القيم الحضارية: مفهومها وأهميتها ووسائل تطبيقها في السنة النبوية
القيم الحضارية: مفهومها وأهميتها ووسائل تطبيقها في السنة النبوية
د. محمد بشير محمد البشير
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فإن القيم الحضارية كانت ـ ومازالت ـ عماد الدعوة وأصل الإسلام، فلولا انهيار القيم الحضارية في الجاهلية لما كانت البعثة النبوية التي أخرجت الناس من ظلمات الشرك، والظلم، إلى نور الإيمان، والعدل، وفي الحديث أن: (. . . الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب. . .) [1]
فأرسل نبيه
متمما لمكارم القيم، ومعدنا للخير، وموئلا لأعظم قيمة حضارية: }وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ{ (الأنبياء ـ 107)، واختلفت الاستجابة من فرد إلى فرد فمن العباد من: (أظهر إيمانه وأخلص في طاعاته، ومنهم من تخلف، وتأبد بالعداوة والكفر، ومنهم من نافق) [2].
ولا يعود ازدهار الحضارة الإسلامية في القرون الذهبية إلى الأنظمة الدقيقة والهياكل المحكمة للنظم المختلفة التي جاد بها العقل المسلم مبتكرا أو متفاعلا مع الحضارات الأخرى، ولا إلى النهضة العلمية في الترجمة والتأليف والابتكارات وتطوير المنهج؛ بل يرجع إلى القيم الحضارية في الإسلام التي حفزت العزائم إلى صناعة الحضارة، فإذا كانت قصة حضارتنا قد بدأت باجتماع الكلمة فإن القيم الحضارية هي التي جمعت القلوب: }وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ{ (الأنفال ـ 63 )، وقبل ذلك كانت بين العرب في الجاهلية: (حروب كثيرة. . . وأمور يلزم منها التسلسل في الشر, حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان) [3] فنشطت الأمة من عقال الجهل والخمول واستشرفت الحضارة والمجد.
وتعتبر القيم همزة الوصل بين الحضارة والثقافة، والجسر الذي يربط العلم بالحضارة، فلولا القيم الحضارية لاخترع الإنسان آلات الفساد ووسائل الغواية التي تؤدي إلى تدمير البلاد وإهلاك العباد، ومن هنا فإنه يجب على العلماء الربانيين بيان مفهومها وخصائصها وآثارها في ظل أزمة القيم التي برزت مع المادية الغربية، ومشكلة الهوية التي تعاظمت مع زوال الخصوصيات الدينية، والدعوة إلى صراع الحضارات، والسعي لهيمنة الحضارة الغربية على الحضارات الأخرى.
تعتمد فكرة البحث الذي جاء تحت عنوان ـ (القيم الحضارية مفهومها وأهميتها ووسائل تحقيقها في السنة النبوية) ـ على بيان المراد بالقيم الحضارية في الإسلام، وأثر الوحي في إيضاح مفهومها، وتأكيد أهميتها في بناء الحضارة وتقدمها، وإسهامها وعطائها، وبيان دور التخلي عن القيم الحضارية في ضعف حضارتنا واضمحلالها في العصر الحديث، فالحضارة الإسلامية سادت العالم قرونا عديدة، وفي كنفها ازدهر الفكر وتطور العلم، ولكنها انتكست وأصبحت في ذل بعد عز، وضعف بعد قوة؛ لأنها نسيت ضوابط التمكين وذهلت عن غايته.
ويهدف البحث كذلك إلى تأصيل القيم الحضارية التي تقوم على تكريم الإنسان، واحترام عقله، وتبنى على تحقيق العدل، والتحلي بمكارم الأخلاق، وترك الرذائل، وتؤسس على العقيدة، والعبادات المزكية للنفوس والناهية عن الفحشاء والمنكر، ويهدف كذلك إلى بيان منهج السنة النبوية في إثبات الفرق بين القيم الحضارية الصحيحة والباطلة، وإيضاح أثرها في بيان أهمية القيم الحضارية ووجوب التمسك بها، وكذلك في غرس القيم الحضارية في نفوس الفرد والأسرة والمجتمع كله، وربط ذلك بواقعنا المعاصر.
وقد عزوت ما استشهدت به من الآيات والأحاديث والنصوص لمصادرها، وقسمت البحث إلى مباحث ومطالب.
[1] ـ أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها. باب: الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار ـ ص 1149.
[2] ـ شرح النووي لصحيح مسلم ـ النووي ـ ج 17 ص 198.
[3] ـ تفسير ابن كثير ـ ابن كثير ـ ج 2 ص 323.
اللهم نصرك لغزة الذي وعدت
المفضلات