وقفات مع سورة النساء - الشيخ محمد نصيف
أقسام السورة هذه السورة يمكن تقسيمها إلى قسمين. هي ثاني أطول سورة من ناحية عدد الصفحات وليس عدد الآيات لأن آياتها أقل من آيات سورة آل عمران ولكنها أطول من سورة آل عمران وسورة الأعراف طويلة قريبة من سورة النساء. هذه السورة الطويلة نقسمها – وهذا التقسيم كما هو معلوم عند من كتبوا في علوم القرآن - ليس تقسيمًا متفقًا عليه لا يتجاوزه أحد وإنما يستطيع الإنسان أن يتأمله ويدرك شئيًا آخر لكنه تقسيم يعين الإنسان -وينبغي للإنسان وهو يقرأ القرآن أن يتدبر- يعينه على التأمل والتدبر في الآيات. فالقسم الأول في السورة يدور حول آية واحدة موجودة في وسط هذا القسم الأول الذي يمتد أكثر من 135 آية، آية واحدة تأتي في منتصف هذه القسم وتقسمه إلى قسمين. يقول الله سبحانه وتعالى في هذه الآية وهي آية عظيمة حقًا يقول عز من قائل (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)) لو تأملنا الآيات قبل هذه الآية تجدها كلها تقريبًا تنصبّ في قوله تعالى (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) ذُكر فيها أموال اليتامى وغيرها من الأمور التي تؤددّى فيها الأمانة إلى أهلها: الميت عندما توزّع تركته إلى غير ذلك مع ربط كل ذلك بالتقوى لأن التقوى هي الأساس والإنسان مهما وضعت القوانين لا يستطيع من يضع القانون أن يجعل رقيبًا على كل أحد وإنما تبقى تقوى الله هي التي تعصم الإنسان من الزلل. والله سبحانه وتعالى أعطى الحكم وترك للناس الخيار قال بعدما ذكر آيات المواريث (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿١٣﴾ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴿١٤﴾) فإذن الرقابة متروكة، كل واحد يراقب الله سبحانه وتعالى ولكن الأحكام تُذكر وتُربط بالتقوى كما هو ظاهر في الآيات. الآيات قبل هذه الآية تتكلم عن تأدية الأمانات إلى أهلها. والقسم الثاني بعدها بقية القسم الأول، في الجزء الآخر من الآية قال (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) ما قبل هذه الآية عن تأدية الأمانة وما بعدها عن الحكم بين الناس بالعدل وهذا يحتاج إلى وقفات مع الآيات. النداءات في السورة وهذه السورة تتميز بكثرة النداء وإذا سمع المؤمن نداء من الله هذا شيء مفرح، أنت تفرح لو اتصل بك أو ناداك مسؤول أو شخص له مكانة خاصة إذا كنت تعرف أنه سيناديك ليعطيك ليرشدك، ليهديك، ليدلّك، ليكرمك، ليعينك، لينير لك الطريق، هذه هي نداءات الله. فالله سبحانه وتعالى ينادينا في هذه السورة نداءات كثيرة بدأ أول نداء في قوله تعالى في أول السورة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ) وفي آخر السورة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) وبينها أكثر النداءات جاءت للمؤمنين ولو تأملت في هذه النداءات قبل آية (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) لوجدتها تتعلق بالأمانة. يقول الله سبحانه وتعالى في أربع نداءات قبل هذه الآية (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) قال بعض الدعاء: هذه الآية لو طبّقتها الأمة لانتهى الغشّ وانتهى تضييع الأمانة بكل صوره مع أن الأمانة الآن تبحث عن الشخص الأمين. أحيانًا تتأخر في إصلاح شيء في بيتك أو في سيارتك لأنك تبحث عن شخص أمين، والبعض يقول بمجرد أن أغفل للحظات عن العمال الذين يبنون عمارتي يبدأوا بالغشّ في مدينة رسول الله والكل مسلمون! الأمانة! (إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) كافية لتأدية الأمانة. ثم جاء النداء الثاني يقول سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا (19)) وهذا أيضاً فيه تأدية للأمانة. ثم قال سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)) وهذا فيه الأمانة أيضًا. ثم قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)) إلى آخر الآيات التي تذكر الوضوء والغسل من الجنابة وهو أمانة كما ذكر المفسرون فمن يعرف إذا توضأ الإنسان أم لم يتوضأ؟! هذه أمانة ورقابة شخصية بين الإنسان وبين ربّه، إن أدّاها أفلح وإلا خسر. فهذه الآيات كلها تدور حول الأمانة والعجيب فيها مع أنها كلها آيات أحكام إلا أن كل قسم منها كان يُختم بآيات تذكر الإنسان بالتوبة وتذكره بالرجوع إلى الله وتذكره بالجنة والنار. في نهاية القسم الأول يقول الله سبحانه وتعالى (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17)) هذه الآية غريبة في السياق وقبلها آيات عن الأحكام ثم جاءت هذه الآية (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)) ثم جاءت آيات في الأحكام ثم جاءت الآية (يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا (27)) ثم ذكرت آيات أخرى في الأحكام ثم قال الله سبحانه وتعالى (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا (41)) ثم جاءت آيات في الأحكام ثم قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴿٥٦﴾ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا ﴿٥٧﴾) القصد أن هذه الآيات مع أنها من آيات الأحكام التي نزلت في المدينة إلا أنها ملئت بالتذكير بالتوبة وبالجنة والنار لأن الإنسان لا يمكن أن يستقيم على الأحكام إلا إذا علِم عَظَمة ذي الجلال والإكرام سبحانه وتعالى. (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) ما قبلها يدور حول الأمانة وما بعدها يدور حول الحكم بين الناس بالعدل. هنا يحصل خلل كبير. كيف يمكن أن يقام العدل؟ لا يمكن أن يقام العدل إلا إذا اتُّبِع شرع الله، إقامة العدل التام لا يمكن، محكمة العدل الدولية لا يمكن أن تقيم العدل في الأرض لأنها لا تحكم بشرع الله، الذي يحكم بشرع الله تامًا كما أنزله الله هو الذي يقيم العدل في الأرض. وجاءت هنا الآيات يقول الله سبحانه وتعالى في أولها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) إذا اختلفتم بالحكم (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴿٥٩﴾) هذا الرد إلى الله والرسول للمؤمنين أما غيرهم فليس الشأن شأنهم. ثم قال بعدها (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴿٦٠﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ﴿٦١﴾) إلى آخر الآيات التي تبين وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ومنها قوله (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴿٦٥﴾) كل هذا يرجع إلى (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ). ولما ذكر الله الطاعة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ذكر أشقّ طاعة على النفوس وهي طاعة لا يمكن أن يقام العدل إلا بوجودها قال عزّ من قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ﴿٧١﴾ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) خذوا حذركم عند القتال (فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ﴿٧١﴾ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) يُذكر المنافقون لأن المنافقين يكرهون الجهاد ولا يؤمنون أن الذي يُستشهد ينتقل إلى ما هو خير له من هذه الدنيا، طمعهم وآمالهم منحصرة في هذه الدنيا وفي سورة الأنفال وفي سورة التوبة خصوصًا وفي سورة محمد يُذكر المنافقون بكثرة لأن هذه السور يُذكر فيها الجهاد والجهاد شوكة أو غُصّة في حلوق المنافقين. ذُكر القتال هنا لأنه لا يمكن أن يقام العدل إذا تُرك الظالم يفعل ما يشاء ولم يقم الجهاد للدفاع عن المسلمين وقد قال الله في هذه الآيات (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ﴿٧٥﴾) من يقيم العدل ويعطيهم حقوقهم إلا الذي يقيم الجهاد، لذلك ذُكر الجهاد في هذا الجزء وهو جزء من الحكم بين الناس بالعدل
اللهم نصرك لغزة الذي وعدت
المفضلات