الدائبون



الكاتب: فضيلة الشيخ/ سلمان بن فهد العودة



السبت 23 ربيع الأول 1432الموافق 26 فبراير 2011


أمس كنت في مؤتمر أحس بالضجيج من حولي ، وجموع الشباب في حركة لا تتوقف ، ما بين جلسة إلى محاضرة ، إلى حوارات جانبية .. في جو كهذا يشعر الإنسان بالفاعلية والعطاء والإيجابية ، وكأننا فعلاً في مهمة بنائية جادة تتشابك فيها الأيدي ، وتذكرت ما كان يردده الصحابة -رضي الله عنهم- وهم يبنون المسجد :

لا يَستَوي مَن يَعمُرُ المَساجِدا
يَدأَبُ فيها راكِعاً وَساجِداً
وَمَنْ يُرَى عَنْ الْغُبَارِ حَائِدًا

الغبار يكون حتى في البناء ، ولابد من الاعتياد عليه وتجاوز الحساسية المفرطة ، وتقبله كجزء من تبعات العمل والحياة والإنجاز .

اليوم انفض السامر وانتهى المؤتمر ، عدت ولا أحد حولي ، أشعر بالانفراد والوحدة ..

تذكرت أن من أسرار النجاح الجوهرية العمل في الظروف المختلفة ، والتكيف مع المتغيرات .

كان يقول: النجاح هو أن تنتقل من فشل إلى فشل آخر , دون أن تفقد حماسك!

كم شدني هذا التعبير بعدما عشت العديد من التجارب!

ثمّ داعية يتقن العمل في الأجواء الجماهيرية ، ويقتبس روحه وحماسه من الآخرين حوله ..

لكي يواصل هذا الداعية نجاحه عليه أن يتدرب على العمل بعيداً عن الأضواء ، يجد الحيوية حين يخاطب الآلاف والملايين ، ويجدها حين يخاطب العشرات أو حتى الآحاد .

العمل كمتحدث ، إلى جوار العمل كقارئ ، أو كاتب ، أو متأمل ، بل والعمل كأب وزوج وصديق ومنحاز للحياة والأمل والرضا واليقين .

ثمّ من يتحمس في المواقف والأزمات فهو فيها مقدم متحرك ، يعلق على المقالات ويتابع الأحداث ويصنع الأدوار ويشعر بغير قليل من الانتعاش ، يجد نفسه حين يوافق هذا ويعارض ذاك ، ويؤيد ويعترض ، ويطالب ويغالب وربما سهر الليل ، وتبعاً لذلك يكون حديثه مع من حوله هو ضمن دائرة الهموم التي انشغل بها فإذا مضى الزمن وهدأت الأزمة اختفى في الزحام ، فلا خبر ولا حديث ولا مشاركة ، وانفرد بهمه وذاته ، وبدأ الفراغ يفعل فعله ، وما أقتل الفراغ !

وتمضي الشهور والسنين وهو ينتظر مناسبة ساخنة كسابقتها لكي يخوض غمراتها ويكشف عن ساعديه ويشمر ..

بعد سنوات تسأل عنه فلا تجد خبراً ولا تحس من أحد ولا تسمع ركزاً ، ربما انحاز لعمل جاد ولو كان بسيطاً ، نجح في دراسته ، تفوق في وظيفته ، ربح في تجارته ، تزوج وأنجب ..

حسناً ، فهو إذاً يعمل الآن في الظروف العادية ، وليس الاستثنائية ، لكن لا نريد أن نفقده حيث كنا نجده .

نريد أن نسأل عن الاسم الذي كان يحشد حوله العديد من المتابعين ، ويؤدي دور القيادة العابرة في الأزمة فنجد أنه أصبح يعمل بصمت ، ويبني ويؤسس ويفكر ويخطط ، وتبعاً لذلك أصبحت استجاباته لردود الأفعال أقل حدة وأقل حضوراً ، أصبح يدرك أن المؤثرين في الحياة هم الصامدون الصبورون العاكفون على الإنجاز ، وليسوا من يتجمهرون عند حوادث السيارات ثم ينفضون دون هدف .

الذين يحصرون أنفسهم في الأزمات يضعون كافة إمكاناتهم تحت تصرفها ، ويريدون أن يكون الناس جميعاً مثلهم ، وقد يظنون أنهم يصنعون مستقبل الأجيال , ويوجهون الأحداث بسبب واحد هو أنهم يصرخون , دون أن يكونوا في قلب الحدث وفي سويدائه , المشكلة أنهم لا يسألون أنفسهم بعد هدوء العواصف عن النتائج ، ولا يراجعون المواقف ، وأصدق وصف لشاب في هذا السياق هو أنه يتعامل بـ " القطاعي " ويكفيه الشعور الداخلي بالرضا والارتياح عما فعل .

أحياناً نقول : علينا الفعل وعلى الله النتائج !

وهي كلمة تحتاج إلى تفكيك ، فالله له كل شيء ، ومنه كل شيء ، ولكنه وضع أسباباً ونواميس وسنناً تحكم هذه الحياة من مثل قوله سبحانه : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ )(النساء: من الآية123) ، وقوله : (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد: من الآية11) ، وقوله : (إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)(يونس: من الآية81) ، وقوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً)(الطلاق: من الآية2) ..

فحين نخفق في تحصيل النتائج فمعناه أن ثمّ خللاً في العمل أو سوء فهم أو عطباً في التفكير .

الإنجاز الذي حققه شخص ما أو شعب ما في الشرق أو الغرب- كما في ثورة تونس ومصر وليبيا-لم يكن مفاجأة ولا صدفة عابرة ، كان ثمرة جهد بشري مدروس ، وكان جزءاً من الرحمة والحكمة الإلهية لبني الإنسان ، أن من عمل عملاً صحيحاً في هذه الدنيا أصلح وأنجح ووصل ، ومن لم يعمل وفق السنة عوقب بالحرمان ولو كان عابداً زاهداً تقياً في سلوكه الشخصي ، فالسنة الإلهية لا تحابي ولا تجامل .

لعل من السنة أن فئاماً عريضاً من الناس هم بطبعهم آنيون لا يفكرون ولا يخططون للمستقبل ، ويتعاملون مع الظرف الآني بكامل العفوية والبساطة ثم ينسون ما عملوا وما قالوا ، وينتقلون إلى غيره ..

ليس مطلوباً أن تتحول الأمة إلى نخبة من العباقرة ، ولا فئة من الحكماء .

ولا يظن بأن أمة أو شعباً سيكون طيعاً في يد النخبة والحكماء لو وجدوا ..

القدر اللازم هو أن يكون صوت البصيرة والتخطيط والهدوء قوياً وفاعلاً وشجاعاً أيضاً ، يتفاعل مع المستجدات والأحداث ، ويصحح ويعدّل ، ولكنه يستعصي على الإذعان والتبعية .. كما قال ربنا سبحانه : (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (الأعراف:181).