هل غَرَقَ فرعونُ أم نَجا مِنَ الغرقِ؟!
أُثيرَت شبهةُ حولَ قصّةِ موسى الثابتةِ في القرآنِ الكريمِ، يقولُ مُثيروها: إنّ في القرآنِ تناقضًا واضحًا حولَ نهايةِ فرعونَ...
فتارَةً يُخبرُ أنّه كان مِنَ الناجين: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ(92) (يونس).
وتارَةً يُخبرُ أنّه كان مِنَ المُغْرَقين: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ(40) (القصص).
هل كان فرعونُ وجنودُه مِنَ المُغْرَقين أم كان مِنَ الناجين؟!
الردُّ على الشبهةِ
أولًا: إنّ القولَ بأنّ في القرآنِ تناقضًا جهلٌ بيّنٌ، والسؤال هيّن...
إنّ التناقضَ الحقيقيَّ هو في الكتابِ المقدّسِ الذي به مئاتُ التناقضاتِ...حتى في هذه المسألةِ فيها تناقضٌ واضحٌ كما سأُبَيّنُ - إنْ شاءَ اللهُ -.
ثانيًا: إنّ الإشكاليةَ عند المُعترضين تكْمُنُ في سوءِ تفسيرِهم لآياتِ القرآنِ الكريمِ؛ هم يفسّرون على الظاهرِ دونَ الرجوعِ إلى كتبِ التفاسيرِ، ودونَ الجمعِ بين الآيات لِفَهْمِ المسألةِ فهمًا صحيحًا، وهذا يُخالفُ المنهجَ العلميَّ الصحيحَ، وهذا من الجهل الصريح...
وعلى كلٍّ فإنّ المقصودَ مِنَ الآيتَين يتّضحُ مِنْ خلالِ الجمعِ بينهما:
الآيةُ الأولى تقولُ: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ(40) (القصص)؛ أيْ: أنّ اللهَ أغرقَهم جميعًا وفيهم فرعونُ...
الآيةُ الثانية: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ(92) تَبَيّنَ أنّ اللهَ نجّا جسدَ فرعون فقط مِنَ اليَمِّ(البحرِ) بعد الغرقِ حتى يكونَ عبرةً لغيرِه؛ عبرةً لكلِّ مُتكبّرٍ مُتجبّرٍ في الأرضِ...
أمّا الروحُ فقد صعدَت إلى خالقِها؛ إذْ لو نجّاهُ اللهُ بجسدِه وروحِه لم يكنْ لِمَن خلفه آية، ولم يوقنِ المؤمنون بأنّ وعدَ اللهِ حقٌّ؛ لأنّ أتباع النبي موسىَ كانوا يخافونه...
أُغرِقَ ثم خرجَت جُثّتُه كي يُصدّقَ بنو إسرائيل أنّه مات؛ فيتقوَّى إيمانُهم باللهِ ثم بنبيِّه موسى، وهذا بالنسبة لهم هو عين اليقين ، وليس هناك ظن إلى حين...
جاءَ هذا التفسيرُ في كتبِ التفاسيرِ، منها:
1- تفسيرُ الجلالين: { فَالْيَومَ نُنَجِّيكَ } نُخرجُك مِنَ البحرِ { بِبَدَنِكَ } جسدَك الذي لا روحَ فيه { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ } بعدَك { آيَةً } عبرةً فيعرفوا عبوديّتَك ولا يُقْدموا على مثلِ فِعلِك. وعنِ ابنِ عباسٍ: أنّ بعضَ بني إسرائيلَ شكُّوا في مَوتِه فأُخرجَ لهم لِيَرَوْه { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ } أيْ أهلِ مكةَ { عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } لا يعتبرون بها.اهـ
2- التفسيرُ الميسّرِ: فاليومَ نجعلُك على مُرتفعٍ مِنَ الأرضِ ببدنِك، ينظرُ إليك مَن كذَّبَ بهلاكِك ; لتكونَ لِمَن بعدَك مِنَ الناسِ عبرةً يعتبرون بك. فإنّ كَثِيرًا مِنَ الناسِ عن حُجَجِنا وأدلّتِنا لَغافلون، لا يتفكّرون فيها ولا يعتبرون. اهـ
3- تفسيرُ الطبريِّ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِفِرْعَوْنَ : الْيَوْمَ نَجْعَلُكَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ بِبَدَنِكَ ، يَنْظُرُ إِلَيْكَ هَالِكًا مِنْ كَذَّبَ بِهَلَاكِكَ ( لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) ، يَقُولُ : لِمَنْ بَعْدَكَ مِنَ النَّاسِ عِبْرَةً يَعْتَبِرُونَ بِكَ ، فَيَنْزَجِرُونَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ ، وَالْكُفْرِ بِهِ وَالسَّعْيِ فِي أَرْضِهِ بِالْفَسَادِ. اهـ
ثالثًا: إنّ الإشكاليّةَ الحقيقةَ والتناقضَ البيّنَ هو ما جاءَ في الكتابِ المقدّسِ ؛
فنصٌ يقولُ: إنّ الجميعَ غرقوا ولم ينجوا ولا واحدٌ.
ونصٌّ آخرٌ يقولُ: غرِقَ الجميعُ إلا واحدًا !.
جاءَ في كتابِ:(حقائقِ الإسلامِ في مواجهةِ شبهاتِ المشكّكين) ما يلي:
إنّ المؤلِّفَ لم يُفسّرْ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ على المعنى الظاهري. وهو إبعادُ الجُثَّةِ عنِ الهبوطِ في اليَمِّ، وترْكُها على الشاطئِ حتى يضعَها المُحنّطون في المقبرةِ فَيَراها كلُّ المِصرِيِّين فيَعتبروا ويتّعظوا. وفسّر على المعنى المجازي كنايةً عن إفلاتِه مِنَ الغرقِ. ووجْهُ الشبهةُ على المعنى المجازي وليس على المعنى الحقيقي.
وهذه معجزةٌ حيثُ أنّ العلمَ الحديثَ أثبتَ أنّ جُثّةَ فرعونَ موجودةٌ إلى وقتِنا هذا ولكنْ نُكملُ
والمعنى المجازي الذي به وجْهُ الشبهةُ؛ موجودٌ في التوراةِ عن فرعونَ. ففيها أنّه لم يغرقْ، وموجودٌ فيها ما يدلُّ على غرقهِ. وهذا هو التناقضُ الذي نسبَه إلى القرآنِ. وسوف نُبيّنُ ما في التوراةِ مِنَ التناقضِ عن غرقِ فرعونَ. ونسألُه هو أنْ يُوفّقَ بين المعنَيَيْن المتناقضين. وما يُجيبُ به في التوفيقِ؛ يكونُ إجابةً لنا.
ففي الإصحاحِ الرابعِ عشرَ مِن سفرِ الخروجِ: " فرجَعَ الماءُ وغطّى مركباتِ وفُرسانِ جميعِ جيشِ فرعونَ الذي دخلَ وراءَهم في البحرِ. لم يبقْ منهم ولا واحدٌ " وفى الإصحاحِ الخامسِ عشرَ مِن نفسِ السفرِ: " تُغطّيهم اللججُ. قد هبطوا في الأعماقِ كحجَرٍ " وفى تفسيرِ التوراةِ ما نصُّه: " ولا سبيلَ لنا هنا إلى الحكمِ بغرقِ فرعونَ، إذ لا دلالةَ عليه في هذا النبأِ، ولا مِن قَولِ المرنِّمِ [ مز 78: 53 و106: 11] وساقَ المفسّرون أربعَ حُججٍ على عدمِ غرقِه. ومعنى قولِهم: إنّ قولَ المرنِّمِ لا يدلُّ على غرقِه هو: أن داوُدَ في المزمورِ 78 والمزمورِ 106 قال كلامًا عن فرعونَ لا يدلُّ صراحةً على غرقِه.
ونصَّ 78: 3 هو " أمّا أعداؤُهم فغمرَهم البحرُ " ونصّ 106: 11 هو " وغطّتِ المياهُ مُضايقيهم. واحدٌ منهم لم يبْقَ ".هذا عن عدمِ غرقِ فرعونَ. وأمّا عن غرقِه ففي المزمورِ 136: 15 " وَدَفَعَ فِرْعَوْنَ وَقُوَّتَهُ فِي بَحْرِ سُوفٍ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ " وفى ترجمةٍ أخرى: " أغْرقَ فرعون وجيشه في البحرِ الأحمرِ إلى الأبدِ رحمته،راجِعْ(جمعيةَ الكتابِ المقدّسِ في لبنانَ سنةَ 1993م) " ومُفسّرو الزبور ـ وهم أنفسُهم الذين صرّحوا بعدمِ غرقِ فرعونَ ـ كتبوا عن فرعونَ: " فإنّ هذا الأخيرَ قد حاولَ جَهْدَ المُستطاعِ أنْ يُرجعَ الإسرائيليِّين إلى عبوديّتِهم؛ فما تمَّ له ما أرادَ، بلِ انْدَحَرَ شرَّ اندحارٍ " انتهى.
ومِن هذا الذي قدّمتُه يكونُ مِنَ الواجبِ على المؤلّفِ حلَّ التناقضِ الموجودِ عنده في أمرِ فرعونَ، قبلَ أنْ يُوجّهَ كلامَه إلى القرآنِ. اهـ
رابعًا: إن قصّةَ غرَقِ فرعونَ الثابتةَ في القرآنِ الكريمِ كانت سببًا في إسلامِ العالمِ الجراحِ الفرنسيّ (مُورِيسَ بُوكَايْ) بعد اكتشافِه سببَ حِفْظِ جثّةِ فرعون طِبْقًا للقرآنِ الكريم، يُمكنكم المتابعة على الإنترنت...
كتبه / أكرمُ حسن مرسي
نقلًا عن كتابي : ردّ السهام عن الأنبياءِ الأعلام، بعد المراجعة.
المفضلات