القيم الحضارية: مفهومها وأهميتها ووسائل تطبيقها في السنة النبوية

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات


مـواقـع شـقــيـقـة
شبكة الفرقان الإسلامية شبكة سبيل الإسلام شبكة كلمة سواء الدعوية منتديات حراس العقيدة
البشارة الإسلامية منتديات طريق الإيمان منتدى التوحيد مكتبة المهتدون
موقع الشيخ احمد ديدات تليفزيون الحقيقة شبكة برسوميات شبكة المسيح كلمة الله
غرفة الحوار الإسلامي المسيحي مكافح الشبهات شبكة الحقيقة الإسلامية موقع بشارة المسيح
شبكة البهائية فى الميزان شبكة الأحمدية فى الميزان مركز براهين شبكة ضد الإلحاد

يرجى عدم تناول موضوعات سياسية حتى لا تتعرض العضوية للحظر

 

       

         

 

    

 

 

    

 

القيم الحضارية: مفهومها وأهميتها ووسائل تطبيقها في السنة النبوية

صفحة 1 من 2 1 2 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 12

الموضوع: القيم الحضارية: مفهومها وأهميتها ووسائل تطبيقها في السنة النبوية

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,741
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-04-2024
    على الساعة
    12:49 AM

    افتراضي القيم الحضارية: مفهومها وأهميتها ووسائل تطبيقها في السنة النبوية

    القيم الحضارية: مفهومها وأهميتها ووسائل تطبيقها في السنة النبوية


    د. محمد بشير محمد البشير






    المقدمة
    :

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فإن القيم الحضارية كانت ـ ومازالت ـ عماد الدعوة وأصل الإسلام، فلولا انهيار القيم الحضارية في الجاهلية لما كانت البعثة النبوية التي أخرجت الناس من ظلمات الشرك، والظلم، إلى نور الإيمان، والعدل، وفي الحديث أن: (. . . الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب. . .) [1]


    فأرسل نبيه متمما لمكارم القيم، ومعدنا للخير، وموئلا لأعظم قيمة حضارية: }وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ{ (الأنبياء ـ 107)، واختلفت الاستجابة من فرد إلى فرد فمن العباد من: (أظهر إيمانه وأخلص في طاعاته، ومنهم من تخلف، وتأبد بالعداوة والكفر، ومنهم من نافق) [2].


    ولا يعود ازدهار الحضارة الإسلامية في القرون الذهبية إلى الأنظمة الدقيقة والهياكل المحكمة للنظم المختلفة التي جاد بها العقل المسلم مبتكرا أو متفاعلا مع الحضارات الأخرى، ولا إلى النهضة العلمية في الترجمة والتأليف والابتكارات وتطوير المنهج؛ بل يرجع إلى القيم الحضارية في الإسلام التي حفزت العزائم إلى صناعة الحضارة، فإذا كانت قصة حضارتنا قد بدأت باجتماع الكلمة فإن القيم الحضارية هي التي جمعت القلوب: }وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ{ (الأنفال ـ 63 )، وقبل ذلك كانت بين العرب في الجاهلية: (حروب كثيرة. . . وأمور يلزم منها التسلسل في الشر, حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان) [3] فنشطت الأمة من عقال الجهل والخمول واستشرفت الحضارة والمجد.


    وتعتبر القيم همزة الوصل بين الحضارة والثقافة، والجسر الذي يربط العلم بالحضارة، فلولا القيم الحضارية لاخترع الإنسان آلات الفساد ووسائل الغواية التي تؤدي إلى تدمير البلاد وإهلاك العباد، ومن هنا فإنه يجب على العلماء الربانيين بيان مفهومها وخصائصها وآثارها في ظل أزمة القيم التي برزت مع المادية الغربية، ومشكلة الهوية التي تعاظمت مع زوال الخصوصيات الدينية، والدعوة إلى صراع الحضارات، والسعي لهيمنة الحضارة الغربية على الحضارات الأخرى.


    تعتمد فكرة البحث الذي جاء تحت عنوان ـ (القيم الحضارية مفهومها وأهميتها ووسائل تحقيقها في السنة النبوية) ـ على بيان المراد بالقيم الحضارية في الإسلام، وأثر الوحي في إيضاح مفهومها، وتأكيد أهميتها في بناء الحضارة وتقدمها، وإسهامها وعطائها، وبيان دور التخلي عن القيم الحضارية في ضعف حضارتنا واضمحلالها في العصر الحديث، فالحضارة الإسلامية سادت العالم قرونا عديدة، وفي كنفها ازدهر الفكر وتطور العلم، ولكنها انتكست وأصبحت في ذل بعد عز، وضعف بعد قوة؛ لأنها نسيت ضوابط التمكين وذهلت عن غايته.

    ويهدف البحث كذلك إلى تأصيل القيم الحضارية التي تقوم على تكريم الإنسان، واحترام عقله، وتبنى على تحقيق العدل، والتحلي بمكارم الأخلاق، وترك الرذائل، وتؤسس على العقيدة، والعبادات المزكية للنفوس والناهية عن الفحشاء والمنكر، ويهدف كذلك إلى بيان منهج السنة النبوية في إثبات الفرق بين القيم الحضارية الصحيحة والباطلة، وإيضاح أثرها في بيان أهمية القيم الحضارية ووجوب التمسك بها، وكذلك في غرس القيم الحضارية في نفوس الفرد والأسرة والمجتمع كله، وربط ذلك بواقعنا المعاصر.
    وقد عزوت ما استشهدت به من الآيات والأحاديث والنصوص لمصادرها، وقسمت البحث إلى مباحث ومطالب.



    [1] ـ أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها. باب: الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار ـ ص 1149.

    [2] ـ شرح النووي لصحيح مسلم ـ النووي ـ ج 17 ص 198.

    [3] ـ تفسير ابن كثير ـ ابن كثير ـ ج 2 ص 323.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,741
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-04-2024
    على الساعة
    12:49 AM

    افتراضي

    المبحث الأول: مفهوم القيم الحضارية في الإسلام:
    المطلب الأول: مفهوم القيم والحضارة والسنة ـ إفرادا وتركيبا ـ لغة واصطلاحا:



    حسن بنا في مبدأ هذا البحث أن نعرف المصطلحات الواردة في العنوان؛ فإن إدراك الشيء والحكم عليه فرع عن تصوره، وهو مرهون بجلاء قواعده، وهذه المصطلحات هي: الحضارة، والقيم، والسنة النبوية، وتقتضي المنهجية العلمية أن نبين مفهومها اللغوي والاصطلاحي، إفرادا، وتركيبا، ونوضح اطرادها في ضوء الفكر الإسلامي، وكيفية انتقالها من الدلالة اللغوية إلى السياق الاصطلاحي الفني.
    فالقيمة في اللغة كما جاء في مختار الصحاح: (واحدة القِيَم، و قَوَّمَ السلعة تقويما وأهل مكة يقولون استقامَ السلعة وهما بمعنى واحد) [1]، وفي المعجم الوسيط: ((القيمة) قيمة الشيء: قدره. وقيمة المتاع: ثمنه . . . ويقال: ما لفلان قيمة: ماله ثبات ودوام على الأمر) [2].


    ولا يخرج المعنى الاصطلاحي للقيمة عن المعنى اللغوي، فهي تعني اصطلاحا: (ما قوم به الشيء بمنزلة المعيار من غير زيادة ولا نقصان) [3]، ومن مرادفات القيمة: (الثمن، والسعر، والمثل. ) [4]
    وأما (الحَِضارة) فتفيد: (الإقامة في الحضر، قال القطامي:

    ومن تكن الحَضَارة أعجبته فأي رجال بادية ترانا

    والحضارة ضد البداوة، وهي: مرحلة سامية من مراحل التطور الإنساني. والحضارة: مظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي والاجتماعي في الحضر. (مجمع) . وأما (الحضر): فالمدن والقرى والريف. و (والنسبة إليه حضري على لفظه)[5]، وجاء في تعليل التسمية: (سميت ـ المدن ـ بذلك لأن أهلها حَضَروا الأمصارَ. .. كما أن البادية يمكن أن يكون اشتقاق اسمها من بدا يبدو أي: برز وظهر) . [6]
    وأما السنة فهي: (السيرة حسنة كانت أو قبيحة، قال خالد بن عتبة الهذلي:

    فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها فأول راض سنة من يسيرها


    وفي التنزيل العزيز: }وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ{ (الكهف ـ 55)[7]. وكذلك: ((السنة) : الطريقة. . . وأيضا: (السنة) سنة الله: حكمه في خليقته. وسنة النبي r: ما ينسب إليه من قول أو فعل أو تقرير) [8]، وهو المراد في هذا البحث.

    وكان من نتائج استخدام القرآن الكريم لألفاظ مثل: حضر، وحاضر، وبادون، والأعراب ونحو ذلك من ألفاظ الحضارة والبداوة أن اتسع استخدام مصطلح الحضارة بعد صدر الإسلام وورد في ثنايا الكلام عن بعض الأحكام الشرعية وفي تفسير بعض آيات الأحكام، ومن ذلك اعتبار الإقامة من شروط وجوب صلاة الجمعة خلافا للظاهرية [9]، وتعيين المراد من قوله تعالى: }ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ { (البقرة ـ 196)حيث أرجع بعضهم لفظة حاضري إلى الحضارة والبداوة [10].
    وكذلك استخدام مصطلح الحضارة في معرض الحديث عن تطور المدينة الإسلامية، وفي العناية البلاغة والفصاحة [11]، حيث فسر ذلك باستحضار الدولة الإسلامية واختلاط المسلمين بالحضارات القديمة، وتفاعلهم معها، وما فتئ هذا المصطلح يتسع في الفكر الإسلامي ويتطور بتطور الدولة ونهضتها العلمية حتى جاء ابن خلدون فرسم معالمه في ضوء استقرار الدولة أو اضطرابها، ومستواها الاقتصادي، وكثافتها السكانية، وامتدادها العمراني، فقال: (الحضارة هي التفنن في الترف واستجادة أحواله، والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه) [12]، ولما كانت الحضارة ـ عنده ـ هي: (أحوال عادية زائدة على الضروري من أحوال العمران) [13]؛ فقد ذهب إلى أن تعلم العلم الفلسفي أو النقلي وازدهاره ورواج الصنائع وحذق الصناع فيها إنما يكثر حين يكثر العمران وتعظم الحضارة[14]، وبذلك يكون ابن خلدون قد اقترب بهذا المصطلح من غايته وكاد أن يبلغ شأوه؛ إذ قد أتى على جانبيه المادي والمعنوي.


    وقد يتفق ابن خلدون في مفهوم الحضارة أو يختلف مع الآخرين الذين يجب أن نثبت آراءهم كالمفكر الفرنسي جورج باستيد الذي عرفها بأنها: (التدخل الإنساني الإيجابي لمواجهة ضرورات الطبيعة، تجاوبا مع إرادة التحرر في الإنسان، وتحقيقا لمزيد من التيسير في إرضاء حاجاته ورغباته، وإنقاصا للعناء البشري) [15]. ومثل من قال هي: (ثمرة كل جهد ـ مقصود أم غير مقصود ـ يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته، سواء كانت ثمرته مادية أم معنوية. . . وعناصرها الزمن والعقل والإنسان نفسه) [16].


    ومن المؤلفين من عرف: (الحضارة بأنها: نظام اجتماعي يعين الإنسان على زيادة إنتاجه الثقافي، وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق) [17] ووجدوا عند تحليلهم نشوء الحضارات الإنسانية أن عناصرها تتمثل في: (الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون) [18]، وأفضت دراساتهم إلى تحديد عوامل الحضارة المعول عليها في قوة الحضارة وتتابعها أو ضعفها وزوالها وحصرها في: (الجوانب الجيولوجيَّة والجغرافيَّة والاقتصاديَّة) [19]. وهناك خلاف بين المؤلفين العرب والغربيين في نسبة الحضارة وقيمها فمنهم من ينسبها إلى العروبة، ومنهم من ينسبها إلى الإسلام، والصحيح أنها إسلامية وعربية في آن واحد؛ فهي عربية باعتبار لغتها ومهدها ومصدرها الذي انتشرت منه، وإسلامية باعتبار عالميتها وطبيعة خطابها وتعدد أعراق أتباعها. [20]


    وبعد أن عرفنا أن الحضارة في أصل معناها: (طريقة حياة نشأت بعد أن استوطن الناس المدن وتكونت مجتمعاتهم، وقد نظمت في شكل دول، وهي تشمل الفن والعادات والتقنية وشكل السلطة وكل ما يدخل في طريقة حياة المجتمع ـ وهي تشير إلى أساليب الحياة ونظمها الاقتصادية والحكومية والاجتماعية المعقدة) [21] وأن القيم في أصل معناها: قدر الشيء وثمنه الذي يحدد منزلته وفضله؛ فإننا نستطيع تعريف القيم الحضارية مركبة بأنها: (جملة المبادئ، والأخلاق، والأحكام، والتعاليم، والنظم الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية التي تميز حضارة ما، وتبين قدرها، وتنظم علاقاتها، وتستمد من الأديان السماوية، أو المذاهب الوضعية، أو العرف والعادة، ويتواصى بها المجتمع، وتتوارثها الأجيال، وتجاهد في سبيلها) ، وهي تشكل الجانب المعنوي الذي يقابل الجانب المادي للحضارة المتمثل في العمران، والمعمار، والجانب التطبيقي للنظم الإدارية، والاقتصادية، والقضائية، والعسكرية، ولا تخلو حضارة إنسانية من قيم حضارية يعتز بها الناس، ويتميزون بها عمن سواهم، وقد تكون صحيحة أو فاسدة بناء على استمدادها من الشرع الصحيح، أو الدين المحرف، أو تحسين العقل وتقبيحه، وبهذا يتبين أن: (العنصر الأخلاقي الروحي للحضارة هو الذي تخلد به الحضارات، وتؤدي به رسالتها من إسعاد الإنسانية وإبعادها من المخاوف والآلام. والحضارات لا يقارن بينها بالمقياس المادي، ولا بالكمية، ولا بالترف المادي، وإنما يقارن بينها بالآثار التي تتركها في تاريخ الإنسانية) [22].

    [1] ـ مختار الصحاح ـ للرازي ـ ص 232.

    [2] ـ المعجم الوسيط ـ مجمع اللغة العربية ـ إبراهيم مصطفى وآخرون. ج2 ص 768.

    [3] ـ الموسوعة الفقهية ـ مادة قيم ـ م 34 ص 132.

    [4] ـ المصدر السابق ـ مادة قيم ـ م 34 / ص 132.

    [5] ـ المعجم الوسيط ـ مجمع اللغة العربية ـ إبراهيم مصطفى وآخرون ـ ج 1 ص 181. والمصباح المنير ـ للفيومي. ج 1 ص 140.

    [6] ـ لسان العرب ـ ابن منظور ـ ج 4 ص 197.

    [7] ـ لسان العرب ـ ابن منظور ـ ج 13 ص 225.

    [8] ـ المعجم الوسيط ـ مجمع اللغة العربية ـ إبراهيم مصطفى وآخرون ـ ج1 ص 456.

    [9] ـ القوانين الفقهية ـ لابن جزي الكلبي ـ ص 63. وانظر كشاف القناع ـ للبهوتي ـ ص 634/ 635.

    [10] ـ الجامع لأحكام القرآن الكريم ـ القرطبي ـ ج 2 ص 404.

    [11] ـ مقدمة ابن خلدون ـ ابن خلدون ـ ص 475.

    [12] ـ المصدر السابق ـ ص 293.

    [13] ـ المصدر السابقـ ص 290.

    [14] ـ المصدر السابق ـ ص 345.

    [15] القيم الحضارية في رسالة الإسلام ـ د / محمد فتحي عثمان ـ ص 15/16.

    [16] ـ الحضارة دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها ـ د / حسين مؤنس ـ ص 15ـ 19.

    [17] ـ قصة الحضارة ـ ديورنت ـ ح 1 ص 13.

    [18] ـ المصدر السابق ـ ج 1 ص 13.

    [19] ـ المصدر السابق ـ ج 1 ص 13.

    [20] ـ معالم الحضارة الإسلامية ـ د / مصطفى الشكعة ـ ص 13. وانظر القيم الحضارية في رسالة الإسلام ـ د/ محمد فتحي عثمان ـ ص 48/49

    [21] ـ الموسوعة العربية العالمية ـ ج 9 ص 423.

    [22] ـ من روائع حضارتنا ـ د / مصطفى السباعي ـ ص78.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,741
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-04-2024
    على الساعة
    12:49 AM

    افتراضي

    المطلب الثاني: أثر السنة النبوية في بيان مفهوم القيم الحضارية:

    تميز الإسلام الذي ختمت به الأديان بسمات جعلته يحظى بقبول الناس وتصديقهم، ولعل أعظمها ـ بعد ربانيته ـ مجيء أحكامه التكليفية واطرادُ نظمه المختلفة وفق منهجية تحترم العقل، وتتوافق مع الفطرة، وتجعل إشباع الغرائز وسيلة لحفظ الجنس البشري، وتجلت هذه المنهجية في الأصول والفروع، فمثلما جاء العمل ـ في سياق الحديث عن القيم الحضارية ـ بعد العلم في قوله تعالى: }فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ{ (محمد ـ 19) فقد جاءت الاستقامة عقب الإيمان في حديث) : سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله حدثني بأمر اعتصم به. قال: قل: ربي الله ثم استقم. . . ) [1].

    ونود في هذا المطلب أن نبين منهج السنة النبوية ـ باعتبارها مصدرا للتشريع الإسلامي ومنبعا للمعرفة والتراث الإنساني المشترك ـ في بيان مفهوم القيم الحضارية، ونشفع ذلك ببيان مقوماتها التي انطلقت منها، وشكلت قاعدة معرفية في ضوء السيرة النبوية، فمهما تتبع الباحث مفهوم القيم الحضارية والتمس دلالته فإنه يظل مفتقرا إلى مزيد من الإيضاح، فالسؤال المطروح الآن حوله وحول غيره من المفاهيم التي جلبتها المدنية الحديثة هو: ما السبيل إلى أسلمتها ـ إن جاز التعبير ـ ؟ وما أثر الأديان السماوية انطلاقا من الإسلام ـ خاتم الأديان وناسخها ـ في إيضاحها ورسم حدها؟.

    وقد بينت السنة النبوية في ضوء منهجها أن القيم الحضارية الدينية تعتبر أصل الحضارة الإنسانية، وسبب وجودها وبقائها، فهي سبب الفتح الموعود به في قوله: }وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ{ (الأعراف ـ 96)، وقد كانت النبوات تمهيدا لهذا الناموس الكوني الذي كتبه الله على كل أمة: }وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ { (فاطر ـ 24)، وفي السنة النبوية يتبين أن القيم الحضارية مستمدة في مجملها من الوحي الإلهي، فإن قوله تعالى: }وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ{ (الأنبياء ـ 25)، أكده حديث طلحة بن عبيد الله بن كريز: (أن رسول الله r قال: . . . أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) ) [2].
    وتطرد القيم الحضارية في السنة النبوية مؤيدة باستحسان العقل، والنفس المطمئنة، أو ما يسمى الضمير الأخلاقي والوازع الديني: فقد ورد في حديث: (النواس بن سمعان الأنصاري قال: سألت رسول الله r عن البر والإثم فقال: البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس) [3]، وهي تعتريها الأحكام الشرعية من الوجوب والاستحباب والندب والحرمة والكراهية، وكذلك تكون من جانب الوجود تارة مثل قيمة العفاف وأهمية تكوين الأسرة وأثرها في بناء المجتمع، فقد جاء: (عن عبد الله قال: قال لنا رسول الله r يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج)[4]، وتأتي من جانب العدم في مواضع أخرى كما في قوله تعالى: }وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً {(الإسراء ـ 32)، وقوله r فيما روى: (ابن عباس رضي الله عنه: لا يزني العبد حين يزني هو مؤمن. . . ) [5]، ويرجع ذلك إلى المقاصد الأصلية والتبعية للشارع الحكيم.
    وتبين السنة النبوية أن للقيم الحضارية آثاراً جلية ودوراً عظيما في نهضة الأمم؛ ولكن هذا الدور لا يتأتى إلا إذا طبق المجتمع قيمه كلها وتفاعل معها وفق منهج كلي لا يقوم على انتقاء ما يوافق الهوى وطرح ما يخالفه من حيث القيمة نفسها أو من حيث تطبيقها، فإن ذلك يجردها من مضمونها، ويضعف تأثيرها في بناء الأمة، واطراد نموها، فهذه القيم يكمل بعضها بعضا لتقوم العلاقات الإنسانية في ظلها على هدي من التراحم والتعاون لا التزاحم والتباغض؛ ولكن حديث: (أبي هريرة عن النبي r قال: . . . فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) [6] يثبت أن هناك فرقا بين الأوامر التي يأتي منها المسلم ما استطاع و النواهي التي يجب اجتنابها كلها.

    ونستنتج من التصور الإسلامي لأسباب نهضة الأمم من جهة وزوال حضاراتها بعد ضعفها من جهة أخرى أن أخذ بعض القيم الحضارية وترك البعض الآخر كان من أسباب ذهاب كثير من الحضارات الإنسانية، ولما كانت القيم الحضارية هي محور الابتلاء في الدنيا كما قال تعالى: }الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {(تبارك ـ 2)؛ فإن الأمة مخيرة بين قبول ثوابت القيم الحضارية جميعا أو تركها جميعا كما قال تعالى: }أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {(البقرة ـ 85)، فما من أمة ـ وفقاً للسياق القرآني ـ نسيت حظاً مما ذُكِّرَت به أو فرقت بين الله ورُسُله فآمنت ببعض وكفرت ببعض وأرادت أن تتخذ بين ذلك سبيلا إلا وأهلكها الله، وقد اعتبر النبي r هذه التفرقة من أعظم أسباب هلاك الأمم وضلالها بعد الهداية، وحذر أمته من التَخلُّق بهذا الخُلُق الذميم، فقال في الحديث الذي روته: (عائشة رضي الله عنها: أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله r ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حب رسول الله r. فكلمه أسامة، فقال رسول الله r: (أتشفع في حد من حدود الله) . ثم قام فاختطب ثم قال: (إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) [7]


    ونجد في السنة النبوية أن كل مجتمع بشري لا يخلو من قيم حضارية فاضلة حسنها العقل أو أخذت من بقايا الكتب المحرفة، وهي قابلة للتطور والنماء عندما يسلم الفرد وجهه لله تعالى، ويزكي نفسه بالإعراض عن مساوئ الجاهلية، فقد سئل الرسول r من أكرم الناس ؟ فقال فيما روى: (أبو هريرة. . . فعن معادن العرب تسألوني ؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا) [8]، وإذا أمعنا النظر في سيرة النبي r وشمائله لوجدنا أن التخلق بالقيم الحضارية كان من سجيته التي جبل عليها، فقد كان يتمتع بمكارم الأخلاق من الصفات العالية والقيم العظيمة في الجاهلية قبل الإسلام، ففي قصة الوحي أنه r: (‏قال ‏لخديجة ‏وأخبرها الخبر: (لقد خشيت على نفسي) . فقالت ‏خديجة: ‏كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل ‏الكل، ‏وتكسب ‏المعدوم‏، ‏وتقرى ‏‏الضيف، وتعين على ‏نوائب ‏الحق) [9]، وبعد نزول الوحي كان النبي r قرآنا يمشي، يغضب إذا انتهكت حرماته، ويسعد لبشرياته، فما من خلق حسن حض عليه القرآن الكريم أو مكرمة ندب الناس إليها إلا وكان النبي r أول من امتثل وتحلى: (فعن سعد بن هشام قال سألت عائشة فقلت: أخبريني عن خلق رسول الله r فقالت: كان خلقه القرآن)[10].


    والقيم الحضارية في الإسلام قيم ربانية جاءت في سياق منظومة متكاملة تبدأ من الله تعالى ثم يتلقاها أنبياؤه ـ عليهم السلام ـ ثم يعلمها المؤمنون ويعملون بها، وإذا أخذنا قيمة العدل كمثال فإننا نجدها في مقام الربوبية في حديث: (أبي ذر عن النبي r فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه: قال: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا. . . ) [11]، وفي مقام النبوة في حديث: (جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بينما رسول الله r يقسم غنيمة بالجعرانة، إذ قال له رجل: اعدل، فقال له: لقد شقيت إن لم أعدل) [12]، وفي أمر عامة المؤمنين بالعدل يقول الله تبارك وتعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى.{ (المائدة ـ 8). ويقول الرسول r في حديث: (النعمان بن بشير رضي الله عنهما. . . قال فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم. قال: فرجع فرد عطيته) [13] ولما كانت القيم الحضارية في الإسلام ربانية فقد جاء الأمر بها في القرآن الكريم مبنيا: (على أن السلطة التشريعية وحدها لله الذي قرر الأمر، وعلى الشعور بمعيته الحبيبة المهيبة، وعلى توقع إجراءات الجزاء في الدنيا والآخرة) [14].

    وتتعدد مقومات السنة النبوية التي تجعلها مصدراً يجد فيه الإنسان ـ مهما تكن ديانته ـ بيانا شافيا لمفهوم القيم في إطارها الإنساني وخصائصها وآثارها، ويفيد منه ما يقوم سلوكه، ويصحح فكره، وتبدأ تلك المقومات بسيرة الرسول الكريم r، فرغم أنه لم يتل كتابا قبل الوحي ولم يخطه بيمينه إلا أنه عاصر ـ في الجاهلية وفي الإسلام ـ البداوة وعرف تقاليدها وعاداتها، وكذلك عاصر الحضارة والتمدن وأدرك قيمها وثقافتها، فقد استرضع في بني سعد بن بكر [15]، وعاش مطلع حياته في حاضرة مكة المكرمة، وأخذه عمه أبو طالب في الرحلة التجارية إلى الشام[16]، وسافر تاجرا بأموال خديجة بنت خويلد[17]، ويعود تأصيل هذه المقومات إلى حديث: (أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r قال: ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم. فقال أصحابه: وأنت ؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة) [18] فقد استنبط العلماء منه أن الحكمة من ذلك: (أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة. . . والصبر على الأمة. . . وجبر كسرها والرفق بضعيفها وإحسان التعاهد لها) [19]


    وأما الصحابة رضي الله عنهم فقد اطلعوا على القيم الحضارية الدينية اليهودية والنصرانية وعرفوا مصادرها وخصائصها، وتم ذلك من طريق الوحي ومن العقد السياسي والاجتماعي وما تبعهما من العلاقات، وأيضا ممن أسلم من الملل الأخرى من اليهود والنصارى وغيرهم ممن جادلهم النبي r عند إسلامهم ـ كما حدث لعدي بين حاتم ـ t ـ عندما قال: (. . . فقال النبي r لي: يا عدي بن حاتم أسلم تسلم قال: قلت: إن لي دينا قال: أنا أعلم بدينك منك مرتين أو ثلاثا ألست ترأس قومك قال: قلت: بلى قال: ألست تأكل المرباع قال: قلت: بلى قال: فإن ذلك لا يحل لك في دينك قال: فتضعضعت لذلك. . . ) [20]، وكان لانتشار الدين الإسلامي أعظم الأثر في اتصال المسلمين بالحضارات الجغرافية العرقية التي كانت سائدة في الجاهلية قبل الإسلام كالفارسية والرومية، وحدث هذا الاتصال في صدر الإسلام وعهد الخلفاء الراشدين ـ رضي الله عنهم ـ والعصور التي تلت ذلك، وشكل ذلك قاعدة معرفية وأساسا علميا للفكر الإسلامي في تصوره للقيم الحضارية وسماتها وآثارها.


    [1] ـ أخرجه الترمذي في الزهد باب: ما جاء في حفظ اللسان ـ ج 4 ص 607. قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وقد روى وجه عن سفيان بن عبد الله الثقفي.

    [2] ـ أخرجه مالك في القرآن. باب: ما جاء في الدعاء. ـ ص 128. ـ ورواه الترمذي في الدعوات باب: في دعاء يوم عرفة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وقال: (قال هذا حديث غريب من هذا الوجه، وحماد بن أبي حميد هو محمد بن أبي حميد، وهو أبو إبراهيم الأنصاري المديني، وليس بالقوي عند أهل الحديث) ج 5 ص 572.

    [3] ـ أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب باب: تفسير البر والإثم ـ ص 1032.

    [4] ـ أخرجه مسلم في النكاح. باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم ـ ص 549.

    [5] ـ أخرجه البخاري في الحدود باب: إثم الزناة ـ ص 1298.

    [6] ـ أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة باب: الاقتداء بسنن رسول الله rوقول الله تعالى: (واجعلنا للمتقين إماما) ـ ص 1389/1390.

    [7] ـ أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء ـ باب: أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم ص 696/670.

    [8] ـ أخرجه مسلم في الفضائل. باب: من فضائل يوسف على السلام ـ ص 967.

    [9] ـ أخرجه البخاري في الإيمان. باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله rـ ص 21.

    [10] ـ أخرجه أحمد بن حنبل في المسند ـ ج 6 ص 163.

    [11] ـ أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب. باب: تحريم الظلم ـ ص 1039.

    [12] ـ أخرجه البخاري في فرض الخمس باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين: ما سأل هوازن النبي r برضاعه فيهم فتحلل من المسلمين ـ ص 601.

    [13] ـ أخرجه البخاري في الهبة وفضلها. باب: الإشهاد في الهبة ـ ص 490.

    [14] ـ دستور الأخلاق في القرآن الكريم ـ د/محمد عبد الله دراز ـ ص 409.

    [15] ـ السيرة النبوية ـ ابن هشام ـ ج 1 ص 125

    [16] ـ المصدر السابق ـ ج 1 ص 136.

    [17] ـ المصدر السابق ـ ج1 ص139.

    [18] ـ أخرجه البخاري في الإجارة ـ باب: رعي الغنم على قراريط ـ ص 421.

    [19] ـ فتح الباري ـ ابن حجر ـ ج 4 ص 516.

    [20] ـ أخرجه ابن حبان في باب: إخباره r عما يكون في أمته من الفتن والحوادث ـ ذكر الإخبار عن فتح الله جل وعلا الأموال على المسلمين في هذه الأمة ـ ج 15 ص 72.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,741
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-04-2024
    على الساعة
    12:49 AM

    افتراضي

    المطلب الثالث: منهج السنة النبوية في تقسيم القيم الحضارية:

    لا تحرص أمة من الأمم على شيء من مفاخرها وآدابها مثل حرصها على قيمها الحضارية التي تشكل عصب حياتها، وملاك أمره، ومن ثم تسرع إلى نشرها وإعلاء شأنها، وتختلف أهداف ذلك كما تختلف الاستجابة من فرد إلى فرد: (فكل إنسان يسعى بنفسه فمنهم من يبيعها لله تعالى بطاعته فيعتقها من العذاب ومنهم من يبيعها للشيطان والهوى باتباعهما فيوبقها أي: يهلكها) [1]. وكذلك عملت كل أمة على صيانة قيمها من المؤثرات الداخلية والخارجية التي توهن قوتها، ويشكل هذا الجهد الفكري والمادي وجها من وجوه التزاحم والتدافع الذي لولاه لفسدت الأرض، ومن ذلك حث الرسول r على الدعوة إلى القيم الفاضلة والترغيب فيها فوصى علي بن أبي طالب بقوله: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من أن يكون لك حمر النعم) [2].

    وتؤكد السنة النبوية ـ في خضم هذا الواقع ـ أن تعدد القيم الحضارية وتفاوتها ـ المؤدي إلى التناقض أحيانا ـ من أمة إلى أمة هو أمر يتفق مع ما فطر الله الناس عليه، فقد جاء عن: (أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء. ثم يقول: }فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ{ (الروم: 30))[3]، وكذلك فسر القرآن الكريم ظاهرة الاختلاف، وبين حكمتها في قوله تعالى: }وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ{ (هود: 118، 119). فهنا يتبين أن اختلاف القيم الحضارية في صورها الفرعية مبني على اختلاف البشر: (على أديان شتى، وأنه ـ تعالى ـ للاختلاف خلق عباده) [4].
    بيد أن القيم الحضارية الغيبية تعود ـ من حيث المصدر ـ إلى كلمة الله التامة الممتنعة عن التغيير والتبديل، وترجع إلى عالم الغيب، وطور الذر، ويؤكد ذلك قوله تعالى: }وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا{ (الأعراف: 172 ). ففي هذه الآية تتجلى رحمة الله بعباده فقد: (دلهم بخلقه على توحيده، لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له رباً واحداً. فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم، والإقرار منهم، فإن الإشهاد يعني: (أن كل أحد يعلم أنه كان طفلاً فغذي وربي، وأن له مدبراً وخالقاً) [5] والجواب يفيد أن: (ذلك واجب عليهم. فلما اعترف الخلق لله سبحانه بأنه الرب ثم ذهلوا عنه ذكرهم بأنبيائه وختم الذكر بأفضل أصفيائه لتقوم حجته عليهم) [6]، ويفيد قوله تعالى: }كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ{(البقرة ـ 213) أن القيم الحضارية كانت واحدة ثم تعددت فأرسل الله الرسل وأنزل الكتب.


    وأرخت السنة النبوية لنشأة القيم الحضارية في ظل خلق الإنسان ونزوله من السماء ليجد مستقرا في الأرض ومتاعا إلى حين، وبينت كذلك أنها تهيمن على حياة الناس وتسلك طريقها إلى سلوكهم وأساليب تفكيرهم، وهي تنطلق في ذلك من قوله تعالى: }وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ{ (المائدة ـ 27). فنجد في هذه الآية قيما حضارية فاضلة وأخرى باطلة، يوجه كل منهما سلوك صاحبه ليتصف بالتقوى والخوف من العذاب أو الفسق وقتل النفس المحرمة وارتكاب الإثم والشعور بالندم والحسرة، وعززت السنة النبوية هذا المشهد وأكدته في قوله r: (لا تقتل نفس ظلما، إلا كان على بن آدم الأول كِفْلٌ من دمها، لأنه كان أول من سن القتل) [7]، ليتبين أن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.

    ومن السنة النبوية نستطيع إثبات أن شمول القيم الحضارية لكل مناحي الحياة يتناسب مع حقيقة الإسلام الذي ما فرط الله فيه من شيء، فقيمنا الحضارية من حيث الأداء تنقسم إلى قيم بدنية، وعقلية، وروحية، ولسانية، ومالية، ومن القيم الحضارية الشاملة لكل ذلك قيمة الجهاد بوسائله المتعددة وقد جاء فضله في قوله r: (مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى) [8]، ومن القيم البدنية تثمين العمل كما جاء في حديث: (المقدام رضي الله عنه عن رسول الله r قال: ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده) [9]، وجاء في وجوب الإخلاص في العمل قوله r: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته) [10] ومن القيم العقلية طلب العلم الذي أوجبت السنة طلبه في قوله r: (طلب العلم فريضة على كل مسلم. . . ) [11]، وعن فضله روى: (أبو هريرة قال قال رسول الله r: ما من رجل يسلك طريقا يطلب فيه علما إلا سهل الله له به طريق الجنة. . . ) [12]


    وأما من حيث الموضوع فإن القيم الحضارية في السنة النبوية تعم الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ففي نظامنا السياسي نجد قيما تتعلق بالراعي والرعية وتشمل تنظيم السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتنطلق تلك القيم من مسوغات وجوب اتخاذ الإمارة المتمثلة في: (أن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة) [13] ومن تلك القيم العدل وأداء الأمانة (فعن عبد الله بن عمرو قال: قال: رسول الله r: إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) [14]، ونجد كذلك الشورى المأمور بها في قوله تعالى: }وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ{ (آل عمران: 159) وجاءت بصيغة الخبر صفة للجماعة محفوفة بأمهات القيم كما في قوله تعالى: }وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ{ (الشورى: 38)، ونجد الحرية الدينية وهي: أم الحريات في قوله تعالى: }لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ{ (البقرة: 256)، وكذلك قيمة المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات في قوله تعالى: }إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ { (الحجرات: 13)، وفيما روى: (أبو هريرة عن رسول الله r أنه قال: للمملوك طعامه، وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق) [15]، ومن ذلك قيمة الرفق بالرعية والرأفة بهم في قول عائشة رضي الله عنها: (سمعت من رسول الله r، يقول في بيتي هذا: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم، فارفق به) [16].


    وفي الجانب الاجتماعي نجد قيمة التعاون على الخير والصلاح كما في قوله تعالى: }وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ{ (المائدة: 2) وقوله r آمرا بالتعاون وسد طرق الشقاق في حديث أبي هريرة عن النبي r قال: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا) [17]، ونجد أهمية تكوين الأسرة وأثرها الاجتماعي ودورها الأخلاقي في المثل النبوي الرائع الذي نقله: (أنس أن نفرا من أصحاب النبي r: سألوا أزواج النبي r عن عمله في السر فقال بعضهم: لا أتزوج النساء وقال بعضهم: لا آكل اللحم وقال بعضهم: لا أنام على فراش فحمد الله وأثنى عليه فقال: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) [18]، ونجد تحريم احتقار الإنسان وعده من الجاهلية في حديث أبي ذر: (قال: إني ساببت رجلا فعيرته بأمه، فقال لي النبي r: يا أبا ذر أعيرته بأمه ؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) [19]، ونجد كذلك احترام الحقوق الاجتماعية في حديث أبي موسى الأشعري: (عن النبي r: أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني. قال سفيان: والعاني الأسير) [20].
    وفي النظام الاقتصادي في الإسلام نجد قيما تنظم الإنتاج والاستهلاك والتوزيع، ومنها تحريم الربا كما في خطبة حجة الوداع: (. . . ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع. . . وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله) [21]، ونجد تحريم الغش وأكل أموال الناس بالباطل كما في حديث (أبي هريرة أن رسول الله r قال: . . . ومن غشنا فليس منا مسلم) [22]، ونجد تحريم الغلول وهو: الخيانة في المعركة أو الوظيفة فهو جرم عظيم عند الله وذلك فيما رواه: (عدي بن عميرة سنان قال: سمعت رسول الله r يقول: من استعملناه منكم على عمل، فكتمنا مخيطا فما فوقه، كان غلولا يأتي به يوم القيامة. . . ) [23].
    وفي الإعلام الإسلامي نجد قيمة الصدق في قوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ{ (التوبة: 119)، ونجد قيمة التثبت في الأخبار قبل نقلها وبثها وذلك في قوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ {(الحجرات: 6)، ونجد ضابطا عاما يتمثل في أن تكون غاية الإعلام الإصلاح بين الناس وقول الخير وما ينفع المجتمع من الإخبار والإمتاع والتثقيف والتعليم، وذلك في قوله تعالى: }لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ{ (النساء: 114)، وفي حديث: (أبي هريرة عن رسول الله r قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) [24]


    [1] ـ شرح النووي لصحيح مسلم ـ النووي ـ ج 3 ص 102.

    [2] ـ أخرجه البخاري في فضائل الصحابة. باب: مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن t ـ ص 708 /709.

    [3] ـ أخرجه البخاري في التفسير. باب: لا تبديل لخلق الله ـ ص 931.

    [4] ـ الجامع لأحكام القرآن ـ القرطبي ـ ج 9 ص 114ـ 115.

    [5] ـ الجامع لأحكام القرآن ـ القرطبي ـ ج 7 ص 317.

    [6] ـ الجامع لأحكام القرآن ـ القرطبي ـ ج 7 ص 317.

    [7] ـ أخرجه مسلم في القسامة والمحاربين والقصاص والديات باب: بيان إثم من سن القتل ص 694.

    [8] ـ أخرجه مسلم في الإمارة. باب: فضل الشهادة في سبيل الله تعالى ـ ص 783.

    [9] ـ أخرجه البخاري في البيوع باب: كسب الرجل وعمله بيده ـ ص 391.

    [10] ـ أخرجه مسلم في الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان. باب: الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة ـ ص 809/810.

    [11] ـ أخرجه ابن ماجه في المقدمة. باب: فضل العلماء والحث على طلب العلم ج 1 ص 81. (في الزوائد: إسناده ضعيف، قال النووي: إنه ضعيف، أي سندا، وإن كان صحيحا، أي معنى ـ وقال المزي: هذا الحديث روي من طرق تبلغ رتبة الحسن. قال السيوطي: وهو كما قال. فإني رأيت له خمسين طريقا وقد جمعتها في جزء. سن ابن ماجة ج 1 ص 81.

    [12] ـ أخرجه أبو داوود في العلم. باب: الحث على طلب العلم. ج 3 ص 317.

    [13] ـ السياسة الشرعية ـ ابن تيمية ـ ص 161 / 162.

    [14] ـ أخرجه مسلم في الإمارة. باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم ـ ص 763.

    [15] ـ أخرجه مسلم في الأيمان باب: إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه ص684.

    [16] ـ أخرجه مسلم في الإمارة باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهمـ ص 763.

    [17] ـ أخرجه البخاري في الأدب. باب: ما ينهى عن التحاسد والتدابر ـ ص 1172.

    [18] ـ أخرجه مسلم في النكاح باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، ووجد مؤنه، واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم ـ ص 549.

    [19]ـ أخرجه البخاري في الإيمان باب: المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك ـ ص 29.

    [20] ـ أخرجه البخاري في الأطعمة ـ ص 1064.

    [21] ـ أخرجه مسلم في الحج. باب: حجة النبي r ـ ص 484.

    [22] ـ أخرجه مسلم في الإيمان باب: قول النبي r من غشنا فليس منا ـ ص 67.

    [23] ـ أخرجه مسلم في الإمارة باب: تحريم هدايا العمال ـ ص 766.

    [24] ـ أخرجه مسلم في الإيمان. باب: باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير ص 50.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,741
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-04-2024
    على الساعة
    12:49 AM

    افتراضي

    المبحث الثاني: أهمية القيم الحضارية في السنة النبوية:
    المطلب الأول: أهمية القيم الحضارية وأحكامها الشرعية في ضوء السنة النبوية:


    تقدم المبحث الأول الذي عرفنا فيه مفهوم القيمة والحضارة والسنة، وعرفنا فيه أيضا
    أن للحضارة مظاهر مادية تتجلى في العمران وأنماط الحياة، وجوانب روحية وفكرية تتمثل في الجانب المعنوي والمعرفي، وأدركنا أثر السنة النبوية في مفهوم القيم الحضارية وخصائصها الدينية والعرفية، وعرفنا مقومات السنة النبوية وقاعدتها المعرفية الحضارية، وعرفنا في المطلب الأخير أنواع القيم الحضارية ونشأتها ومصادرها.


    ويجدر بنا بعد ذلك أن نبين أهمية القيم الحضارية في الإسلام وأحكامها الشرعية، وكيف أثبتت السنة حاجة البشر إليها عقيدة وشريعة وأخلاقا، وعلاقتها بالنظم المختلفة، فمن المقرر أن فضل الإنسان على بقية المخلوقات مرهون برعاية القيم الحضارية الإسلامية وتطبيقها، فلولا التحلي بها لكان الإنسان يأكل كما تأكل الأنعام والنار مثوى له، وأثبت قوله تعالى: }وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً{ (الإسراء: 70) أن أساس التكريم ومناط التفضيل يكمن في التمييز بين الخير والشر، وحرية الإرادة، والقدرة على الفعل أو الترك.

    والقيم الحضارية هي اللبنة الأولى في البناء الديني والروحي والسلوكي، فلا يتصور الإنسان أن تنشأ جماعة ـ بدائية أو متحضرة ـ وتتوافر عناصرها المادية، والزمانية، والمكانية، والعرقية وتتفاعل مع غيرها دون أن تتمتع بمنظومة قيمية تميزها وتؤهلها لتحقيق معاني الاستخلاف، ولما كانت القيم الحضارية أغلى خصائص الإنسان وأثمن صفاته فقد شكلت محور الصراع بين الحق والباطل، ونستنبط ذلك من قوله تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ{ (محمد: 25)، فإن ما يجمع بين أعداء المسلم من الشيطان، والهوى، والنفس الأمارة بالسوء هو العمل علي طمس القيم وتبديلها.

    ومن يتدبر القرآن الكريم يجد أن أساليب الأنبياء ـ عليهم السلام ـ في دعوة أقوامهم تبدأ بالدعوة إلى القيم الحضارية العليا، وبيان أن الإنسان إنما يقاس بقيمه النبيلة وإيمانه بها، فهي الفيصل بين الكفر والإيمان، ولم يتعرض الأنبياء عليهم السلام لعداوة أشد من عداوة الذين لا يحتفلون بالقيم الحضارية ولا يأبهون بها، فلوط ـ عليه السلام ـ أنكر إتيان الفاحشة وفساد الفطرة: }فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ{ (النمل: 56 - 58)، ففي هذه القصة تبين أن القيم الحضارية في استقامة الاعتقاد والاجتماع أساس النبوات وهي حد فاصل بين البقاء والهلاك.


    وكذلك بين القرآن الكريم أن ما جاء به الرسول r هو سبب الحياة، وأصل مادتها، وذلك في معرض حديثه عن أهمية القيم الحضارية في الإسلام وأثرها في بناء الأمة وتحقيق ترابطها الاجتماعي، فقال: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ{ (الأنفال: 24)، ففي هذه الآية أمر الله المسلم بالاعتصام بقيمه ليظفر بالسعادة المادية والروحية. كما أن القرآن الكريم قد وصف الوحي بأنه روح من عند رب العالمين، وأنه نور فقال: }وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا{ (الشورى: 52)، وهذا دليل على أن القيم الحضارية هي الروح التي تمد الأمة المسلمة بالحياة.
    وأرجعت السنة النبوية أهمية القيم الحضارية إلى أثرها في تنظيم علاقات الإنسان التي تشمل علاقته بربه الكريم، وبنفسه التي بين جنبيه، وعلاقته بالآخرين المسلمين وغير المسلمين، وبالكون وما حوى من الحيوان والنبات والموارد الطبيعية والبيئة التي تحيط به ويتفاعل معها، فهذه المخلوقات أمم متماثلة كما قال تعالى: }وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ{ (الأنعام: 38)، وقد شكل المفهوم القرآني لخلق الإنسان وغاية وجوده وفلسفة الحياة في قوله تعالى: }إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا{ (الإنسان: 2، 3) قاعدة وضعت السنة النبوية في هديها تصورا أشمل للعلاقات الإنسانية؛ فهي مفصلة لمجمل القرآن الكريم ومنطلقة من كلياته.


    وعلاقة الإنسان بالله تعالى تقوم على افتقار المخلوق إلى الخالق في ربوبيته وألوهيته، ومن القرآن الكريم ندرك أن القيم الحضارية من أداء الأمانة والوفاء بالعهد والصدق والعدل ذات أثر عظيم في العلاقة بين العبد والمعبود، فقوله تعالى: }وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ { (العنكبوت: 69)، يدل على أن المجاهدة تهدي إلى الصراط المستقيم، وأن اطمئنان القلب لا يتم إلا في ظل الاستمساك بالقيم الحضارية، وتشكل الهداية والاطمئنان حافزا للعقل المسلم ودافعا للفكر يفتح له آفاق العطاء والإبداع والتفاعل مع الآخرين تعلما وتعليما، نفعا وانتفاعا.

    وتمثل القيم الحضارية في الإسلام أعظم وسائل تهذيب النفوس واستكمال فضائلها لترتقي من الأمارة بالسوء إلى اللوامة ومن ثم إلى مرحلة النفس المطمئنة، ولن يستطيع المسلم بلوغ هذه المرتبة العالية إلا إذا حمل نفسه على الإيمان وكره إليها الكفر والفسوق، وما على المسلم إلا أن يصدق ما عاهد الله عليه ويربي نفسه على الصدق المرغب فيه في حديث: (عبد الله رضي الله عنه عن النبي r قال: إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا) [1]، وتتجلى أهمية القيم الحضارية وأثرها في تهذيب نفس المسلم وتمييزه عند النظر إليها في ضوء الواقع الاجتماعي في عصر التنزيل: (فقيمة العناية بالنظافة الشخصية تعتبر من أهم مزايا الإسلام وقيمه الحضارية؛ لأن العرب كانوا شعبا أقرب إلى البداوة، ولم يعتد أكثرهم الاهتمام بالنظافة في جسمه وثوبه وبيته، وكذلك الديانات التي كانت تسود جزيرة العرب وما جاورها لم تكن تهتم بأمر النظافة أو تحث عليها [2]) .

    وتبين السنة النبوية أن تزكية المجتمع المسلم تبدأ بتزكية الفرد نفسه بغرس القيم الحضارية مِن هَدْي النُّبوَّة كالعِلْم والعدل والصدق والوفاء بالعهد والإحسان، وقد صور النبي r تفاعل المجتمع معها وحاجته إليها في الحديث المروي عن: (أبي موسى عن النبي r قال: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) [3]، فالقيم الحضارية التي يُمثِّلها الهَدْي النَّبوي شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وهي طريق الأمة الإسلامية إلى الفوز والفلاح.

    ولما كان الإنسان مدنيا بالطبع يألف ويؤلف فقد وضعت الأديان السماوية أسس هذه العلاقات ووضحت قواعدها الشرعية، ولا شك في أن أثر القيم الحضارية في الإسلام لا يقتصر على تزكية النفس؛ بل يتعدى ذلك إلى العلاقات بين المسلم وأخيه المسلم، وكذلك علاقته بغير المسلم الكتابي أو غير الكتابي، فهذه العلاقات الإنسانية تكون نافعة ومثمرة في ظل القيم الحضارية التي تحدد الحقوق والواجبات وتبنيها على المصلحة العامة والمقاصد العامة للاستخلاف، ففي ظل القيم الحضارية الإسلامية يأمن الناس الظلم، والغش، والفساد، وسفك الدماء، ولو حدث شيء من ذلك عند نسيان الشرائع وتحريف الكتب السماوية والارتداد إلى الحمية فإن التشريع الجنائي الإسلامي كفيل بردع الظالم، والانتصار للمظلوم، ورد الحقوق إلى أهلها.

    وللإنسان شركاء آخرون في هذا الكون، فهناك البيئة التي تحيط به ويتفاعل معها وتشمل: الحيوان، والموارد الطبيعية، والبيئة الجغرافية، والنبات، وهي تشكل مع الإنسان عناصر الكون، ولا يبلغ الاستخلاف مقاصده إلا في ظل تفاعل هذه العناصر تفاعلا إيجابيا وتسخير بعضها لبعض كما في قوله تعالى: }وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ{ (الجاثية: 13)، والقيم الحضارية تصون هذا التفاعل من البغي، فإن قيمة العدل في الإسلام لا تنظم علاقة الإنسان بالإنسان وحسب؛ بل تضبط علاقته بعناصر الكون الذي أنيط به حفظه وتنميته، ومن ذلك ما رواه: (أبو هريرة قال قال رسول الله r: إذا سافرتم في الخصب، فأعطوا الإبل حظها من الأرض، وإذا سافرتم في السنة، فأسرعوا عليها السير، وإذا عرستم بالليل، فاجتنبوا الطريق، فإنها مأوى الهوام بالليل)[4]، وفي رواية أخرى: (وإذا سافرتم في السنة، فبادروا بها نقيها) [5]، والمسلم يتعامل بقيم الصدق والرأفة والوفاء مع بيئته، والحرص على هذه القيم وسيلة من وسائل غفران الذنوب كما ورد عن: (أبي هريرة عن النبي r: أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها، فغفر لها)[6]، وهي أيضا من أسباب الأجر الجزيل والمثوبة العظيمة كما جاء: (عن أبي هريرة. . . قالوا: يا رسول الله ! وإن لنا في هذه البهائم لأجرا. فقال في كل كبد رطبة أجر)[7]، ومن هذا التقسيم الذي جاء في السنة النبوية لآثار القيم الحضارية في رسالة الإسلام ودورها في تنمية العلاقات الإنسانية نستنبط أن قيمنا الحضارية زاخرة بالخصائص المتميزة فهي (قيم: جامعة، وجماعية، ولديها قابلية الانتشار والاستمرار)[8].



    [1] ـ أخرجه البخاري في الأدب باب: قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) وما ينهى من الكذب. ص 1177.

    [2] ـ السنة مصدرا للمعرفة والحضارة ـ د يوسف القرضاوي ـ ص 286/287

    [3] ـ أخرجه البخاري في العلم ـ باب: فضل من علم وعلم ـ ص 41.

    [4] ـ أخرجه مسلم في الإمارة. باب: مراعاة مصلحة الدواب في السير والنهي عن التعريس في الطريق. ـ ص 796.

    [5] ـ أخرجه مسلم في الإمارة. باب: مراعاة مصلحة الدواب في السير والنهي عن التعريس في الطريق. ص 797.

    [6] ـ أخرجه مسلم في السلام. باب: فضل سقي البهائم المحترمة وإطعامها. ص 923.

    [7] ـ أخرجه مسلم في السلام. باب: فضل سقي البهائم المحترمة وإطعامها. ص 923.

    [8] ـ القيم الحضارية في رسالة الإسلام ـ د / محمد فتحي عثمان ـ ص 25.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,741
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-04-2024
    على الساعة
    12:49 AM

    افتراضي

    المطلب الثاني: القيم الحضارية في: العقيدة، العبادة، الأخلاق:

    يبدأ الدخول في الدين الإسلامي باستسلام مطلق للخالق، وإذعان تام لمشيئته وإرادته، وذلك عندما ينطق العبد بالشهادتين، ويصدق الجنان، ويطمئن القلب، وتؤدي الجوارح أركان الدين، فتكتمل بذلك العناصر التي يجب توفرها في أهل القبلة الموصوفين في القرآن الكريم بالإحسان والاستمساك بالعروة الوثقى فقال تعالى: }وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ{ (لقمان: 22)، والعقيدة والعبادة يمهدان الطريق أمام الفرد المسلم لاكتساب الأخلاق الفاضلة خُلُقاً بعد خُلُق ونبذ الأخلاق الرذيلة التي تُذْهِب الحسنات وتحلق الدين.

    وتشكل العقيدة والعبادة والأخلاق مظان القيم الحضارية وقوالبها التي تندرج فيها، فما هذه المنظومة إلا شجرة باسقة الأغصان يحتوي كل فرع منها على قيمة حضارية فنجد اليقين في العقيدة، والإخلاص في العبادة، والمروءة في المُعامَلة، وفي ظل هذه العناصر الثلاثة تنمو بذرة القيم، وتشتد، وتستوي على سُوقِها، والقيم من ثمرات المجاهدة وآثار المرابطة، وعندما تفسد القيم الحضارية تبطل العقيدة وتذهب العبادة هباء منثورا وتنحط الأخلاق والمُعامَلة ويصبح العذاب مُتوقَّعاً، ولا فرق في ذلك بين اليهودي والوثني كما جاء في السنة: (. . . وعرضت علي النار، فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة لها، ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، ورأيت أبا ثمامة عمرو بن مالك يجر قصبه. . . ) [1]، وهذا المفهوم أحد وجهي تفسير قوله تعالى: }وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ { (هود: 117)، فقد قال بعض المفسرين: (أي: لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد، كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان، وقوم لوط باللواط، ودل هذا على أن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك، وإن كان عذاب الشرك في الآخرة أصعب) [2]، ومن حديث: (عائشة قالت قلت: يا رسول الله ! ابن جدعان، كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه ؟ قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) [3] ندرك أن التلازم بين العقيدة والقيم الحضارية ضرورة شرعية لتتحقق الثمار المنتظرة.


    والعقيدة الإسلامية ـ في حد ذاتها ـ تعتبر نقطة تحول في حياة الأفراد والجماعات، فإن الإنسان الذي يقبل على الإسلام يجد قيما حضارية سامية ترتقي بفكره، وتسمو بروحه، ويكتشف أن العقيدة ـ في المفهوم الإسلامي ـ تزخر بجملة من القيم الحضارية التي تصوغ الحياة الفكرية والثقافية وتحفز إلى العطاء والإبداع، ويكسبه الإيمان بالغيب قيما حضارية كالصدق، والعدل، واليقين، والوفاء بالعهد، وإعمال العقل وإدراك قيمته، والإقرار بالفضل ورده لأهله، ولذلك فإن المرء يحرص بعد دخول الإسلام على تحسس قيمه الجاهلية والتمييز بين ما يوافق الإسلام وما لا يوافقه فقد جاء: (عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت يا رسول الله ! أمورا كنا نصنعها في الجاهلية، كنا نأتي الكهان، قال: فلا تأتوا الكهان. قال قلت: كنا نتطير. قال: ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه، فلا يصدنكم) [4].

    وتطرد آثار التحول بعد أن يتخلل الإيمان القلب ويبلغ شغافه فتصبح القيم الحضارية الإسلامية نفائس يرجو المسلم خيرها ويدعو الناس إليها ويجاهد في سبيلها، وفي قوله تعالى: }وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ{ (غافر: 41، 42) نجد أن القرآن الكريم قد أكد التحول القوي الذي أحدثه الإيمان في مؤمن آل فرعون فأصبح من الداعين إلى القيم الحضارية، وجاء في الحديث ما يفسر هذه الرغبة ويبين علاقتها بالإيمان فقد روى ‏أنس ‏عن النبي ‏‏r ‏ ‏قال: (‏لا يؤمن ‏ ‏أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) [5].

    وليست العبادة ـ البدنية أو المالية ـ في المفهوم الإسلامي مجرد كلمات أو حركات تؤدى والنفس كارهة دون خشوع القلب وحضور العقل؛ ولكن العبادة يجب أن تقوم على شكر المنعم، وحبه، والطمع في جنته والخوف من عذابه، فأيما عبادة لم يقصد بها وجه الله أو جاءت مخالفة لما ورد في كتاب الله وسنة رسوله r فإنها عبادة باطلة لا تهذب سلوكا ولا تبرئ ذمة، ولما كانت العبادة ذات أثر عظيم في تنمية القيم الحضارية الإسلامية وغرسها في نفس المسلم فقد أمر الله النبي r بأن تكون حياته كلها ذكرا وصلاة وتسبيحا: }وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ{ (الحجر: 99)، وللعبادة أثر عظيم في تقويم سلوك العابد وتهذيب أخلاقه وتزكية روحه قال تعالى في شأن الصلاة: }وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ{ (العنكبوت: 45)، وفي شأن الصوم: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{ (البقرة: 183)، وفي شأن الزكاة: }خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا{ (التوبة: 103)، ومن هنا يتبين أن فلسفة العبادة في الإسلام تقوم على غرس القيم الفاضلة ووقاية الفرد والمجتمع من القيم الباطلة.

    وتأتي الأخلاق مكملة للمنظومة، ومتممة لمصادر القيم الحضارية، وثمرة للعقيدة والعبادة اللذين يغرسان الصفات في النفوس فينتج عنها آثار في السلوك محمودة أو مذمومة، والأخلاق الفاضلة هي الغاية التي يسعى المؤمن إلى نيلها والظفر بها، وهي أمر جبلي يكتسبه المرء من التنشئة ونوع التربية؛ ولكنها تنمو وتطرد بالاكتساب والتعلم والاغتراف من المصادر العلمية والتطبيقية، ونظرا لأهمية الأخلاق في الإسلام وصلتها بالقيم الحضارية وصعوبة حمل النفس عليها فقد أعظم الله أجر ذوي الأخلاق الرفيعة وأعلت السنة النبوية منزلتهم، فقال تعالى في مدح نبيه r واستنهاض همم أمته لتتبع نهجه: }وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ{ (القلم: 4)، وبينت السنة منزلة الأخلاق الحسنة فعن: (عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: لم يكن النبي r فاحشا ولا متفحشا، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقا) [6].

    وبهذا يتبين أن العقيدة والعبادة والأخلاق تعتبر في الإسلام منظومة واحدة يعتضد كل واحد منها بالآخر في بناء القيم الحضارية الإسلامية وتنميتها والحفاظ عليها، وفي ظل هذه المنظومة يدرك المرء أهمية القيم وضرورتها الشرعية، ويعلم أنها عندما تنبثق من الدين فإنها تأخذ صفة الشمول فتندرج فيها القيم الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإعلامية والثقافية لتتلاءم مع الوحي الذي ما فرط الله فيه من شيء، ويجدر بنا أن نختم هذا المبحث بحديث من روائع كلم الرسول r أجمل فيه أثر القيم الحضارية في العبادة والأخلاق والعقيدة، والعلاقة بين هذه المفردات، وثمراتها في الدنيا والآخرة، فقال فيما روى (أبو مالك الأشعري قال: قال رسول r: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبايع نفسه، فمعتقها أو موبقها) [7].



    [1] ـ أخرجه مسلم في الكسوف. باب ما عرض على النبي r في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار ـ ص 351.

    [2] ـ الجامع لأحكام القرآن ـ القرطبي ـ ج 9 ص 114.

    [3] ـ أخرجه مسلم في الإيمان. باب: الدليل على أن من مات على الكفر لا ينفعه عمل ص 115.

    [4] ـ أخرجه مسلم في السلام. باب: تحريم الكهانة وإتيان الكهان ـ ص 916.

    [5] ـ أخرجه البخاري في الإيمان باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه. ص 26.

    [6] ـ أخرجه البخاري في المناقب. باب: صفة النبي rص 682.

    [7] ـ أخرجه مسلم في الطهارة باب: فضل الوضوء ص 119.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,741
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-04-2024
    على الساعة
    12:49 AM

    افتراضي

    المطلب الثالث: ماضي القيم الحضارية الإنسانية ومستقبلها في السنة النبوية:


    للقيم الحضارية في الفكر الإسلامي جانبان مهمان: أما أحدهما فيتعلق بالأصول والثوابت وهي قيم الدين، وأما الثاني فيتصل بالفروع والظنيات وهي القيم الشرعية، وهذا التقسيم مستمد من السنة النبوية التي بينت العلاقة بين الأديان السماوية في ضوء القطعيات والظنيات، والعقائد والشرائع، والثوابت والمتغيرات، وحددت مواطن اتفاق الرسالات واختلافها ليستبين مصدر الوحي وأصل الرسالة. وقد جمعت السنة النبوية بين قوله تعالى: }شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ{ (الشورى: 13)، وقوله تعالى: }وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ{ (المائدة: 48)، وتم الجمع بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه من قول الرسول r: (. . . والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد)[1] .
    وقد نقلت لنا السنة النبوية ـ كما صنع القرآن الكريم ـ أخبار القرون الغابرة ـ القاسطين منهم والمقسطين ـ لتكون عبرة لأولي الألباب ووسيلة من وسائل التربية؛ وإذا كانت تلك الأخبار ضربا من ضروب الغيب فإن الله تعالى قد وصف نبيه r بقوله: }وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى{ (النجم: 3، 4)، وبناء على ذلك فإننا نجد في السنة النبوية ماضي القيم الحضارية وأثره في سلوك الإنسان لتكون وسيلة تربوية ومن ذلك ما رواه: (أبو سعيد رضي الله عنه، عن النبي r قال: كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا، ثم خرج يسأل، فأتى راهبا فسأله فقال له: هل من توبة ؟ قال: لا، فقتله، فجعل يسأل، فقال له رجل: ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت، فناء بصدره نحوها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجد إلى هذه أقرب بشبر، فغفر له) [2].
    وقد حظيت وسائل إفساد القيم الحضارية أو إصلاحها باهتمام كبير في قصص الدعوة الإسلامية، ففي القرآن الكريم قصة قارون التي تمثل الصراع بين المال والقيم، وأثر الثراء المصحوب بضعف الوازع الديني في الطغيان وانحراف القيم وإنكار الربوبية وجحد حقوق المنعم المتفضل، فقال الله تعالى: }إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ{ (القصص: 76)، وتضمنت هذه القصة آية عظيمة جمعت شتات القيم الحضارية الإسلامية وضمت خلاصتها وأثبت وسطيتها وهي قوله تعالى: }وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ{ (القصص: 77)، وكذلك أشارت السنة النبوية إلى المال وأثره في صلاح أخلاق السابقين أو فسادهم لتتبين أهمية الدين وأثره في الحياة، وجاء ذلك في قوله r: (فو الله! ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)[3] ولم يكتف النبي r بهذا المثال النظري فأتبعه بقصة الأقرع والأعمى والأبرص الذين ابتلاهم الله بالمال والعافية فشكر أحدهم وكفر الآخران، فقد روى عبد الرحمن بن أبي عمرة: (أن أبا هريرة tحدثه أنه سمع رسول r يقول: إن ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى، بدا لله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا. . . ـ وفي نهايتها يقول الملك للشاكر: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك) [4].
    وتعتبر هذه القصص الواردة في السنة النبوية مصدرا للدعاة وزادا للمسلم الذي يستجيب لقوله تعالى: }ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ{ (النحل: 125)، وقد أمر الرسول r المسلمين بالدعوة إلى الله، وبين أنها وظيفة الرسل والصالحين، وأنها تقوم على منهجية دقيقة ترتب فيها الأولويات، كما قال r: (لما بعث معاذا t على اليمن، قال: إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله. . . ) [5]. بيد أن السنة لم تكتف بمجرد الأمر بل دلت المسلم على الوسائل، فبينت أثر الأخلاق الفاضلة في هداية الناس وتأليف قلوبهم فقال r فيما رواه أبو هريرة: (إنكم لا تسعون الناس بأموالكم وليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق) [6]، فما من داعية إلى الله تعالى أو أب حادب يجادل ويحاور حوارا هادفا لغرس خلق فاضل، أو نبذ خلق سيء إلا وجد في السنة النبوية نماذج مؤثرة ومتنوعة للقيم الحضارية لدى الأمم السابقة.
    وقد كانت القيم الحضارية التي شكلت المحور الأكبر في الصراع والحوار بين الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وبين أقوامهم؛ حاضرة في العهد المكي الذي اشتد فيه الكرب على الرسول r وأصحابه رضي الله عنهم وتوالت المحن، فقد روى قيس قال: سمعت: (خبابا يقول: أتيت النبي r وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله، فقعد وهو محمر وجهه، فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد، ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه وليتمن الله الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله) [7]، فمن هذا الحديث نستنتج أن النبي r ـ وهو المعلم والإمام وقائد الجماعة ـ كان يضرب الأمثال ويقص أخبار السابقين ليزداد أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ إيمانا بالنصر والتمكين.
    أما مستقبل القيم الحضارية وآثارها المرتقبة فقد جاء في سياق الحديث عن أشراط الساعة ـ التي استأثر الله بعلمها ـ وما يقع بين يديها من الحوادث والكوائن، وانقلاب القيم الحضارية ورفعها، فقد ورد أن المجتمع سيضيع الأمانة التي استحفظ عليها فروى: (‏أبو هريرة‏: ‏قال: بينما النبي ‏ ‏r ‏ ‏في مجلس يحدث القوم، جاءه أعرابي فقال متى الساعة ؟. . . قال: ‏فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا‏ ‏وسد ‏الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) [8]، وبينت السنة النبوية كذلك أن القيم الحضارية تتبدل في آخر الزمان تبدلا جماعيا، فتصبح الرذيلة شعار المجتمع والباطل دثاره ويظهر الفساد في البر والبحر، وذلك في حديث: (أنس قال قال رسول الله r: إن من أشراط الساعة: أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، ويشرب، الخمر ويظهر الزنا) [9]. وكذلك اعتبرت انقلاب القيم الاقتصادية و القيم الاجتماعية للمجتمع المسلم من علامات الساعة كما جاء في قوله r: (. . . أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة، العالة، رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)[10].
    وانتحت السنة جانبا آخر في حديثها عن مستقبل القيم حينما تحدثت عن القيم الحضارية لدى الآخر ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وهي تؤكد بذلك أن معرفة نشأة حضارة الآخر وتطور قيمه ومدى التزام المجتمع بها ضرورة شرعية وواجب ديني تمليه ضرورة التعامل معه في ظل العلاقات الإنسانية الممتدة والمتداخلة، وفي ضوء طبيعة هذا الدين وعالميته واطراد أحكامه الشرعية في الأنكحة والأطعمة والأشربة والعلاقات الدولية، وشمل ذلك البيان للقيم الحضارية عند الآخر الجوانب الإيجابية التي تؤهله لقبول هذا الدين والتفاعل معه فقد روى أبو مسعود عقبة (قال قال النبي r: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة: إذا لم تستح فافعل ما شئت)[11]، كما شمل الحديث عن القيم الحضارية الباطلة لبعض الشعوب المقتبسة من أديانهم المحرفة، عن عبد الله قال قال رسول الله r: ليس منا من ضرب الخدود، أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية) [12]؛ وتارة يجمع النبي r بينهما في حديث واحد، ويحدد نشأتهما، وسببهما، وموقف المسلم منهما، وذلك في حديث: (عبد الله بن مسعود أن رسول الله r قال: ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) [13]


    [1] ـ أخرجه البخاري في الأنبياء باب: قول الله: (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها) ص663.

    [2] ـ أخرجه البخاري في الأنبياء باب: 54 ص 668/669.

    [3] ـ أخرجه مسلم في الزهد والرقائق ـ ص 1188.

    [4] ـ أخرجه البخاري في الأنبياء باب: حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل ص 666 / 667.

    [5] ـ أخرجه البخاري في. الزكاة باب: لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة ص 284.

    [6] ـ المستدرك ـ الحاكم ـ ج 1 ص 212. (وقال: هذا حديث صحيح معناه يقرب من أنهما لم يخرجاه عن عبد الله بن سعيد ـ وقال ابن حجر: وللبزار بسند حسن.

    [7] ـ أخرجه البخاري في فضائل الصحابة باب: ما لقي النبي rوأصحابه من المشركين بمكة ص 730/731.

    [8] ـ أخرجه البخاري في العلم باب: فضل العلم وقول الله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير) ص 59.

    [9] ـ أخرجه البخاري في العلم باب: رفع العلم وظهور الجهل ص 41.

    [10] ـ أخرجه مسلم في الإيمان ـ باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى ص 8.

    [11] ـ أخرجه البخاري في الأنبياء باب 54 ص 671.

    [12] ـ أخرجه مسلم في. الإيمان باب: تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية ص 67.

    [13] ـ أخرجه مسلم في الإيمان باب: بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان. ص51/52.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,741
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-04-2024
    على الساعة
    12:49 AM

    افتراضي

    المطلب الرابع: صراع الحضارات أو حوارها في ظل القيم الحضارية الإسلامية:


    انتقلت الحضارات الإنسانية المختلفة ـ الديني منها والوضعي ـ من الصراع المباشر وغير المباشر إبان الحرب العالمية الأولى والثانية إلى عهد ما يسمى بالحرب الباردة، وبدأ ذلك عند بروز الشيوعية ووضع لبناتها الأولى على يد مؤسسيها: كارل ماركس وفريدريك إنجلز اللذين استغلا عواطف العمال المقهورين من أرباب العمل في ظل النظام الرأسمالي وانتهزا سذاجتهم فمنياهم بالثروة ووعداهم بالرفاهية؛ ولا يعني هذا عدم وجود الصراع قبل الحربين العالميتين فقد كان هناك صراع كبير ولكنه إقليمي أو داخلي باعتبار حضاري أوديني.
    وبعد انتهاء الحرب الباردة وما صاحبها من سباق التسلح وحرب النجوم وزوال المعسكر الشرقي وتفكك منظومته التي كان يتزعمها الاتحاد السوفيتي؛ أصبح للعالم قطب واحد يهيمن على مقدراته، وهو المعسكر الغربي الذي تهيمن عليه الرأسمالية الغربية بنظامها الديمقراطي واقتصادها الحر وآلتها الإعلامية وانحلال قيمها وتفسخ أخلاقها القائمة أصلا على ديانات محرفة ومبدلة، وفي ظل هذه الأحادية بدأ بعض المفكرين الغربيين يروج لفكرة صدام الحضارات التي يفترض فيها العدو القادم، ويحدد شكله، ويهيئ الغرب بنظمه السياسية ونخبه الفكرية وأحلافه العسكرية وجماعاته الدينية لمواجهته مواجهة شاملة، وما هذا العدو المرتقب للحضارة الغربية إلا الإسلام الذي أوجبوا استئصاله واقتلاع شجرته من جذورها.
    والتنبؤ بحتمية الصراع ـ بعد انهيار الشيوعية ـ بين الحضارة الإسلامية وبعض الحضارات الآسيوية من جهة والحضارة الغربية من جهة أخرى يعد من بنات أفكار مراكز الدراسات الإستراتيجية والفكرية في الغرب، وهو امتداد طبيعي لذهنية اليهود وخصائصهم النفسية القائمة على الاستكبار والاستعلاء: }وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{ (البقرة: 91)، فهؤلاء المفكرون ومن شايعهم أدركوا أن المستقبل للدين الإسلامي الذي يملك مقومات البقاء من: الصدق، والعدل، وحفظ حقوق الإنسان، ويتصف بأسباب النهوض من: احترام العقل، والإيمان بالأسرة ورسالتها الاجتماعية والتربوية، وقدروا بناء على ذلك أنه إذا كانت هناك حضارة تشكل خطرا على الحضارة الغربية وتنافسها في ريادتها للعالم فإنها هي حضارة الدين الإسلامي الذي يعد أسرع الأديان انتشارا باعتراف الأعداء.
    ويستطيع المرء أن يستنبط ـ بسهولة ويسر ـ من الدعوة إلى صراع الحضارات أن انهيار القيم الحضارية ينتقل تأثيره من الحياة الاجتماعية للأمم إلى تخطيطها الاستراتيجي ويسلك سبيله إلى أهدافها العليا، فلولا الشعور بالاستعلاء والنظرة الفوقية وضيق الحضارة الغربية ذرعا بالآخر لما كانت الدعوة إلى الصدام مع الحضارة الإسلامية وإقصائها، وقد يصعب تحليل هذه الدعوة وردها إلى جذورها الحضارية والدينية الغربية اليهودية أو المسيحية؛ ولكن المسلم يجد ذلك في حديث القرآن الكريم عن العلاقات بين الشركاء في الجزيرة العربية من المسلمين واليهود والنصارى، وتلك العلاقات التي كانت بين مجتمعات بدائية صغيرة في رقعة جغرافية محدودة هي الأساس للعلاقات الدولية المعاصرة بين الحضارات المختلفة، فعلاقة اليهود بالعرب قامت على أكل أموال الناس بالباطل والاستضعاف والفتنة، فقال الله تعالى: }ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ{ (آل عمران: 75)، ويبين القرآن الكريم كذلك الأساس العام لهذا الخلق البذيء وأصل ذلك السلوك المبتذل، وذلك حين تحدث عن اليهود والنصارى وصفاتهم النفسية وفساد طريتهم فقال: }وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم{ (المائدة: 18).
    وقد ظن كثير من الناس أن الحضارة الغربية قد بلغت أوج الحضارة الإنسانية وجعلوا ذلك منطلقا لنظرية نهاية الدين ثم نهاية التاريخ لتثبيط العزائم وإضعاف الإبداع والسعي إلى التميز بحجة أن الدنيا ستنتهي عندها ولن تأتي بمثلها علما واقتصادا ورفاهية؛ ولكن الواقع يثبت أنها أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار والتلاشي، فما تتصف به من الإلحاد، والخواء الروحي، والإباحية، والشذوذ الجنسي لدى الرهبان وغيرهم، والجور، وازدواجية المعايير، وإدمان المخدرات، وانهيار نظام الأسرة، يجعلها تنتظم في قوله تعالى: }وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا{(الإسراء: 16)، وقد غاب عن الذين بهرتهم الحضارة الغربية بتقدم آلتها ومدنها الصناعية، وأدهشهم تطورها العلمي أنها حضارة عرجاء قامت على العمران والعلم وأهملت الروح والدين، واهتمت بالعقل والآلة وضربت الذكر صفحا عن القيم الإنسانية والأخلاق ونظام الأسرة والإيمان فشملها قوله: }قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ (المائدة: 100)، ولذلك ما ينبغي للمسلم أن يصدم بقوتها المادية وجبروتها المعرفي والعسكري والصناعي فهي لا تساوي شيئا بدون القيم والأخلاق.
    وهذه النتيجة الصحيحة للمقدمة المنطقية والأسباب الموضوعية ـ التي يؤكدها الواقع الماثل بين أيدينا ـ لا يقدح فيها ما ارتآه بعض المفكرين الغربيين المتفائلين ـ مثل المؤرخ البريطاني: أرنولد توينبي ـ (الذي لم يمنعه إثبات مرض الحضارة الغربية من القول بأنه قابل للعلاج وأنها قادرة على التجدد والتكيف مع الأزمة؛ فإن استخف هؤلاء المفكرون المشكلة فقد اعترف بها آخرون ووضحوا حقيقتها ومنهم المفكر الألماني: أوزفالد اشبنجلر الذي انتهى إلى أن الحضارة الغربية قد أصابتها أعراض الشيخوخة والتدهور)[1]، ويكتسب هذا الرأي أهمية كبيرة لأن مجرد الاعتراف بأزمة القيم يعتبر إقرارا بالانهيار فالأزمة: (تنمو وتنمو معها أيضا نتائجها، من الحد الذي يمكن تداركه بالتعديل البسيط إلى الحد الذي يصبح التعديل مستحيلا، أولا يمكن إلا بثورة ثقافية عارمة تكون في الحقيقة بمثابة انطلاقة جديدة للحياة الاجتماعية من نقطة الصفر) [2].
    وليست القيم الحضارية ـ في الإسلام ـ شرطا لقوة الحضارة وتتابعها وحسب؛ ولكنها ضرورة للحوار بين الحضارات الهادف إلى الاستقرار والأمن والسلم، فالقيم الحضارية المشتركة بين الحضارات هي الكفيلة بجعلها حضارات متحاورة تهدف إلى التعاون والتعايش، والسلم والاستقرار، والمسلمون يؤسسون حوارهم الحضاري مع الآخر على العدل والبر لقوله: }لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ{ (الممتحنة: 8، 9)، ويبنونه على وجوب الوفاء بالعهود وتحريم الغدر والخيانة كما ورد في حديث: (عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي r قال: من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما)[3]، وبهذا المفهوم تتميز الحضارة الإسلامية عن الحضارات المعاصرة التي جعلت مبدأها أن لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة بل مصلحة دائمة.
    ولم تخل المصادر الإسلامية من مفردات التدافع والتنافس بين بني آدم في شؤون الدنيا والدين، إلا أن وجودها لا يعني تطابق المفهوم الإسلامي مع التصور الغربي لصراع الحضارات؛ لأنه في الإسلام يأخذ شكلا مغايرا لما هو عليه في الفكر الغربي المعاصر وينطلق من أصول تخالفه ويتجه إلى غايات تناقضه تماما، فهو مبني وفق المنظور القرآني على تفاوت البشر في الأرزاق ومرتب على سنة كونية قضت برفع بعض العباد فوق بعض ليتخذ بعضهم بعضا سخريا، فالصراع في الإسلام يأخذ شكل التنافس المحمود والمجاهدة الشريفة، ويهدف إلى التجويد والإتقان، وتكون غايته البقاء والاستمرار قال الله تعالى: }وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ{ (البقرة: 251)، وبهذا يتبين الفرق بين التصور الإسلامي وما ذهبت إليه الملل الأخرى: (فقد أقر الإسلام بوجود الصراع، لكنه لا يقر التفسير المادي للتاريخ بأنه عبارة عن صراع بين المتناقضات أو بين الطبقات، وكذلك أقر بتنوع الصراع، فهناك صراعات دينية وعرقية وسياسية واقتصادية) [4].


    [1] ـ القيم الحضارية في رسالة الإسلام ـ د / محمد فتحي عثمان ـ ص 5/6.

    [2] ـ مشكلة الثقافة ـ مالك بن نبي ـ ص 91.

    [3] ـ أخرجه البخاري في الجزية والموادعة باب: إثم من قتل معاهدا بغير جرم ص607

    [4] ـ تفسير التاريخ ـ د / نعمان عبد الرزاق ـ ص 193.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,741
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-04-2024
    على الساعة
    12:49 AM

    افتراضي

    المبحث الثالث: غرس القيم الحضارية في المجتمع الإسلامي:
    المطلب الأول: أهمية غرس القيم الحضارية في ضوء السنة النبوية:



    كان المبحث الثاني تمهيدا لهذا المبحث المتعلق بغرس القيم الحضارية في المجتمع المسلم، فإذا تقرر أن القيم الحضارية بلغت ذلك المبلغ من الأهمية، فشكلت لحمة حضارتنا وسداها، وأصبحت القيم على ماضي الإنسانية وحاضرها، واتصلت بالعقيدة والشريعة والأخلاق فكيف السبيل إلى غرس هذه القيم في المجتمع رعاة ورعية، أفرادا وجماعات ؟ وما الوسائل التربوية المعينة ـ ترغيبا أو ترهيبا ـ على إعادة صياغة المجتمع المسلم في العصر الحاضر ليتفق مظهره مع مخبره ويأتلف نصا وواقعا ؟، فهذا المبحث يشكل خلاصة البحث الذي يؤكد أن خيرية هذه الأمة ووسطيتها وتميز هويتها مرهونة بتحقيق القيم الحضارية الإسلامية وتوافرها في حياتنا أفرادا وجماعات.
    فليست الغاية من قيم الإسلام الحضارية أن تكون حبيسة في قوالبها تتلوها الألسن دون تدبر ووجل، فهذه الصورة التي تطغى على المجتمع المسلم حينما تضعف عرى الدين ويظهر الفساد تسلكه في زمرة النمط المذموم في القرآن الكريم: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ{ (الصف: 2، 3)، فما شرعت القيم الحضارية التي نزلت بها الكتب السماوية إلا ليحتذي بها الناس في سلوكهم، وتضبط علاقاتهم، والمجتمع الذي يصفح عن قيمه الحضارية الفاضلة ويعرض عن أخلاقه يصبح مجتمعا ظالما، وينتظم في سلك الظالمين المذكورين في قوله تعالى: }فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ{ (الحج: 45).
    وجمع الإسلام بين جانبين عظيمين من جوانب القيم الحضارية في معرض الحديث عن أهمية تطبيق القيم الحضارية، وهما حديثه عن مبادئها الكلية النظرية من ناحية، وحديثه عن آثارها في النفس ودورها في توجيه السلوك من ناحية أخرى، وقد جاء النمط الأول في قوله تعالى: }قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ{ (الأعراف: 29)، أما النمط الثاني فقد جاء في قوله تعالى: }قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى{ (الأعلى: 14، 15)، كما ميز المعنوي والمادي من القيم الحضارية، فبينما نجد القيم المعنوية من الخشية والخوف والوجل والإيمان في قوله تعالى: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ{ (الأنفال: 2)، نجد القيم العملية السلوكية المتمثلة في اجتناب الآثام وتحقيق الشورى وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة في قوله تعالى: }وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ{ (الشورى: 38)، ولا شك في أن هذا المنهج يهدف إلى تبصير المسلم بأهمية غرس هذه القيم ومعرفة الأولويات.
    وأكد الإسلام أن غرس القيم الحضارية في نفوس المؤمنين يعتبر عماد التربية الفردية والجماعية، ومن أجل ذلك فقد أوجب على الدولة القيام بذلك وأناطه بها، وقد أجمع الفقهاء على وجوب عقد الإمامة وعرفوها بقولهم: (هي موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا بها) [1] ومن هنا فإن الحاكم لا يقوم بحراسة القيم الحضارية وحفظها بقوة السلطان من المهددات وحسب؛ بل يقوم بتوفير مؤسساتها التربوية من المدارس والمساجد والمناهج وتمكين العلماء الربانيين من الدعوة إليها بالوسائل المختلفة؛ ولكن المسئولية تجاهها تعتبر من المسئوليات الجماعية التي تندرج في حديث: (عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسولr قال: ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته) [2]، فمن هنا يتبين عدم جواز الاعتماد في غرس القيم الحضارية وترغيب المجتمع فيها على الوعظ والإرشاد والجهود الطوعية الفردية أو الجماعية وحسب؛ فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن الكريم، وإن من أهداف النظام السياسي في الإسلام ونظام العقوبات وفرض الجهاد حفظ القيم الحضارية والدعوة إليها وتطبيقها لحفظ الأمن، وردع الظالم، و نصرة المظلوم.
    وقد وصف القرآن الكريم القيم الحضارية بأنها الكلمة السواء التي تلم شعث الأمة، وحبل الله الذي اعتصم به المسلمون فهداهم بعد الضلال، وأعزهم بعد الذل، وبهذا المفهوم القرآني أصبحت العناية بها من أعظم وسائل الوحدة الإسلامية، فهذه الوحدة كما تتجلى في حج البيت وصوم رمضان وإقام الصلاة فإنها تتجلى في القتال في سبيل الله وهو ذروة سنام القيم الحضارية في الإسلام قال الله تعالى: }إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ{ (الصف: 4) فالمسلمون هنا: (كأنهم في اصطفافهم هنالك حيطان مبنية قد رص، فأحكم وأتقن، فلا يغادر منه شيئاً، وكان بعضهم يقول: بني بالرصاص) [3] ومن قوله تعالى: }قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ { (آل عمران: 64)، نستنبط وجوب الاهتمام بنشر القيم الحضارية الإسلامية لأنها كفيلة بهداية البشر وجمعهم على الحق والخير والهدى.
    المطلب الثاني: وسائل غرس القيم الحضارية في الفرد والأسرة والمجتمع:
    تميز المجتمع المسلم بقيمه الحضارية الصحيحة التي أهلته ليكون شهيدا على الناس كما قال الله تعالى:} وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا{ (البقرة: 143)، وهناك سبل متعددة مادية ومعنوية تحقق هذه القيم وتغرسها في النفوس، ولما كانت الشريعة الإسلامية متصفة بالشمول في أحكامها لصلاحيتها لكل زمان ومكان فقد اهتمت بالوسائل كما اهتمت بالغايات؛ فما من وسيلة بدنية أو روحية، فردية أو جماعية، قولية أو فعلية وردت في حديث النبي r عن وسائل التربية إلا وذيلت أو بدئت ـ تصريحا أو تلويحا ـ ببيان الأجر العظيم في الدنيا والآخرة؛ فإن مما جبل عليه الإنسان أنه لا يكترث للمكارم ولا يحفد إلى الفضائل إلا إذا جاءت الدعوة إليها مؤكدة بالثمرات ومقرونة بالمرغبات.
    ورغم أن طرق غرس القيم الحضارية متجددة من عصر إلى عصر ـ وفقا للتطور الحضاري والعلمي ـ فإن الإسلام قد وضع قواعد شرعية ومبادئ كلية تستوعب كل ما يستجد من الوسائل، وشكلت هذه المبادئ أدلة تعين العقل المسلم على مجابهة التحديات التربوية الكبيرة التي أفرزتها المدنية الحديثة، فمن المعلوم أن العولمة قد أدت إلى زوال الحواجز السياسية والجغرافية والتربوية، وأضحت المناهج وقوالبها وتطبيقاتها تمثل تحديا حضاريا، ووسيلة من وسائل الصراع الثقافي، فمراكز اللغات الأجنبية ـ على سبيل المثال ـ بمناهجها ووسائل تدريسها وأمثلتها وتطبيقاتها أصبحت من وسائل نشر القيم الحضارية.
    وإذا كانت القوالب التربوية التي تصوغ القيم الحضارية، وتغرسها في الناشئة، وتنميها لديهم، وتسهم ـ تبعا لمناهجها ومواردها البشرية والفنية ونظمها الإدارية ـ في حفظ القيم الحضارية وحمايتها مما يعرض لها؛ إذا كانت تلك القوالب في صدر الإسلام محصورة في المسجد والبيت ومجالس العلم فإنها قد تطورت في العصر الحاضر لتشمل المدارس ـ المتشعبة تبعا للفئة العمرية، والتخصص، والمستوى الاقتصادي والاجتماعي ـ والجامعات، والفضائيات، وشبكة المعلومات العنكبوتية، والبيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ بل غدت تشمل العمالة المنزلية التي تهدد القيم الحضارية وتؤدي إلى تغيير هوية الطفل المسلم تبعا لديانة المربية أو الخادمة أو السائق.
    ومن هنا تعددت التحديات أمام علماء التربية في العالم الإسلامي، وتعين عليهم البحث عن الحلول التربوية التي تحفظ القيم الحضارية: كالعدل، والرحمة، وإقام الصلاة، وإيتاء ذي القربى، والحرية المقيدة بضوابط الدين، وطلب العلم الديني والدنيوي، ونفع الناس، وتنمية الإبداع، وقوة الانتماء إلى الدين، والاعتزاز بلغة القرآن الكريم، وتمر هذه التحديات بأطوار متعددة تبدأ بالتخطيط التربوي على مستوى القطر الواحد، أو على مستوى العالم الإسلامي، وتمر بالتنفيذ والإشراف على السلم التعليمي، والمقررات، ومعايير اختيار المعلم، وإعداده، وطرق التدريس، والكتب المنهجية، والتقويم، والأنشطة الطلابية، ورسالة الوسائل التربوية ووسائل تحقيقها، والإفادة من التقنية، حتى تصل إلى لب النظام التربوي الإسلامي الذي يرتضيه المسلمون منهاجا وحكما، وأسلوبا ونمطا، ويتميز بوضوح المفهوم، ودقة الضوابط، والجمع بين الأصالة والمعاصرة، والتوافق بين الأهداف و مقاصد الشريعة الإسلامية التي ترمي إلى جلب النفع العام ودفع الضر العام وحفظ الدين، والنفس، والمال، و العرض، والعقل.
    وقد حظيت قضية غرس القيم الحضارية بعناية الفكر الإنساني في العصر الحديث، وتطورت مؤثراته الداخلية والخارجية في المجتمعات الصناعية المتقدمة، فقد ثبت أن غرس القيم الحضارية يتأثر بطبيعة الدستور، وشكل العلاقة بين الدين والدولة، والهجرة، والتصنيع، والخلافات الدينية، والتعددية الثقافية. وقد ثبت كذلك أن تدريس القيم الخلقية الحضارية يتأخر عندما يتفكك المجتمع وتتباين معتقداته، وقيمه، وأساليب حياته [4]. ولذلك فإن سبب فساد القيم الغربية والقطيعة بينها ومجتمعاتها يكمن في اضطراب مصادرها المتمثلة في المسيحية المحرفة التي توارت عن الحياة، أو الديمقراطية التي لا تملك تصورا واضحا للمواطنة. [5]
    وقد بنيت القيم الحضارية في الإسلام على مبدأ راسخ يسهم في نشرها بين أفراد المجتمع ترغيبا وترهيبا، وهو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يجب أن يكون مظهر المجتمع ومخبره، وقد بين القرآن الكريم أن فلاح المجتمع مرهون بتحقيق هذا المبدأ الذي يعتبر أعظم وسائل الدولة في تحقيق الخير والإصلاح ومحاربة الشر والفساد، وهو المبدأ الذي يُمَيِّز المجتمع الإسلامي عن المجتمعات الأخرى التي تفرقت واختلفت فكان عاقبة أمرها الهلاك، قال الله تعالى: }وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ { (آل عمران: 104، 105)، فإن (المقصود من هذه الآية, أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن, وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه,. . . قال رسول الله r من رأى منكم منكرأً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" [6]. . . وفي الآية الثانية ينهى تبارك وتعالى هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضين في افتراقهم واختلافهم وتركهم الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, مع قيام الحجة عليهم) [7].
    ومن أساليب النبي r في تربية الصحابة رضي الله عنهم نلحظ تعدد وسائل غرس القيم الحضارية في النفوس، وذلك لتتناسب ومواهب الداعية إلى الله تعالى وتتلاءم مع طبيعة الشخص المدعو وثقافته وتتفق مع تقديم الأهم على المهم، فقد اتبع النبي r أسلوب الترغيب في الثواب الدنيوي تارة كما روى أنس بن مالك رضي الله عنه: (من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره، فليصل رحمه) [8]، وأسلوب الترغيب في الثواب الأخروي كما روى أبو هريرة رضي الله عنه: (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم) [9]، وتارة يأتي الترغيب في العمل وهو قيمةٌ خُلُقيَّة في سياق العذاب والتخويف منه، ومنه حديث عدي بن حاتم: (أن النبي r ذكر النار فأشاح بوجهه فتعوذ منها، ثم ذكر النار فأشاح بوجهه فتعوذ منها، ثم قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة) [10]، وتارة ببيان أن القيمة المأمور بها من لوازم الإيمان كما في حديث أنس: (عن النبي r قال: والذي نفسي بيده! لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره (أوقال لأخيه) ما يحب لنفسه)[11].
    و كذلك من الأساليب النبوية ورود الدعوة إلى القيمة الحضارية في سياق السؤال والجواب لتنشيط المخاطبين وتهيئة عقولهم كما في حديث عبد الله بن عمر عن قيمة نفع الناس والمسارعة إلى الخيرات: (قال رسول الله r: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي؟ يا رسول الله! قال فقال: هي النخلة، قال: فذكرت ذلك لعمر، قال: لأن تكون قلت هي النخلة، أحب إلي من كذا وكذا)[12]، وتارة يقص القصص لتشويقهم واسترعاء انتباههم كما روى حذيفة رضي الله عنه عن: (رسول الله r: تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم، فقالوا: أعملت من الخير شيئا؟ قال: لا، قالوا: تذكر، قال: كنت أداين الناس، فآمر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجوزوا عن الموسر، قال: قال الله عز وجل: تجوزوا عنه)[13]، وتارة يضرب الأمثال ليقرب البعيد ويجلي الغامض من المعاني كما روى النعمان بن بشير: (قال: قال رسول الله r: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)[14]، ونخلص من هذه الوسائل النبوية المتعددة إلى قاعدة جامعة وهي: أن التربية القيمية يجب أن تقوم في العصر الحديث: (على تقديم المبدأ والمقياس الخلقي الإسلامي، وتدريسها من خلال مواد المنهج، وتهيئة البيئة الملائمة للسلوك الحسن)[15].


    [1] ـ الأحكام السلطانية ـ الماوردي ـ ص 63.

    [2] ـ أخرجه البخاري في الأحكام باب: قول الله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ص 1362.

    [3] ـ الجامع لأحكام القرآن ـ الطبري ـ ج 22 ص 611.

    [4] ـ تدريس القيم الخلقية ـ د/بشيرحاج التوم ص 7.

    [5] ـ المصدر السابق ـ ص 11.

    [6] ـ أخرجه مسلم في الإيمان. باب: بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان ـ ص 51.

    [7] ـ تفسير ابن كثير ـ ابن كثير ـ ح 1 ص 390.

    [8] ـ أخرجه البخاري في البيوع باب: من أحب البسط في الرزق ص 391.

    [9] ـ أخرجه مسلم في الإيمان باب: بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون وأن محبة المؤمنين من الإيمان وأن إفشاء السلام سبب لحصولها ص 53.

    [10] ـ أخرجه البخاري في الرقاق باب: صفة الجنة والنار ـ ص 1255.

    [11] ـ أخرجه مسلم في الإيمان باب: الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير ص 50.

    [12] ـ أخرجه مسلم فيصة القيامة والجنة والنار باب: مثل المؤمن مثل النخلة ـ ص 1130.

    [13] ـ أخرجه مسلم في المساقاة باب: فضل إنظار المعسر ص 638.

    [14] ـ أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم ص 1041.

    [15] ـ تدريس القيم الخلقية ـ د/بشيرحاج التوم ص 18.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,741
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-04-2024
    على الساعة
    12:49 AM

    افتراضي

    الخاتمة:
    أ‌-
    النتائج


    بعد أن فرغت ـ بحمد الله وتوفيقه ـ من كتابة هذا البحث توصلت إلى نتائج مباركة نافعة حول القيم الحضارية في الإسلام، وخلصت إلى توصيات مهمة لاستعادة ريادتنا الحضارية، وذلك بعد تحليل أزمة القيم نشأة وتطورا، وتشخيص الداء لمعرفة الأسباب والأعراض، ومن ثم وصف الدواء الناجع في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والشمائل المحمدية.
    وقد خلص البحث إلى أن مفهوم القيم الحضارية في الإسلام ذو دلالات لغوية واصطلاحية واسعة تطورت في ظل تعدد العلوم، وقد وسعت السنة النبوية دلالته فبينت مصادره الدينية والعرفية والعقلية والفطرية، وبينت كذلك أن القيم تمثل أصل الحضارة وعماد أمرها، وأثبتت ربانيتها وتكاملها، وأكدت التلازم بين القيم الحضارية والاجتماع البشري، وجاء ذلك في ضوء مقومات متعددة تجعل السنة النبوية مصدرا للتراث الإنساني، وكذلك توصل البحث إلى أن السنة النبوية قسمت القيم الحضارية وفق منهج متميز يبين الأهم والمهم، واعترفت بالتنوع القيمي تبعا لاختلاف الأديان والطباع والتقاليد، ومن نتائجه أن السنة النبوية قسمت القيم من حيث الأداء إلى فردية، وجماعية، وكذلك إلى بدنية، ومالية، وذهنية، وأما من حيث الموضوع فتنقسم إلى قيم سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وإعلامية.
    وأفضى البحث إلى أن السنة النبوية بينت أهمية القيم الحضارية وحاجة البشر إليها، وأنها أساس الصراع بين الحق والباطل، وهي أساس دعوة الأنبياء ـ عليهم السلام ـ، ومحور الصراع أو الوئام بينهم وأقوامهم، وتنبع هذه الأهمية من أثرها في تنظيم علاقة الإنسان بربه، وبنفسه، وبالآخرين، وبالبيئة المحيطة به من الأحياء والجمادات، ومن النتائج أن القيم الحضارية تنشأ وتنمو وتؤتي أكلها في ظل الاعتصام بالعقيدة والمحافظة على العبادات والتحلي بالأخلاق الفاضلة، وأخبرت السنة النبوية عن القيم الحضارية الصحيحة والباطلة لدى الأمم الغابرة من ناحية وما تكون عليه في المستقبل قبل قيام الساعة من ناحية أخرى، وفي السنة النبوية نصوص تبين أن الحوار بين الحضارات الإنسانية أو الصراع بينها مرهون بمنظومة القيم الحضارية الخاصة أو المشتركة.
    وكذلك توصل البحث إلى أن غرس القيم الحضارية الإسلامية في النفوس ضرورة شرعية وواجب ديني، وهو الجانب التطبيقي الذي يشكل أهم المقاصد، فللقيم الحضارية أثر بارز في توحيد الصف، ووضعت السنة النبوية قواعد كلية تنظم وسائل غرس القيم الحضارية التي تشمل الأسرة والمسجد والمدرسة والمجتمع والوسائل الإعلامية، وهي قادرة على استيعاب المستجدات التربوية والتعليمية، وحملت السنة النبوية الحاكم مسئولية غرس القيم الحضارية، ثم تتنزل المسئولية لتشمل الأفراد ومؤسسات المجتمع، وأثبت البحث أن السنة النبوية زاخرة بالوسائل الحسية والمعنوية التي تمكن الفرد والجماعة من غرس القيم الحضارية في المجتمع، وقد أثبتت السنة النبوية أن مستقبل الإسلام مرهون بالاعتصام بقيمه الحضارية.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

صفحة 1 من 2 1 2 الأخيرةالأخيرة

القيم الحضارية: مفهومها وأهميتها ووسائل تطبيقها في السنة النبوية

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. أهمية النية في السنة النبوية
    بواسطة فداء الرسول في المنتدى من السيرة العطرة لخير البرية صلى الله عليه وسلم
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-10-2012, 12:16 PM
  2. {}{} واجب المسلم تجاه السنة النبوية {}{}
    بواسطة نضال 3 في المنتدى من السيرة العطرة لخير البرية صلى الله عليه وسلم
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-11-2010, 11:53 PM
  3. *(*) منابع السنة النبوية ...هاااااااام جدا جدا (*)*
    بواسطة نضال 3 في المنتدى من السيرة العطرة لخير البرية صلى الله عليه وسلم
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 16-02-2010, 08:56 PM
  4. إصلاح ذات البين في السنة النبوية
    بواسطة الحاجه في المنتدى من السيرة العطرة لخير البرية صلى الله عليه وسلم
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 06-11-2009, 01:00 AM
  5. صحيح السنة النبوية
    بواسطة قابضة على الجمر في المنتدى منتدى الكتب
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 15-05-2008, 09:56 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

القيم الحضارية: مفهومها وأهميتها ووسائل تطبيقها في السنة النبوية

القيم الحضارية: مفهومها وأهميتها ووسائل تطبيقها في السنة النبوية