمين وبين سفكِ دمائهم وأخذ أموالهم، فإنه لولا العهد لم يكن فرقٌ عنده بيننا وبين سائر من يخالفه في دينه من المحاربين له، ومعلومٌ أنه يستحل ذلك كله منهم، ثم إنه بالعهد صار بذلك مُحَرَّماً عليه في دينه مِنّا لأجل العهد فإذا فعل شيئاً من ذلك أُقيم عليه حدُّهُ وإن أسلم، سواءٌ انتَقض عهده بما يفعله أو لم ينتقض، فتارةً يجبُ عليه الحد مع بقاء العهد كما لو سرق أو قذف مسلماً، وتارةً ينتقض عهده ولا حدَّ عليه فيصير/ بمنزلةِ المحاربين، وتارةً يجب عليه الحدُّ وينتقض عهده كما إذا سب الرسول أو زنى بمسلمةٍ أو قطع الطريق على المسلمين، فهنا يقتل وإن أسلم، وعقوبة هذا النوع من الجنايات القتل حتماً كعقوبة القاتل في المحاربة من المسلمين جزاءً له على ما فعل من الفساد الذي التزم بعقد الإيمان أن لا يفعله مع كون مثل ذلك الفساد موجباً للقتل و نكالاً لأمثاله عن فعل مثل هذا إذا علموا أنه لا يُترك صاحبه حتى يُقتل.
فهذا هو الجواب عما ذكر من الحجج للمخالف، مع أن فيما تقدم من كلامنا ما يُغني عن الجواب لمن تبينت له المآخذ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
التعديل الأخير تم بواسطة كلمات مضيئة ; 20-08-2008 الساعة 04:37 PM
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة ابو حنيفة المصرى في المنتدى المنتدى العام
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 23-11-2009, 02:12 PM
-
بواسطة ابو حنيفة المصرى في المنتدى المنتدى العام
مشاركات: 13
آخر مشاركة: 29-03-2008, 04:51 AM
-
بواسطة المهتدي بالله في المنتدى العقيدة والتوحيد
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 12-11-2006, 02:23 AM
-
بواسطة Habeebabdelmalek في المنتدى منتدى الكتب
مشاركات: 21
آخر مشاركة: 15-02-2006, 05:36 PM
-
بواسطة Habeebabdelmalek في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 21
آخر مشاركة: 15-02-2006, 05:36 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات