.
وفي ظلِّ رؤية معاصرة للأصول التوراتية يحقُّ للمرء أن يتساءل عن مدى قيمة هذه الشواهد بالنسبة للإيمان المسيحي. ولطالما طرحتُ على نفسي أسئلة من مثل:
- ألا يمكن أن يكون المرء مسيحيًّا دون توراة ؟ بعبارة أخرى، هل الإيمان المسيحي مرتهَن للتوراة؟
- هل تجوز إعادة النظر في خدمة القداديس الإلهية، وبخاصة بالجزء منها الذي يتضمن الشواهد التوراتية، بهدف تطويرها على ضوء المعارف المعاصرة؟
- في حال جواز إعادة النظر في خدمة القداديس الإلهية فمن هو المخوَّل بذلك؟ وما هو السبيل؟
إن الوصول إلى أجوبة شافية على هذه التساؤلات يعيدنا تلقائيًّا إلى الألِف الاصطلاحية للتوحيد، وأعني به التوراة.
كما يُملي علينا العودة إلى المصدر الأهم للعقيدة المسيحية، أي الإنجيل. وأخيرًا، لا بدَّ من النظر في كتابات الآباء التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من العقيدة ومصدرًا رئيسيًّا لها.
يرغمنا هذا السعي إلى تقويم التوراة المتداوَل حاليًّا، من حيث عصمتُه أو قدسيَّتُه .
قبل الدخول في هذا البحث، أودُّ الإشارة إلى أنني استخدمت تعبير "التوراة" للدلالة على كامل ما يُعرَف اصطلاحًا بـ"العهد القديم" أو "العهد العتيق"، علمًا بأن مصطلح التوراة، بالمعنى المقيَّد، ينطبق على ما جاءبالقرآن الكريم .
في هذا الجزء من البحث نتعرف إلى ما هي التوراة، كيف كُتِبَ ومتى، وكيف تم ضبطه؟ وهل كُتِبَ على حرف (نسخة) واحد، أم أن هناك عددًا من الحروف؟ وما مدى مصداقيته التأريخية وقدسية الشخصيات التوراتية؟ ما هي طبيعة شخصية يهوه التي وردت في التوراة، وهل تتفق طبيعة هذه الشخصية مع الرؤية المسيحية؟
يشتمل التوراة على قصة الخليقة، وشريعة موسى، وتاريخ الشعب اليهودي، وملوكه، وما يُدعى بكتب الحكمة والأشعار والنبوءات (كما يعتبره اهل الصليب). وقد بات معروفًا لدى الباحثين التوراتيين أن الشروع في كتابة التوراة قام به، إبان السبي البابلي (587 ق م)، الأحبارُ اليهود، وانتهى بعد العودة، وذلك خوفًا من ضياع التقاليد المعرفية التي كانت متداوَلة فيما بين الشعب اليهودي. وقد كُتِبَ التوراة باللغة العبرية التي لم تكن إلا كنعانية فلسطين مكتوبة بالأبجدية الآرامية الساكنة الخالية من الحركات الصوتية. لذا فقد اعتبره المؤرخ فراس السواح بحقٍّ ظاهرة ثقافية كنعانية. وقد أدى خلوُّ تلك الكتابة من الحركات الصوتية إلى تعدد القراءات وتعدد النصوص واختلافها، الأمر الذي دعا علماء الكتاب المقدس، في نهاية المطاف، إلى اعتماد نصٍّ واحد. وقد تم ذلك في مجمع جمنيا في أواخر القرن الأول الميلادي.[المصدر : راس السواح، الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم، ص 216.] وإذا كان المجمع المذكور قد حلَّ مشكلة اعتماد النص، فهو لم يحل مشكلة تعدد القراءات الناجم عن فقدان الحركات الصوتية. وكان على هذه المشكلة أن تنتظر العلماء "المسوريين" الذين عملوا على شَكْلِ التوراة بين القرنين السادس والتاسع الميلاديين . وقد اعتمد العلماء المسوريون في حلِّ مشكلة تحريك الحروف الساكنة، إضافة إلى معرفتهم اللغوية، على الترجمة اليونانية السبعينية التي تمَّت في القرن الثالث ق م على يد سبعين عالمًا يهوديًّا، بحسب الروايات المتداولة، جَمَعَهم الإمبراطور بطليموس فيلاديلفوس في مصر لهذا الغرض.
ظل العلماء اليهود على اعتماد النص المسوري، بينما اعتمدت الكنائس المسيحية الترجمةَ السبعينية.
وجاءت المفاجأة الكبرى عند اكتشاف مخطوطات البحر الميت عام 1947، حيث تبيَّن أن هذه المخطوطات – وهي أقدم من النسخة المسورية– تتفق مع النسخة المسورية في أجزاء منها ومع الترجمة السبعينية في أجزاء أخرى
، الأمر الذي سحب البساط من تحت أقدام النسخة المسورية التي لم تعد تستطيع ادِّعاء احتكار الحقيقة.[المصدر : Deuel, Leo, Testaments of Times (N.Y.: Alfred Knopf, 1965) p. 398]
لقد ثبت، مثلاً، بعد اكتشاف المخطوطات اليهودية القديمة وإخضاعها للدراسات اللغائية، أن المزامير، مثلاً، ليست من تأليف إنسان واحد، وأعني سيدنا داود عليه السلام .
فضلاً عن ذلك، فإن مكتشفات أوغاريت، وبخاصة الكتاب المقدس الكنعاني، ألقت الضوء على الأصل الكنعاني لبعض المزامير (المزامير 29، 48، 104).[المصدر : Ibid., pp. 244-246.] فقداسة المزامير لا أصل لها إلا في المخيِّلة اليهودية التي تبنَّتْها المسيحية فيما بعد.
ولقد أعلن بعضُ الباحثين، منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر، من أمثال E. Meyer وH. Gunkel، أن المصدر الأساسي للتقاليد التوراتية هو الحكايات الشعبية والملاحم وقصص البطولة التي كانت متداوَلة شفاهًا عند تحرير أسفار التوراة.[المصدر : فراس السواح، آرام دمشق وإسرائيل، ص 10.]
بعد الترجمة السبعينية ، ظهرت ترجمات أخرى إلى اليونانية، لعل أشهرها ترجمة أكويلا في القرن الثاني الميلادي. أكويلا هذا كان وثنيًّا اعتنق المسيحية ؛ ثم تحول إلى اليهودية بعد أن قطعه المسيحيون من الشركة؛ فتعاون مع كاهن يهودي في وضع ترجمة يونانية للتوراة معارضة للترجمة السبعينية، حذف منها كلَّ ما استشهد به المسيحيون لتأييد عقيدتهم.[المصدر : أسد رستم، كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى (المكتبة البولسية، 1988)، الجزء الأول، ص 63.]
ولعل أهم ما يلخِّص تعددية نصوص التوراة هو العمل الذي قام به عالم المسيحية أوريجينس الإسكندري في أوائل القرن الثالث الميلادي، حيث صنف نسخ التوراة المتداوَلة في حينه في كتاب عُرِفَ بالـ"هيكسابلا" Hexapla، وهو مصنف يحتوي على ست نسخ مختلفة من النصِّ التوراتي ذاته، مكتوبة على شكل أعمدة متقابلة.[المصدر : Deuel, Leo, Testaments of Times, p. 370]
نتوقف عند هذا القدر من التفصيل؛ إذ إن الأمر الذي يعنينا بيانُه هو أن ما دُعِيَ بالتوراة أو العهد القديم إنْ هو إلا نص مجهول المصدر، متعدد النسخ، وأن المتداوَل منه حاليًّا لا تشكِّل كلُّ منه إلا نسخة تعجز عن ادِّعاء المصداقية.![]()
ومازال التحريف مستمر
.
يتبع :-
.
المفضلات