(2) قول رسول الله - صلى الله عليه و سلم - أعضوه بهن أبيه و لا تكنوا


قال أُبي : كنا نؤمر : " إذا الرجل تعزى بعزاء الجاهلية ، فأعضوه بهن أبيه، ولا تكنوا " [1]
و عن أبي رضي الله عنه : " أن رجلا اعتزى ، فأعضه أبي بهن أبيه ، فقالوا : ما كنت فحاشا ؟ قال : إنا أمرنا بذلك " [2]

- هل سأل النصرانى المعترض على العبارة الواردة فى الحديث عن معناها و مغزاها أولاً قبل الإعتراض ؟!
الإجابة قطعاً : لا ، فلو سأل لما إعترض من الأساس ، فأنا لا أعتقد أنه يعرف معنى التعزى بعزاء الجاهلية ، و لا يعرف معنى أعضوه بهن أبيه و لا تكنوا .

قال المناوى : " يتعزى أي ينتسب بعزاء الجاهلية ، أي بنسبها والانتماء إليها ، يقال : اعتزى إليه أي انتسب وانتمى وتعزى كذلك ." [3]

أى يستغيث بقومه فى الجاهلية فيقول يالفلان و يالفلان من اسماء قبائلهم ، و قد جاء الإسلام لا يفرق بين البشر بحسب أقوامهم و عروقهم ، فقد جعل الجميع سواسية ، و إنما القبائل و الشعوب لأجل التعارف ليس إلا .

قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [ الحجرات : 13 ]

فالإستغاثة بقبيلته فى الجاهلية أمر مذموم ، كون العصبيات و القبليات دعوة من دعاوى الجاهلية التى من شأنها التفريق بين المسلمين كل حسب قبيلته التى ينتمى إليها و تشتيت شملهم ، و كونه يستغيث بكافر من أهل النار .

قال الطحاوى : " فإنما هو عقوبة لمن كانت منه دعوى الجاهلية ; لأنه يدعو برجل من أهل النار، وهو كما كانوا يقولون: يا لبكر، يا لتميم، يا لهمدان، فمن دعا كذلك من هؤلاء الجاهلية الذين من أهل النار كان مستحقا للعقوبة . وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عقوبته أن يقابل بما في الحديث ، ليكون ذلك استخفافا به وبالذي دعا إليه , ولينتهي الناس عن ذلك في المستأنف، فلا يعودون إليه ." [4]

فكانت هذه العقوبة لمن يأتى هذا الأمر منه كى يرتدع و لا يعود إليه ، فعندما يريد التعزى بقبيلته فى الجاهلية يتذكر أنه إنما خرج من هذا العضو ، فيكف عن التكبر ، و تخمد العصبيات و القبليات بين المسلمين الداعية للفرقة .

قال ابن القيم : " ذكر ( هن ) الأب لمن تعزى بعزاء الجاهلية ، فيقال له : اعضض هن أبيك ، وكان ذكر ( هن ) الأب هاهنا أحسن تذكيرا لهذا المتكبر بدعوى الجاهلية بالعضو الذى خرج منه ، وهو ( هن ) أبيه ، فلا ينبغى له أن يتعدى طوره " [5]

فإن قيل : إن كان كلامكم صحيحاً ، فكان للنبى - صلى الله عليه و سلم - زجر هذا بأسلوب آخر ، لما ورد عنه - صلى الله عليه و سلم - عندما كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري : يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين ، فسمع بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: " ما بال دعوى الجاهلية ؟ "، قالوا: يا رسول الله ، رجل من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " دعوها فإنها منتنة " .

فالرد على هذا ما قاله الطحاوى : " أن ما في الحديث غير مخالف لما في الحديث الأول ; لأن الذي في هذا الحديث إنما هو الدعاء بأهل الهجرة إلى الله، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل النصرة لله عز وجل ولرسوله ، فلم يكن ذلك كالدعاء إلى رجل جاهلي من أهل النار، كافر بالله ورسوله، فجاء فيمن دعا إلى الجاهلي ما في الحديث الأول، ولم يجئ مثله فيمن دعا إلى مهاجر إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم , وإلى ناصر لله عز وجل ولرسوله . فإن قال: ففي هذا الحديث: " ما بال دعوى الجاهلية " . قيل له: لأن قوله: يا للمهاجرين، وقول صاحبه: يا للأنصار شبيه بقول أهل الجاهلية: يا لفلان، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك القول ممن قاله ؛ إذ كان الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم قد أوجبا لأهل الإسلام على أهل الإسلام النصرة لهم، ودفع الأذى والظلم والمكروه عنهم ." [6]

و مما ينبغى التنبيه عليه فى النهاية - و هو ما لا يعلمه النصرانى - أن لفظ ( هن ) هو فى حد ذاته كناية ، فكنى به الرسول - صلى الله عليه و سلم - عن العضو الذكرى ، و عدم التكنية الذى أمر به رسول الله - صلى الله عليه و سلم - هو التصريح باسم العضو و هو الأير ، زجراً لهذا الذى يستغيث بأهل الكفر .

و الدليل على ذلك ما قاله ابن الأثير فى النهاية : " والهن بالتخفيف والتشديد كناية عن الشيء لا تذكره باسمه . ومنه الحديث : " من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا " أي قولوا له عض أير أبيك ومنه حديث أبي ذكر هن مثل الخشبة غير أني لا أكنى يعني أنه أفصح باسمه فيكون قد قال أير مثل الخشبة فلما أراد أن يحكى كنى عنه ." [7]

فالرسول - صلى الله عليه و سلم - لم يصرح بالفظ بل كنى عنه .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]مسند أحمد ط الرسالة (35/159) ، صحيح
[2]مسند أحمد (35/142) ، صحيح
[3]فيض القدير (1/485)
[4]شرح مشكل الآثار (8/234)
[5]زاد المعاد (2/438)
[6]شرح مشكل الآثار(8/237،238)
[7]النهاية فى غريب الأثر (5/277،278)