السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اعلم أن الله جعل في جبلة الإنسان وطبيعته ألاّ يأتمر أحدٌ من العقلاء لغيره ، ولا يطيعه إلاّ رغبةً أو رهبة.

واعلم أن المرغوب والمرهوب نوعان: عاجل حاضر، وآجل غائب.

والعاجل الحاضر هو: ما تشاهده الحواس.

والآجل الغائب هو: الذي لا تشاهده الحواس.

ولكن قد تصوِّره الأوهام بالوصف والنعت. واعلم أن الغائب الآجل لا تقع الرَّغبة والرهبة إليه ومنه إلاّ بالوعد والوعيد الصادق من العالم القادر، وكلما كان المرغوب أشدّ عند الراغب وأقرب تحقيقاً ، كانت الرغبة إليه أوكد وأشد! وهكذا حكم المرهوب منه.

وقد رغب الله تعالى خَلقه من الجن والإنس في نعيم الجنان وجعل الوعد للمؤمنين ، ورهبهم أيضاً من عذاب النيران ، وجعل الوعيد أيضاً للكافرين والأشرار، وجعل ميعادهم يوم يلقونه ، إما في الدنيا قبل الممات ، وإما في الآخرة بعد الممات والفراق ، وبعث إليهم الرسل والشُّهداء والأنبياء الصادقين ، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ، وذكر فيه الوعد والوعيد ، وضمن وأقسم وحلف كما قال الله تعالى:

( بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين )

وقال سبحانه:

( وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات )

ثم أقسم تعالى وحلف على تحقيق وعده فقال:

( فوربّ السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ).

ثم قرّب فقال سبحانه:

( وما أمر الساعة إلاّ كلمح البصر أو هو أقرب ).

ولكن من أجل أن موعده غائب عن إدراك الحواس ، صار أكثر الناس له مُنكرين ، وفيه شاكّين ، وفي ماهيّته وآنيته ومتي وقتُه ، متحيرين ، كما أخبر عنهم بقوله تعالي:

( هيهات هيهات لما توعدون لقد وعدنا نحن وآباءنا من قبل ).

وأما المؤمنون فهم مُقرّوُن بمواعيده ، منتظرون لها ، ولكن من الآراء الفاسدة والاعتقادات الرديئة ، ربما ترد على قلوب المقرين شكوك وحيرة وإنكار!

اعلموا أيها الإخوان ، أيدكم الله وإيانا بروح منه ، أن الله، تبارك وتعالى ، خلق الخلق وسواه ، ودبر الأمور وأجراها ، ثم استوى على العرش وعلاه ، فكان من فضل رحمته وكما جوده وتمام إحسانه ، أن اختار طائفة من عباده وأصفاهم وقربهم وناجاهم ، وكشف لهم عن مكنون علمه وأسرار غيبه ، ثم بعثهم إلى عباده ليدعوهم إليه وإلى جواره ، ويخبروهم عن مكنون أسراره ، لكيما ينتهوا عن نوم الجهالة ، ويستيقظوا نم رقدة الغفلة ، ويحيوا حياة العلماء ، ويعيشوا عيش السعداء ، ويبلغوا إلى كمال الوجود في دار الخلود ، كما ذكر في كتبه ووصف على ألسنة أنبيائه، صلوات الله عليهم فقال سبحانه:

( إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل عمران على العالمين ).

ثم قال سبحانه:

( بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ).

ثم قال سبحانه:

( والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ).

واعلموا أيها الإخوان أنه لا يمكن الوصول إلى هناك إلا بخلتين:

إحداهما صفاء النفس ، والأخرى استقامة الطريقة.

أولا: صفاء النفس.

فأما صفاء النفس فلأنها لب جوهر الإنسان ، فإن اسم الإنسان إنما هو واقع على النفس والبدن.

فأما البدن:

فهو هذا الجسد المرئي المؤلف من اللحم والدم والعظام والعروق والعصب والجلد وما شاكله ، وهذه كلها أجسام أرضية مظلمة ثقيلة متغيرة فاسدة.

وأما النفس:

فإنها جوهرة سماوية روحانية حية نورانية خفيفة متحركة غير فاسدة علامة دراكة لصور الأشياء.

وإن مثلها في إدراكها صور الموجودات من المحسوسات والمعقولات كمثل المرآة ، فإن المرآة إذا كانت مستوية الشكل مجلوة الوجه ، تتراءى فيها صور الأشياء الجسمانية على غير حقيقتها، وأيضاً إن كانت المرآة صدئة الوجه، فإنه لا يتراءى فيها شيء البتة.

فهكذا أيضاً حال انفس ، فإنها إذا كانت عالمة ولم تتراكم عليها الجهالات ، طاهرة الجوهر لم تتدنس بالأعمال السيئة صافية الذات لم تتصدأ بالأخلاق الرديئة وكانت صحيحة الهمة لم تعوج بالآراء الفاسدة ، فإنها تتراءى في ذاتها صور الأشياء الروحانية التي في عالمها ، فتدركها النفس بحقائقها ، وتشاهد الأمور الغائبة عن حواسها بعقلها وصفاء جوهرها ، كما تشاهد الأشياء الجسمانية بحواسها ، إذا كانت حواسها صحيحة سليمة.

وأما إذا كانت النفس جاهلة غير صافية الجوهر، وقد تدنست بالأعمال السيئة أو صدئت بالأخلاق الرديئة أو اعوجت بالآراء الفاسدة واستمرت على تلك الحال ، بقيت محجوبة عن إدراك حقائق الأشياء الروحانية ، وعاجزة عن الوصول إلى الله تعالى ، ويفوتها نعيم الآخرة كما قال الله تعالى:

( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ).

واعلموا أيها الإخوان أن حجابها عن ربها إنما هو جهالتها بجوهرها وعالمها ومبدئها ومعادها ، وأن جهالتها إنما هي من الصدأ الذي تركب على ذاتها من سوء أعماله وقبح أفعاله ، كما قال تبارك وتعالى:

( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ).

وأما اعوجاجها فهو من أجل آرائها الفاسدة وأخلاقها الرديئة كما قال الله تعالى:

( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ).

واعلموا أيها الإخوان أن النفس ما دامت على هذه الصفات فإنها لا تبصر ذاتها ، ولا يتراءى في ذاتها تلك الأشياء الحسنة الشريفة اللذيذة الشهية التي في عالمها ، كما وصف الله فقال سبحانه وتعالي:

( فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ).

وقال سبحانه:

( لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ).

واعملوا أيها الإخوان أن النفوس ما لم تشاهد تلك الأشياء لا ترغب فيها ولا تطلبها ولا تشتاق إليها وتبقى كأنها عمياء ، كما قال الله تعالى:

( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).

واعلموا أن النفس إذا عميت عن أمر عالمها ، وتوهمت أنه لا وجود لها إلا على هذه الحال التي هي عليها الآن في دار الدنيا ، فتحرص عند ذلك على البقاء في الدنيا ، وتتمنى الخلود فيها ، وترضى بها وتطمئن إليها ، وتيأس من الآخرة وتنسى أمر المعاد ، كما ذكر الله تعالى:

( ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ).

وقال سبحانه وتعالي:

( يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور).

ثم إنها إذا ذكرت بوصية الله التي جاءت على ألسنة أنبيائه ، عليهم السلام ، لا تذكر شيئاً كما قال الله تعالى:

( وإذا ذكروا لا يذكرون ).

ثم إنها تبقى في عمايتها وجهالتها وطغيانها إلى الممات ، مصرة مستكبرة كأن لم تسمعها ، فإذا جاءت سكرة الموت التي هي مفارقة النفس الجسد وترك استعمال الجسم ، وفارقته على كره منها وبقيت عند ذلك فارغة من استعمال البدن وإدراك المحسوسات ، تراجعت إلى ذاتها لتنهض فلا يمكنها النهوض من ثقل أوزارها ، ومن أعمالها السيئة وعادتها الرديئة ، كما قال الله تعالى:

( يحملون أوزارهم على ظهورهم ).

فعند ذلك يتبين لها أنها قد فاتتها اللذات المحسوسات التي كانت لها بتوسط البدن ، ولم تحصل لها اللذات المعقولات التي في عالمها ، فعند ذلك تبين لها أنها قد خسرت الدنيا والآخرة.

وذلك هو الخسران المبين وقد انقضى.

ثانيا: استقامة الطريق.

وأما استقامة الطريق ، فإن كل قاصد نحو مطلوب من أمور الدنيا فإنه يتحرى ، في مقصده نحو مطلوبه ، أقرب الطرقات وأسهلها مسلكاً ، لأنه قد علم أنه إن لم يكن له طريق قريب ، فإنه يبطئ في وصوله إلى مطلوبه ، وأيضاً فإنه إن لم يكن الطريق سهل المسلك فربما يعوق البلوغ إليه أو يتعب في سلوكه ، وإن أقرب الطرقات ما كان على خط مستقيم ، وأسهلها مسلكاً هو الذي لا عوائق به ، فهكذا ينبغي أيضاً للقاصدين إلى الله تعالى بعد تصفية نفوسهم ، والراغبين في نعيم الآخرة في دار السلام ، والذين يريدون الصعود إلى ملكوت السماء والدخول في جملة الملائكة، أن يتحروا في مقاصدهم أقرب الطرقات إليه ، كما قال الله تعالى:

( أولئك تحروا رشداً ).

وقال سبحانه:

( إن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيه ذلكم وصاكم به ).

وقال تبارك وتعالى:

( قل أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ).

ونحن نريد أن نبين ما الطريق المستقيم الذي وصانا به وأمرنا باتباعه على ألسنة أنبيائه ، صلوات الله عليهم ، ونصف أيضاً كيف ينبغي أن نسلكه حتى نصل إلى ما وعدنا ربنا ، كما قال الله تعالى:

( إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم ).

ولكن لا يمكنا بيان ذلك بالحقيقة إلا بكلام موزون ، وقياس صحيح ، ودلائل واضحة ، على مثل بيان الله تعالى وسنة أنبيائه ، صلوات الله عليهم ، بالوصف البليغ لسائر آيات الله في الآفاق وفي أنفسنا ، حتى يتبين لهم أنه الحق.

كما قال الله تعالى:

( وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون ).

وإذا فعلنا ذلك تفتحت أبواب العلوم المخزونة والأسرار المكنونة التي لا يمسها إلا المطهرون.

واعلموا أيها الإخوان أنه لا ينبغي أن يتكلم أحد في ذات الباري تعالى ، ولا في صفاته الحزر والتخمين ، بل ينبغي له ألا يجادل فيه إلا بعد تصفية النفس، فإن ذلك يؤدي إلى الشكوك والحيرة والضلال.

كما قال الله تعالى:

( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير).

( منقول بتصرف )