أصل التوحيد
بقلم
الشيخ لطف الله خوجه
جزاه الله تعالى خيراً
===================
لا نعلم أمراً اجتمع كثير من الناس على التفريط فيه والغفلة عنه ونسيانه
كاجتماعهم على التفريط في الدعوة إلى سؤال الله وحده، وترك سؤال المخلوق؛
فهذا الأمر بالرغم من كونه أصل التوحيد والدين،
إلا أنه ما زال مجهولاً عند أكثر الناس، العامي منهم والمتعلم،
ولا تكاد تجد أحداً يذكّر به، أو يلفت النظر إليه،
بل جُلّ المواعظ منصبة على التحذير من الذنوب،
والتحذير من كيد الأعداء، والحض على المسارعة في الطاعات،
أما هذا الأصل الكبير فقلّ من يتكلم به،
مع أن القرآن يوليه الأهمية الكبرى،
والسنة تفسح له مكاناً كبيراً بالتفصيل والبيان البليغ،
حتى ليخيل إلى المتأمل أن الدين كله في سؤال الله وحده.
فإذا تتبعنا آي القرآن وجدناها تحرض على سؤال الله - تعالى -، وتأمر به:
ـ تارة ببيان أن الفضل له. يقول - تعالى -:
وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ [النساء: 32].
ـ وأخرى ببيان قربه من عباده، وسماعه كل ما يسألونه، وإجابته لهم.
يقول - تعالى -: ـ
وَإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ
[البقرة: 186].
ـ وثالثة بوعيد من استغنى، فلم يرفع حاجاته إلى الله - تعالى -، واستكبر عن سؤاله.
يقول - تعالى -: ـ
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ
[غافر: 60]
ـ ورابعة بالترغيب في سؤال الله وحده،
والتنفير من سؤال الخلق، بوصفهم لا يملكون شيئاً.
قال الله - تعالى -:
إنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إفْكًا
إنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا
فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ
وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ
[العنكبوت: 17]
ويقول:
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْـمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
[الملك: 1].
ويقول:
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا
وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْـمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا *
وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ
وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا
وَلايَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاحَيَاةً وَلا نُشُورًا
[الفرقان: 2 ـ 3].
ـ خامسة بالثناء الكبير على المستعفين المستغنين عن سؤال الناس.
يقول الله - تعالى -: ـ
لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ
يَحْسَبُهُمُ الْـجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ
تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْـحَافًا
[البقرة: 273].
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وإذا التفتنا إلى السنة وجدناها تفصِّل في هذه القاعدة تفصيلاً دقيقاً:
ـ فتارة ينهى رسول الله -
- أن يسأل أحد شيئاً لا يحل له فيقول:
«ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعة لحم».
ـ وأخرى يحث على العمل والتكسب حتى لا يتعرض لسؤال الناس فيقول:
«لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو فيحتطب،
فيبيع فيأكل ويتصدق خير له من أن يسأل الناس».
ـ وثالثة يخبر بأن الجنة ثواب من عفَّ عن سؤال الناس.
يقول ثوبان -
- :قال رسول الله -
-:
«من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئاً فأتكفل له بالجنة؟
فقلت: أنا.
فكان لا يسأل أحداً شيئاً».
ـ وفي الرابعة يبلغ به الحرص لتأصيل هذا الركن فيجعله من بيعته لأصحابه؛
فعن عوف بن مالك الأشجعي قال:
«كنا عند رسول الله -
- تسعة أو ثمانية أو سبعة،
فقال: «ألا تبايعـون»؟ ـ
وكنا حديثي عهد ببيعة ـ فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله!
ثم قال: ألا تبايعون رسول الله؟
فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله!
ثم قال: ألا تبايعون رسول الله؟
فبسطنا أيدينا، وقلنا: قد بايعناك يا رســول الله! فعــلامَ نـبايعــك؟
قال: على أن تعبـدوا اللــه، ولا تشركوا به شيئاً،
والصلوات الخمس وتطيعوا.
وأسرَّ كلمة خفية: ولا تسألوا الناس شيئاً؛
فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم
فما يسأل أحداً يناوله إياه».
ـ وخامسة لكون هذا الأمر من أصول الدين؛
فقد كان يبادر به الصبيان والصغار، فيأمرهم به، كما كان يأمرهم بالصلاة لسبع،
فها هو يقول لابن عباس -
- وهو غلام صغير:
ـ «يا غلام! إني أعلمك كلمات:
احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك،
إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ».
ويؤكد له هذا المعنى بقوله:
«واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء
لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك،
وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء
لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك،
رفعت الأقلام، وجفت الصحف» .
ـ وسادسة كان - عليه الصلاة والسلام - يستغل كل مناسبة وحادثة؛
ليبين للناس أن سؤال الله - تعالى - أجدى لهم من سؤال غيره،
فيقول:
«من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته،
ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله
فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل» .
ـ وعن أبي سعيد الخدري أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله -
- فأعطاهم،
ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده،
فقال: «ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم،
ومن يستعفف يعفه الله،
ومن يستغن يغنه الله،
ومن يتصبر يصبره الله،
وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر».
وقد انتفع الصحابة من موعظة النبي -
- لهم،
ورسخت فيهم هذه القاعدة؛ فكانوا لا يسألون أحداً شيئاً،
كما مر معنا في حديث عوف وثوبان.
جاء حكيم بن حزام فسأل النبي -
- فأعطاه،
ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه،
فقال: «يا حكيم! إن هذا المال خضرة حلوة،
فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه،
ومن أخذه بإشراف نفس، لم يبارك له فيه،
كالذي يأكل ولا يشبع..
اليد العليا خير من اليد السفلى.
قال حكيم: فقلت: يا رسول الله!
والذي بعثك بالحق،
لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً، حتى أفارق الدنيا»؛
فكان أبو بكر -
- يدعــو حكيماً إلــى العــطاء فيأبى أن يقبله منــه،
ثم إن عمــر -
- دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئاً،
فقال: «إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم،
أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه»،
فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد النبي -
- حتى توفي.
ولم يكن النبي -
- وهو يأمرهم بما يأمرهم به
إلا ممتثلاً قولاً وعملاً لما يدعو إليه،
وذلك كان له أبلغ الأثر في قلوبهم وسلوكهم؛
ففي رحلة الهجرة قدم له أبو بكر راحلة ليركبها فأبى إلا بالثمن.
ومن هنا فلقد تربى الصحابة على سؤال الخالق وحده وترك سؤال المخلوق،
ولو كان هذا المخلوق هو رسول الله -
-؛
فلم يكونوا يسألونه شيـئاً مـن أمـر الدنيـا،
بل كـانوا يسـألون اللـه - تعالى - ويطلبونه منه قبل كل شيء.
ـ «لما نزلت براءة عائشة قالت لها أمها: قومي إلى رسول الله!
قالت: والله لا أقوم إليه،
ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي».
ـ «ولما نزلت توبة كعب بن مالك جاء إلى رسول الله -
- فقال له:
«أمن عندك أم من عند الله»؟
قال: «لا؛ بل من عند الله».
لم يغضب النبي -
- من هذا السؤال،
ولم يعدَّ موقفه وموقف عائشة -
- من سوء الأدب؛
لأنه هو الذي رباهم على هذه القاعدة التي هي من أصول الدين،
وليس في ذلك سوء أدب، بـل هـو الأدب كلـه مع اللـه تعالـى؛
حيــث لا ينبغي لأحد أن يقدم على حق الله - تعالى -
حق أي من البشر، ولو كان نبياً.
ولقد كان الأصل في كبار الصحابة
أنهم لا يسألون رسول الله -
- شيئاً لأنفسهم،
هذا في أمور دنياهم،
أما في أمور دينهم فقد كانوا ينتظرون ما يأتي به،
ولم يكونوا يتقدمون بين يديه،
وكان من أدبهم أنهم لم يسألوه إلا أربع عشرة مسألة كلها في القرآن
كقوله - تعالى -:
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ...
[البقرة: 215].
نعم! قد كان بعض الصحابة الذين لم يلازموا رسول الله الملازمة الكاملة
المفضلات