
-
سورة التحريم
أحكام القرآن لابن العربي
سُورَة التَّحْرِيمِ
[فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ]
الْآيَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِك وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا {الْمَوْهُوبَةُ الَّتِي جَاءَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنِّي وَهَبْت لَك نَفْسِي. فَلَمْ يَقْبَلْهَا} رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ مَارِيَةَ أُمِّ إبْرَاهِيمَ، خَلَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، وَقَدْ خَرَجَتْ لِزِيَارَةِ أَبِيهَا، فَلَمَّا عَادَتْ وَعَلِمَتْ عَتَبَتْ عَلَيْهِ، فَحَرَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَفْسِهِ إرْضَاءً لِحَفْصَةَ، وَأَمَرَهَا أَلَّا تُخْبِرَ أَحَدًا مِنْ نِسَائِهِ، فَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةَ لِمُصَافَاةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا؛ فَطَلَّقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَفْصَةَ، وَاعْتَزَلَ نِسَاءَهُ شَهْرًا، وَكَانَ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُحَرِّمَهُنَّ شَهْرًا؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَرَاجَعَ حَفْصَةُ، وَاسْتَحَلَّ مَارِيَةَ، وَعَادَ إلَى نِسَائِهِ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَجَمَاعَةٌ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ حَرَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَارِيَةَ بِيَمِينٍ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ: حَرَّمَهَا بِيَمِينٍ. وَقَالَ غَيْرُهُمْ: إنَّهُ حَرَّمَهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَاللَّفْظُ لِلْجُعْفِيِّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَيَمْكُثُ عِنْدَهَا فَتَوَاصَيْت أَنَا وَحَفْصَةُ عَلَى أَيَّتِنَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ لَهُ: أَكَلْت مَغَافِيرَ، إنِّي أَجِدُ مِنْك رِيحَ مَغَافِيرَ. قَالَ: لَا. وَلَكِنِّي شَرِبْت عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ. وَقَدْ حَلَفْت لَا تُخْبِرِي أَحَدًا يَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِهِ}. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ شَرِبَهُ عِنْدَ حَفْصَةَ، وَذَكَرَ نَحْوًا مِنْ الْقِصَّةِ، وَكَذَلِكَ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ. وَالْأَكْثَرُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عِنْدَ زَيْنَبَ، وَأَنَّ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ شَرِبَهُ عِنْدَ سَوْدَةَ. وَرَوَى أَسْبَاطٌ عَنْ السُّدِّيِّ أَنَّهُ شَرِبَهُ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ، وَكُلُّهُ جَهْلٌ وَتَسَوُّرٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
المسألة الثَّانِيَةُ: أَمَّا مَنْ رَوَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمَوْهُوبَةِ فَهُوَ ضَعِيفٌ فِي السَّنَدِ، وَضَعِيفٌ فِي الْمَعْنَى؛ أَمَّا ضَعْفُهُ فِي السَّنَدِ فَلِعَدَمِ عَدَالَةِ رُوَاتِهِ، وَأَمَّا ضَعْفُهُ فِي مَعْنَاهُ فَلِأَنَّ رَدَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمَوْهُوبَةِ لَيْسَ تَحْرِيمًا لَهَا؛ لِأَنَّ مَنْ رَدَّ مَا وُهِبَ لَهُ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا حَقِيقَتُهُ التَّحْرِيمِ بَعْدَ التَّحْلِيلِ. وَأَمَّا مَنْ رَوَى أَنَّهُ حَرَّمَ مَارِيَةَ فَهُوَ أَمْثَلُ فِي السَّنَدِ، وَأَقْرَبُ إلَى الْمَعْنَى؛ لَكِنَّهُ لَمْ يُدَوَّنْ فِي صَحِيحٍ، وَلَا عُدِّلَ نَاقِلُهُ، كَمَا أَنَّهُ رُوِيَ مُرْسَلًا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ؛ قَالَ : {حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّ وَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ؛ وَاَللَّهِ لَا أَتَيْتُك. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِك}}. وَرَوَى مِثْلَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: رَاجَعَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي شَيْءٍ، فَاقْشَعَرَّ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ: مَا كَانَ النِّسَاءُ هَكَذَا. قَالَتْ: بَلَى، وَقَدْ كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرَاجِعْنَهُ. فَاحْتَزَمَ ثَوْبَهُ، فَخَرَجَ إلَى حَفْصَةَ، فَقَالَ لَهَا: أَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّك تَكْرَهُ مَا فَعَلْت. فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَجَرَ نِسَاءَهُ قَالَ: رَغْمَ أَنْفِ حَفْصَةَ. وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْعَسَلِ، وَأَنَّهُ شَرِبَهُ عِنْدَ زَيْنَبَ، وَتَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ فِيهِ، وَجَرَى مَا جَرَى، فَحَلَفَ أَلَّا يَشْرَبَهُ، وَأَسَرَّ ذَلِكَ، وَنَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الْجَمِيعِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {لِمَ تُحَرِّمُ} إنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ وَلَمْ يَحْلِفْ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِيَمِينٍ عِنْدَنَا فِي الْمَعْنَى، وَلَا يُحَرِّمُ شَيْئًا قَوْلُ الرَّجُلِ: هَذَا حَرَامٌ عَلَيَّ، حَاشَا الزَّوْجَةَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا أُطْلِقَ حُمِلَ عَلَى الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ دُونَ الْمَلْبُوسِ، وَكَانَتْ يَمِينًا تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ. [وَقَالَ زُفَرُ: هُوَ يَمِينٌ فِي الْكُلِّ، حَتَّى فِي الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ. وَعَوَّلَ الْمُخَالِفُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ الْعَسَلَ، فَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ]. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فَسَمَّاهُ يَمِينًا؛ وَعَوَّلَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْيَمِينِ التَّحْرِيمُ، فَإِذَا وُجِدَ مَلْفُوظًا بِهِ تَضَمَّنَ مَعْنَاهُ كَالْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}. وَقَوْلُهُ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} فَذَمَّ اللَّهُ الْمُحَرِّمَ لِلْحَلَالِ، وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةً. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَهَذَا يَنْقُضُ مَذْهَبَ الْمُخَالِفِينَ: زُفَرَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَيَنْقُضُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ إخْرَاجُهُ اللِّبَاسَ مِنْهُ، وَلَا جَوَابَ لَهُ عَنْهُ، وَخَفِيَ عَنْ الْقَوْمِ سَبَبُ الْآيَةِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَفَ أَلَّا يَشْرَبَ عَسَلًا. وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ؛ وَقِيلَ لَهُ: لِمَ تُحَرِّمُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ مَعْنَى النَّهْيِ تَحْرِيمُ الْحَلَالِ فَكَانَ كَالْمَالِ فِي الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ؛ بَلْ التَّحْرِيمُ مَعْنًى يُرَكَّبُ عَلَى لَفْظِ الْيَمِينِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ اللَّفْظُ لَمْ يُوجَدْ الْمَعْنَى بِخِلَافِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ لَمْ يُرَكَّبْ عَلَى لَفْظِ الْبَيْعِ، بَلْ هُوَ فِي مَعْنَى لَفْظِهِ، وَقَدْ اسْتَوْعَبْنَا الْقَوْلَ فِي كِتَابِ تَخْلِيصِ التَّلْخِيصِ، وَالْإِنْصَافِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة السيف البتار في المنتدى شبهات حول القران الكريم
مشاركات: 36
آخر مشاركة: 20-06-2010, 12:48 PM
-
بواسطة السيف البتار في المنتدى الرد على الأباطيل
مشاركات: 68
آخر مشاركة: 13-10-2009, 10:43 PM
-
بواسطة أنصار الحق في المنتدى شبهات حول القران الكريم
مشاركات: 5
آخر مشاركة: 25-10-2006, 07:50 PM
-
بواسطة السيف البتار في المنتدى شبهات حول القران الكريم
مشاركات: 9
آخر مشاركة: 19-04-2006, 09:34 PM
-
بواسطة المهتدي بالله في المنتدى فى ظل أية وحديث
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 21-09-2005, 12:45 AM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات