

-
نشأة البابوية
المقدمة: الحمد لله القائل: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد : 27] نحمده ونستعينه - سبحانه وتعالى - ونثني عليه وحده لا شريك له؛؛؛ لا يمكن للباحث في التاريخ الأوروبي أن يغفل دور الكنيسة في بناء العصور الوسطى, فمن أهم مميزات العصور الوسطى الأوربية الديانة المسيحية التي جاءت كرد فعل للتاريخ القديم وديانته الوثنية التي تدعو إلى الحرية والانطلاق بحكم تعدد الآلهة. إذ كانت تدعوا إلى التمتع بالحياة في شتى صورها ومظاهرها. وجاءت المسيحية لتقول: أن الحياة الدنيا عبارة عن مطية زائلة إلى الدار الثانية, دار الخلد والنعيم المقيم, وأنه يجب على الفرد أن يعيش على الصلاة والتبتل والتقشف وأن يبتعد عن مباهج الحياة وملذاتها, وعلى هذا نرى أن الديانة المسيحية قد صبغت الحياة والفكر في القرون الوسطى بصبغة خالصة تركت أثرها في مختلف نواحي النظام والحضارة. ذلك أن النظرة المحدودة الضيقة للأمور في نطاق هذا الدين وفلسفته والكنيسة اللاتينية وتعاليمها, والتي كان الفرد أسيرها مئات السنين, جعلت الناس يغطون في نوم عميق وجعلتهم لا يفكرون في استنباط قوانين الطبيعة وأماتت فيهم الأصالة وروح الخلق والإبداع. وغير خاف أن هذا العصر يعتبر في الغرب اللاتيني عصر تسلط الكنيسة الرومانية اللاتينية على الشعب ومقدراته وعلى إرادته وتفكيره وعلى حياته الخاصة والعامة, واعتبار كل من يخرج على أوامرها ونواهيها مهرطقاً يقع عليه أشد العقاب, كما ارتبطت العصور الوسطى بفكرة أن العالم المسيحي الغربي كان عبارة عن وحدة كبرى في مجموعة يحكمه الإمبراطور من الناحية الزمنية والبابا من الناحية الروحية. وهذه الوحدة لها كنيسة واحدة متغلغلة في كيان الأمم والشعوب والطبقات وهي كنيسة روما الكاثوليكية,ولها لغة رسمية واحدة وهي اللغة اللاتينية, ولها عاصمة روحية واحدة وهي روما. ومن هذا المنطلق فقد آثرت على نفسي اختياري هذا الجانب المهم من تاريخ أوروبا في العصور الوسطى, مجالاً للبحث, تحت عنوان(نشأة البابوية) وذلك لدراسته دراسة تاريخية تحليلية. يشتمل هذا البحث على: تمهيد وفصلين, كل فصل منها يحتوي على مبحثين, وينتهي البحث بالخلاصة. وقد جاء التمهيد بعنوان: تطور الفكر الديني الروماني؛ حيث يوضح لنا الجانب العاطفي الديني في الإمبراطورية الرومانية الوثنية, هذه العبادة التي جعلت العالم الروماني يشعر بنوع من الفراغ أو الجدب الروحي, مما دفعهم إلى الاتجاه نحو الفلسفة والتأثر بالديانات والفلسفة الإغريقية, والتطلع إلى كنوز الشرق الروحية وعباداته المختلفة, والتي كان على رئسها المسيحية, والتي لم تسلم ولم تبق على صفائها حيث تعرضت للتحريف والتبديل فأثمرت ثماراً أو محاصيل أخرى. ويدور الفصل الأول حول: المسيح عيسى بن مريم (ع) حيث يوضح لنا المبحث الأول: القصص الحق وذلك من خلال ما ذكره الله عزوجل في القرآن الكريم عن عبده ورسوله عيسى بن مريم. أما المبحث الثاني فيتناول سيرة المسيح من خلال ما ورد في المصادر التاريخية, حيث يوضح لنا نشأة المسيح والظروف المحيطة به وسبب كفر اليهود برسالته والعمل على قتله وما يتعلق بالإنجيل من أخبار أيضاً. وجاء الفصل الثاني تحت عنوان: المسيحية في أوروبا, حيث يوضح لنا المبحث الأول: ما أصاب المسيحيون من اضطهاد, ويوضح لنا أيضاً أسباب هذا الاضطهاد ودوافعه, كما يوضح النتائج السيئة لهذا العنف الذي تعرض له المسيحيون, ويوضح أيضاً النتائج العكسية التي خدمت المسيحية. أما المبحث الثاني: فيوضح لنا ويفصل النشأة للبابوية وكيف استطاعت الكنيسة أن تنظم نفسها تنظيما أداريا على أسس مدنية, حتى أصبحت دولة داخل الدولة, وحتى أصبحت القوة الروحية التي تضاهي القوة القيصرية. ويختم الباحث بحثه بخلاصة لأهم النتائج التي يمكن استنباطها من هذه الدراسة. هذا ومن الله التوفيق التمهيد-تطور الفكر الديني الروماني: لقد سادت العدالة والحرية في ظل النظام الحكومي العاقل الذي حرص الأباطرة الصالحون على إقامته ونشرة في كافة ربوع الإمبراطورية الرومانية أبان القرن الثاني الميلادي, وتحقق للمواطنين حقوق ومزايا لم تكن في الحسبان, وساد الأمان والطمأنينة وشعر الناس لأول مرة برعاية الدولة لهم. ومن خلال تأمين الحدود من خطر البرابرة المهاجمين عاش رعايا الإمبراطورية الرومانية في هدوء بال وسلامة حال, لا يقلقهم شيء على الإطلاق مادمت الحكومة تشغل بالها بمسئوليتها الكاملة في رعاية مواطنيها اجتماعياً وثقافياً. وإزاء هذا وجد الناس وقتا ليفكروا في الجانب العاطفي الديني, وفي الروح والخلود, ووجدوا تحت أمرتهم كنوز الشرق الروحانية وعباداته المختلفة التي تشفي عطشهم النفساني والروحي.[1] كانت حينذاك الإمبراطورية الرومانية كلها تسعد بالوثنية وتقدم القرابين للآلهة - وكان الكهنة خلال هذا المناخ هم المستفيدون بهذه القرابين, وكان الشعب يبذل الغالي والنفيس من أجل غسل الخطايا ورفع الذنوب والخلاص من كل ما ارتكبوه من آثام.[2] ولكن مع الوقت أخذ العالم الروماني يشعر بنوع من الفراغ أو الجدب الروحي, فالرومان أنفسهم بدءوا ينظرون إلى عبادة الدولة الرسمية وتقديس الأباطرة, على أنها أمور شكلية, مما دفع المثقفين منهم بوجه خاص إلى الاستخفاف بالعقائد الدينية - سواء كانت يونانية أو رومانية - ومن ثم أخذ بعضهم يتجه نحو الآراء التي نادى بها الرواقيون,[3] حيث تمسكت الطبقات العليا المثقفة بالرواقية وذلك بما تنطوي عليه من الأخلاق والأيمان بكل الآلهة, كما اعتقدت في وجوب اتخاذ التصوف الأفلاطوني وكذلك الأفلاطونية الحديثة والغنوصية, وهكذا صار للفيلسوف منزلة سامية بين الناس باعتباره ناصحاً روحياً وشافياً للآلام النفسية, وصارت مهمته تشبه مهمة رجال الدين.[4] ولكن حتى هذه التعاليم الرواقية أخذت هي الأخرى تبدو تدريجيا أضعف من أن تشبع الحاجة الروحية للمثقفين نظراً لما امتازت به من تطرف في الجمود والمنطق فضلاً عن بعدها عن الآفاق السماوية.[5] ومن الجدير ذكره أنه وفي خلال فترة أتساع الإمبراطورية الرومانية تغلغلت التأثيرات الأغريقية في الديانة الرومانية, وسلك هذا التغلغل الطريقين المألوفين من قبل وهما: تشبيه الآلهة الرومانية بالآلهة الأغريقية المتماثلة في الخصائص, والأغتراف من الأساطير الدينية الأغريقية وأصبح الرومان يعترفون رسمياً بمجموعة من الآلهة والتي تماثل الآلهة الأغريقية ألأثنتي عشرة التي كانت تؤلف مجمع آلهة أولومبوس. وكانت النتيجة الطبيعية لذلك هي أن الآلهة الرومانية غير المجسدة اتخذت أشكالاً آدمية مثل الآلهة الأغريقية, مما أدى إلى كثرة الطلب على إنتاج تماثيل للآلهة الرومانية على غرار تماثيل الآلهة الإغريقية. وكذلك بدأ الرومان ينشئوا رسمياً أعياداً دينية جديدة وبعض المذاهب الدينية الجديدة أيضاً .[6] وبالتدريج ازدادت الأعياد الدينية الرسمية وازدادت كذلك مظاهر البهجة التي كانت تتخللها, وقد استغلت الطبقة الحاكمة هذه المظاهر لكسب رضا وعرفان الطبقات الدنيا. وكان من أبرز أمثلة العبادات الجديدة التي دخلت الديانة الرومانية الرسمية عبادة الأم الكبرى قوبلي, وتم نقل الحجر الأسود - الذي كان يعتقد أنه موئل هذه الآلهة - من معبد الأم الكبرى في بسينوس بآسيا الصغرى إلى روما. ومع ذلك كله فان السياسة العامة للطبقة الحاكمة الرومانية اتجهت نحو الحد من طغيان التأثيرات الأجنبية على العبادة الرومانية. [7] أما عن كنوز الشرق الروحانية وعباداته المختلفة التي تشفي عطشهم النفساني والروحي, فقد وجد الرومان ثلاث عبادات تشبع متطلباتهم في الفردية والخلود وهي: المسيحية, وعبادة الربة المصرية ايزيس, وعبادة الرب الشرقي مثراس والذي كانت تقوم عليه الديانة المثرية باعتباره رب النور والنار, وهو رب فارسي الأصل انتشرت عبادته في مقاطعات الإمبراطورية الرومانية الشرقية, حيث كانوا يعتقدون انه سيشفع لهم في يوم القيامة أمام رب النور الأكبر.[8] أما عبادة الربة المصرية ايزيس شقيقة لاوزوريس وأمُا للطفل حورس وهو ثالوث معروف. ويجب أن نعترف أن عبادة ايزيس ومثرا قد أثرتا في المرحلة المبكرة لظهور المسيحية خاصة من ناحية الشعائر والممارسة, وبينما كانت العبادتان الوثنيتان السابقتا الذكر تنتشران بين المثقفين والجنود, كانت المسيحية تنتشر بسرعة بين الفقراء المعوزين والمظلومين الذين يطلبون الخلاص من هذا العالم الظالم على يد ابن الرب - حسب زعمهم - خاصة بين رعايا الإمبراطورية في الولايات الشرقية.[9] ويمكن تقدير العناصر الرئيسية قبل المسيحية بأربعة عناصر: العنصر الأول: وهو الفلسفة التي تحتوي على قدر عظيم من دروس الأخلاق, ولكنها في جوهرها دروس أكاديمية, فضلاً عن قصورها عن الوصول إلى مستوى الرجل العادي. أما العنصر الثاني: فهو دين الدولة الذي تظاهر به الرجل العادي بوصفه أمرا رتيباً روتينياً. ولكن هذا الدين لم يعمد قط إلى تدريس الأخلاق أو حتى التظاهر بذلك, إذ كان دينا رسميا بحتا فحسب. والعنصر الثالث: هو العبادات المختلفة وبخاصة تلك التي من أصل شرقي. والعنصر الأخير: هو اليهودية, وهي قوية في إيمانها بالوحدانية وفي نفورها من عبادة الأصنام, كما أنها قوية في تضامن شعبها اجتماعيا, وإن كانت تتميز بضيق الأفق والتعصب. ذلك أنها كانت تتخيل الله عزوجل -يهوه- على أنه إله قبلي صديق لبني إسرائيل فحسب وأنه يكره من ليس من أصل يهودي. ولقد اتحدت هذه الخيوط الأربعة في الديانة المسيحية.[10] وهكذا اتجه الدين الجديد إلى استيعاب الكثير من أفضل عناصر الفكر السابقة, ولكن ثمة ما هو أكثر من الاستيعاب, إذ وجد تآلف حقيقي بينها. وكان أن صهرت هذه الشعلة الحية تلك الأسلاك التي كانت منفصلة عن بعضها وحولتها إلى سلك واحد. فهذه العقيدة الجديدة قد أثرت فيها الآراء القديمة, فأخذت عنها بعض نواحي ضعفها فانحدر الفكر من مستواه الرفيع إلى مستوى العامة, فتعين على الفكر أن يتنازل عن عليائه لينتصر. لذلك عمد الفكر الرفيع إلى التوفيق إلى حد ما بينه وبين الآراء الفجة والمغرضة. فعن الوثنية أخذت المسيحية عادة عبادة الصور التي كان يمقتها الآباء الأقدمون. ومن العبادات الدينية انتقل إليها حماس لم يكن دائما متفقا مع الأخلاق. وأما عن اليهودية فقد انتقل إليها تعصب لا سبيل معه إلى التسامح.[11] وقد دخلت الكثير من الفلسفات عن طريق الحواري بولس الذي كان يوجه دعوته لليهود والوثنيين أيضاً, فاختلطت الفلسفة مع الدين, وصارت الكثير من المصطلحات المسيحية مصطلحات فلسفية, ودخل مع عبادة الله الواحد آلهة كثيرة, ومن هنا نشأت فكرة أن المسيح إله, ثم قيل أنه ابن الله (تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً) وظهرت خرافات كثيرة منها أن المسيح خرج من قبره وصار يذهب للشباب ويكلمهم ويقول لهم: أنا ابن الله.[12] وواقع الأمر أن شيئا من المبالغة في بعض ما جاء في الإنجيل المحرف, وفي التقاليد الموروثة عن اليهود أو المأخوذة عن ديانات أخرى, وكذلك تحت وطأة شيء من قسوة الاضطهاد وسوء الحالة النفسية - بادرت المسيحية إلى ابتداع مذهب غريب في النبوات المتعلقة بنهاية العالم. فقد استقر الفكر المسيحي الوسيط على افتراض أن آخر لحظة في حياة الإنسان هي التي تحدد مصيره إما إلى حياة أبدية ناعمة تفوق كل وصف, أو إلى عذاب مقيم يجاوز كل تصور.[13] وكان العلماء ورجال الدين والفلسفة والعلوم المختلفة الذين يعرفون الكثير عن الأديان وفلسفاتها وما تدعو إليه يغلفون الديانة الجديدة بالعلمانية, وأصبحت الديانة الجديدة مجالاً للفلسفة أو الهرطقة, من كثرة النقاش حول الإيمان وقوانينه الإله.[14] وفي عام 324م اعتنق إمبراطور روما (قسطنطين) المسيحية بعد دراسته للفلسفة والأديان والإلهة, لكنه أدخل مع المسيحية الفلسفات وعبادته السابقة والإلهة. ويعزو بعض الباحثين معظم التحريف الذي حدث للمسيحية إلى زمن قسطنطين. [15] أما روح المسيحية فقد كانت مفعمة بالحب, بالحب الخالص, الحب الباذل, الحب الذي يستهين بكل شيء ويتخطى كل الصعاب, ويصبر على الأزمات, وقد قدم المسيحيون أرواحهم نماذج للحب والبذل والإيمان, ومحبة كل البشر حتى الأعداء, وقمة المحبة ما جاء في إنجيل متى الإصحاح 5 - الآية 44: (أحبوا أعداءكم, باركوا لاعنيكم, أحسنوا إلى مبغضيكم, وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم فمن لم يعرف المحبة لا يعرف الله ).[16]
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة حامد النمير في المنتدى المنتدى الإسلامي
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 15-11-2008, 10:25 AM
-
بواسطة الشرقاوى في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 16
آخر مشاركة: 19-08-2008, 04:01 PM
-
بواسطة المهتدي بالله في المنتدى مشروع كشف تدليس مواقع النصارى
مشاركات: 23
آخر مشاركة: 13-07-2007, 12:44 AM
-
بواسطة Ahmed_Negm في المنتدى من ثمارهم تعرفونهم
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 04-07-2007, 03:13 PM
-
بواسطة khaledms في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 4
آخر مشاركة: 13-11-2006, 08:14 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات