تزايدتِ الشُّبُهات ضِدّ الإسلام والمُسلِمين وتنوّعت وارتفع صوتُها وعلا ضجيجُها، فمنها ما كانت صريحة مُجاهِرة بالعداء، ومنها ما غُلِّفت بغلاف يُخفي سُمًّا زُعافًا، ومِن هذه الأخيرة شُبُهةٌ طُفوليّةٌ هدفُها واضحٌ جليٌّ -ولو أنها تَستَّرت بغلافٍ قوميٍّ وعِرقيٍّ- وهو ادّعاء أنَّ العربَ لم يكن لهم وُجودٌ في التأريخ في بلاد الشام والعراق، وأنَّ الناطقين بالعربيّة اليومَ نطقوها نتيجةَ الاحتلال العربيّ حسب قولهم، وهم يقصدون الإسلاميَّ الذي خرج من شبه الجزيرة العربيّة.
وأغلبُ مَن يُروِّج لهذه المفاهيم هم أنصارُ [الحزب القوميّ الاجتماعيّ] أو المُتأثِّرون بخطابه العُنصريّ في العراقِ وسوريةَ ولبنانَ ومِصرَ، وبنمطٍ آخرَ عند المغاربة والأكراد، وهؤلاء أصحابُ نظرةٍ فوقيّةٍ وتعصُّبٍ أعمًى، وحقيقته [تعصُّبٌ دينيٌّ بغطاءٍ قوميّ].
– وُجوبُ تحديدِ مفهومِ العُرُوبةِ المُعاصِر للتمكُّنِ مِن الرّدّ عليهم.
صِفة العرب الحاليّة تختلفُ عمّا كانت عليه قبل قرون، فأثناءَ الحرب العالميّة الأولى عَمِلَتْ فرنسا وبَريطانيا على إحياء مفهومٍ قوميٍّ يُعادي [الأتراكَ] ليَدعمَ تفتيت دولتهم، وهو مفهوم العُرُوبة، وهو مفهومٌ وهميٌّ بالفعل، قد دعّموا كلَّ مَن يَنطِق العربيّة وأوهموه أنه عربيٌّ وأنَّ الدولةَ العربيّةَ يَجبُ أنْ تأخذَ مكان [الأتراك المُحتَلِّين] حسب وصفهم، وخرجَتْ بعد ذلك الأحزاب القوميّة كـ [البعث]، وأوهمَتِ الناسَ في المناهج أنَّ جميعَ الشُّعوب في العراقِ وسوريةَ شعوبٌ هاجرت مِن اليَمنِ قبلَ آلاف السنين، وهذه معلوماتٌ خاطئةٌ حُشِيت في رءوسِ الأطفالِ في المرحلة الابتدائيّة ودَحَضَتها جميعُ الدراسات، وهذه المعلوماتُ الوهميّةُ مِن أسباب انبثاق هذهِ الدَّعواتِ المُتطرِّفةِ ضِدَّ العرب.
بدايةً مِن العصرِ الرَّاشديِّ حتى القُرونِ المُتأخِّرة، يُطلَق على أحدهم عَربيٌّ إنْ كانت قبيلتُه ونَسَبُه مَعروفَين، بينما الآن تبدّلَتِ الحالُ ليكونَ كلُّ مَن يَنطِق بالعربيّة عربيًّا، وهذا ما يَعترِضُ عليه بعضُ أعداء الإسلام، سواءٌ أكانوا من أديانٍ أخرى أم علمانيِّين يَنسِبون أنفسهم للإسلام، ومعهم حقٌّ في ذلك، لكن بات مِن الصَّعب أنْ نقولَ عن ملايينَ أنهم ليسوا عربًا، وفي نفسِ الوقتِ لا يَصِحُّ أنْ نقولَ أنَّ جميعَهم عربٌ؛ فالشرقُ الأوسط أكثرُ منطقةٍ شَهِدت تداخُلًا ثقافيًّا وعِرقيًّا في العالم، ويَصعُبُ التفتيش في الدماء والأعراق، لكنَّ تفتيشَ التأريخ أنفعُ وأفضلُ، وما يَجبُ أنْ يُجمَعَ عليه أنَّ دُولَنا اليومَ عربيّةُ الثقافةِ، لا عربيّة العِرقِ بالكامل.
لكنَّ بعضَهم يَسعى -بسبب نظرةٍ دينيّةٍ حاقدةٍ- إلى نسفِ الوُجودِ التأريخيّ السياسيّ للعرب أكثرَ مِن الوُجودِ العِرقيِّ، وإذا أراد أنْ يُناقِشَ أحدُهم الوُجودَ التأريخيَّ السياسيَّ للعربِ، فالدُّولُ معروفةٌ لا غُبار يُغطِّيها قط، سواءٌ أكان ذلك في المكتباتِ أم المتاحف أم غيرها.
– الوجودُ العربيُّ في العراقِ والشامِ.
العربُ في العصرَين [الهلنستيِّ والرومانيِّ] كانوا قومًا من الحَضَرِ أنشئوا مُدُنًا ومَمالكَ عِدّةً، منها مملكةُ [الأنباطِ] ومملكةُ [تدمرَ] ومملكةُ [الحضرِ] في الجزيرةِ الفراتيةِ وتُسمَّى [عربايا]. هذه أشهرُ الكِياناتِ العربيّةِ التي قامت في بلادِ الشامِ والعراقِ، وكانت لهم مُقاطَعاتٌ مُتحضِّرةٌ، مثل [إيطوريا] في لبنانَ وامتدَّت إلى أجزاءَ في فِلسطينَ وسوريةَ، أمّا البدوُ فهُم جُزءٌ صغيرٌ مِن العربِ، امتهنوا هذه المِهنةَ لحمايةِ القوافلِ التجاريّةِ التي كانت تَقطَعُ البواديَ والبلادَ الصحراويّة.
– وُصولُ تأثيرِ العربِ الأنباط الثقافيِّ إلى المِصريِّينَ قبلَ الإسلام.
المصادرُ القديمةُ كانت تُطلِقُ على المنطقةِ الشرقيّةِ مِن الدلتا اسمَ [ألعربيا]، وكان سُكّانُها عربًا أنباطًا، ولهجةُ الأنباطِ موجودةٌ الآنَ في عُمقِ اللهجةِ المِصريةِ، إذ كان الأنباط يَقلِبون الجيمَ كافًا كالمِصريِّينَ اليومَ، بل حتى صيغةُ الفِعلِ المَبنيِّ للمَجهولِ هي ذاتُها، فيَقولُ المِصريُّ مثلًا: [ضرب: يتضرب، وشرب: يتشرب]، وهذه مِن قواعدِ اللُّغةِ النَّبطيّةِ، وللتأكُّدِ مِن ذلك يُمكِنُ مُراجَعةُ كتابِ [قواعدِ اللغةِ النَّبطيّةِ، ص46] تَجِدُ رابطَ تحميلِه في المصادر، حيث ستَلحَظُ التطابُقَ بينها وبينَ اللهجةِ المِصريّةِ الحاليّة.
– شخصيّاتٌ عربيّةٌ شهيرةٌ مِن هذه المناطقِ قبلَ الإسلامِ.
أمّا الشخصيّاتُ العربيّةُ الشهيرةُ قبلَ الإسلامِ، فلا يُنكِرها إلا جاهلٌ بالتأريخ، فمَن مِنّا لا يَعرِف [فيليبَ العربيَّ]؟! فمِنطقةُ [حُورانَ الكُبرى] المُمتَدَّةِ مِن شمالِ الأردنِ إلى شمالِ درعا والسويداءَ في سوريةَ وأجزاءَ مِن فلسطينَ، كانَ يُطلَقُ عليها في العَصرِ الرّومانيِّ [أرابيا بروفنسا] أي الولاية العربية، ومِن هذه الولاية خَرَجَ كثيرٌ مِن الفلاسفةِ والشُّعراءِ الذين كتبوا باللغة اليونانية، وخَرَجَ منها إمبراطورٌ يُدعى [فيليبَ العربي].
[جوليا دومنا] السوريّةُ الحِمصيّةُ المُلقَّبةُ بـ [القيصرة] زوجةُ القيصرِ الرّومانيِّ [سيبتيموس سيفيروس]، كانت عربيّةً، وكانت عائلتُها كهنوتيةً تَرتكِزُ عِبادتُها على الحجرِ الأسودِ، والحجرُ الأسودُ رُكنٌ أساسيٌّ مِن أركانِ الدّيانةِ العربيّةِ القديمةِ، وشقيقاتُ [جوليا دومنا] وبناتُ شقيقاتِها جميعُهنّ يَحمِلْنَ أسماءَ عربيّةً، مثلَ [مَيْسَا وسُميّةَ وسُحَيمَةَ وأُميّةَ].
وذلك كُلُّهُ عَكسُ ما تُصوِّرُه مناهجُ حِزبِ [البعث]، فالعربُ لم يأتوا مِن اليَمنِ ليَنتشِروا كالجَرادِ في الشرق الأوسط. العربُ نشئوا في سوريةَ الجنوبيةِ، وسوريةُ الجنوبيةُ كانت تَمتَدُّ حتى أجزاءَ كبيرةٍ مِن شمالِ السَّعوديّةِ قبلَ التحديدِ الاستعماريِّ للحُدود، وآلهةُ العربِ -التي زعموها- كانت ذاتَها في سوريةَ، واليَمنيّون لم يَعرفوا أنفسهم كعربٍ إلا بعد الإسلام عندما تبنّوا لُغةَ قُريشٍ كَحَلٍّ لاختلافِ لَهَجاتِهم ولُغاتِهم، واختلطوا ببقيّة القبائل، ونشأ الصِّراعُ بين الجنوب والشمال، وليس مكانُ مُناقَشتِه هنا.
ليس الغرضُ مِن هذا الكلام إظهارُ أنَّ العربَ كانوا مُهيمِنِين على كامل الشرق الأوسط، والعربُ شعبٌ من الشعوبِ الآراميةِ كالسِّريانِ والعِبرانيِّين، وبينهم رَوابطُ لُغويةٌ وعِرقيّةٌ مُتداخِلة، ومَن يُنكِرها له أيديولوجيّةٌ مَبنِيّةٌ على أساسٍ دينيٍّ وقوميٍّ عُنصريّ.
وكمثال على ذلك سنستشهد بنقلٍ عن [ابنِ حَزمٍ الأندلسيِّ] أحدِ أكبرِ عُلماءِ الأندلسِ، وكان مُتقِنًا العَربيّةَ والعِبريّةَ والسِّريانيّةَ، في كتابه [الإحكامُ في أُصولِ الأحكامِ] يَقولُ:
“الذي وَقفنا عليه وعَلِمناهُ يَقينًا أنَّ السِّريانيّةَ والعِبرانيّةَ والعَربيّةّ التي هي لُغةُ رَبيعةَ ومُضرَ لا لُغةُ حِميرَ، لُغةٌ واحدةٌ تَبدَّلت مَساكِن أهلِها، فحَدَثَ فيها جرشٌ كالذي يَحدُث مِن الأندلسيِّ إذا رَامَ نغمةَ أهلِ القَيروانِ، ومِن القَيروانيِّ إذا رَامَ نغمةَ الأندلسيّ. فمَن تَدبَّرَ العَربيّةَ والعِبريّةَ والسِّريانيّةَ أيقنَ أنَّ اختلافَها إنّما هو مِن نَحوِ ما ذكرنا مِن تبديلِ ألفاظِ الناسِ على طولِ الأزمانِ واختلافِ البُلدانِ ومُجاوَرةِ الأمم، وأنّها لُغةٌ واحدةٌ في الأصل” اهـ
حتى الخليجُ الذي تارَةً يُطلَقُ عليه [العربيُّ] وتارَةً [الفارسيُّ]، كان أصلًا يَعُجُّ بالسِّريانِ، وللسِّريانِ مُدُنٌ تاريخيّةٌ مُمتَدّةٌ مِن الكُوَيتِ حتى منطقةِ بني ياسَ في الإمارات، وبَقَوا في الخليج حتى أبادَهُم القَرامِطةُ في عهد العبّاسيّينَ؛ إذًا، فالجزيرةُ العربيّة لم تَكُن للعَرَبِ وَحدَهم أيضًا، ولدينا مدينةُ [نجرانَ] في السَّعوديّةِ، كانت مدينةً سِريانيّةً تَدينُ بـ [النّصرانيّةِ]، وقد قَدِمَ وفدٌ منها إلى الرّسولَ ﷺ، وتُوجَدُ وثيقةٌ لذلك اللقاء.
– إذًا، لا يُوجَدُ أيُّ عِرقٍ أو شعبٍ يَحتكِرُ الشرقَ الأوسطَ.
يَقعُ اللّومُ الأكبرُ -بالتأكيد- على الأحزابِ [القوميّة] التي نَشرَتِ الأوهامَ المُتعلِّقةَ بالقوميّةِ العربيّةِ، وأسَّستْ لنظرةٍ مُتعصِّبةٍ مُقابِلةٍ تَحتقِرُ العَرَب لم نسمع بها قبلَ رحيلِ العثمانيّينَ، حيث كانت تَعيشُ العِرقيّاتُ والقوميّاتُ دون هذا التناحُرِ والتّشنُّج، بل كان للعجمِ -غيرِ العربِ- في الإسلامِ أن يَصِلوا إلى أعلى المراتبِ في قيادة الدولةِ والجيشِ، كصلاحِ الدينِ الأيّوبيّ [الكرديِّ]، وطارقِ بنِ زيادٍ [الأمازيغيِّ]، على عكسِ الحَمَلاتِ الصَّليبيّة في [أمريكا] و[أستراليا] التي أبادت الهُنودَ الحُمرَ والسّكّانَ الأصليّين.
وكما ذكرنا في البداية، لم نَسمَعْ بدولةٍ فلانيّةٍ عربيّة، كانت البلادُ على اسمها المَعروف، فالأمويّونَ والعبّاسيّونَ وما بَعدَهم مِن الدُّولِ لم يُلصِقوا صِفةَ العُروبةِ بالدُّولِ التي حَكَموها، إنما رأينا هذا بعد الاحتلالِ البَريطانيِّ الفرنسيِّ واقتسامِهم الدَّولةَ العُثمانيّة، فالمفهومُ القوميُّ العربيُّ لم يَنشأ إلا في مائةِ العامِ الأخيرةِ على أيدي عُملاءِ الاحتلال، أمّا مَن كان لديه احتقارٌ للعَرَبِ قبلَ هذه الفترة فهذا يَعودُ لجَهلِه بالتاريخِ والجُغرافيا ولعُنصريّته.
المصادر:
قواعد اللغة النبطية
من الدراسات التوراتية
المساهمون في الموضوع
أبو تيم المسلم
محمد المسلم
المفضلات