الخصائص التوحيدية للتربية النبوية

لم يكن عبثاً أن يستمر القرآن الكريم ، يتنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثلاث عشرة سنة بمكة ، مؤسساً عقيدة التوحيد ، ومديراً حركة الدعوة كلها في هذه المرحلة ، على محورها، وموجهاً تربية الصحابة الكرام على أساسها ، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم ، يعمل على تأسيس الجماعة الإسلامية الأولى، استيعاباً وتربية على العقيدة ( لا إله إلا الله )، بكل دلالاتها التصورية والسلوكية ، ومن هنا كان سعيه عليه الصلاة والسلام إلى ربط المؤمنين بالله، من خلال القرآن الكريم ، منهجاً تربوياً ، لزمه حتى آخر حياته. فالعهد المدني في الحقيقة ، ليس إلا استمراراً للمنهج التوحيدي العقدي ، رغم الطابع التشريعي للسور المدنية00 فرغم استجابة القرآن لحاجيات المجتمع الجديد التشريعية ، فإن العمق التربوي للخطاب القرآني ،لم يتغير من حيث المقاصد ، رغم تغير الوسائل ،كما سنبين بحول الله.

المصدرية القرآنية:

فالرسول صلى الله عليه وسلم ،دأب على ترسيخ الارتباط بالقرآن ، باعتباره ، مصدراً وحيداً للتربية ، ذلك أن المصدرية القرآنية ، باعتبارها أهم ، وأول خصائص التربية التوحيدية ،النبوية ،كانت حاضرة حضوراً قوياً في التوجيه التربوي النبوي ، قولاً وفعلاً .

فقد وضع البخاري ترجمة لباب من أبواب كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، نصها: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء )، ثم قال ابن حجر معلقاً : ( هذه الترجمة ، لفظ حديث ، أخرجه أحمد ، وابن أبي شيبة ، والبزار ، من حديث حابر، أن عمر ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب ، أصابه من بعض أهل الكتاب ،فقرأه عليه، فغضب ،وقال : ( لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء ، فيخبروكم بحق ، فتكذّبوا به ، أو باطل فتصدقوا به ،والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني ).

ومن هنا توثق ارتباط الناس بالقرآن في العهد النبوي ، ارتباطاً عّمق صلة القلوب بربها ، إلى درجة أن الصحابة ، رضوان الله عليهم ، كانوا يتتبعون الوحي ، تتبع المتلهف ، الحريص على الترقي، في مدارج المعرفة بالله، والسلوك إليه سبحانه، ولم يكونوا يلتفتون إلى شيء غير القرآن والسنة، في تزكية نفوسهم، وتدينهم، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، الذي نهاه الرسول صلى الله عليه وسلم ، عن الاستمداد من التوراة ، يحكي لنا قصة ارتباطه بالقرآن والسنة في حديث له ، إذ كان مكلفاً ، وصاحباً له ، بالمرابطة في ثغر من ثغور المدينة ، ترقباً لغزو متوقع ، من ملك غسان قال: ( كان لي جار من الأنصار ، فكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل يوماً ، وأنزل يوماً ، فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك ،وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لتغزونا).

فرغم أن الرجلين قد كلفا بمهمة المرابطة بالثغر، على حدود المدينة المنورة ،فإنهما حريصان على تتبع أخبار القرآن والسنة ،ونيل حظهما منهما، فجيل الصحابة إذن ،كان جيلاً قرآنياً حقاً.

تعميق الاتجاه التوحيدي:

إنها قلوب تعيش في الأرض ،لكنها تتغذى بنور السماء مباشرة ،وكان حضور الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، حضور المربي، الذي يبين ويعمق هذا الاتجاه التوحيدي ،في قلوب الصحابة الكرام ، ولم يكن حضور الذي يعلق الناس بشخصه، وهذه خاصية أخرى، تميز به المنهج التربوي النبوي؛ إذ كان شخص الرسول صلى الله عليه وسلم إزاء القرآن ،الذي هو كلام الملك الواحد الصمد ،مجرد عبد من عباد الله ،لا ميزة له إلا من حيث كونه يوحى إليه ،وكونه أعبدهم له سبحانه ،وأتقاهم له فكان من الناحية التربوية ، قدوة للناس في طريقهم إلى الله ،أعني من الناحية التوحيدية العقدية ،التي هي جوهر التربية النبوية ،وفي ذلك قال الله عز وجل : (قل إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إليَّ أنما إلاهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشركْ بعبادة ربه أحدا ً ).

ولقد كان صلى الله عليه وسلم دائم التنبيه إلى هذا المعنى السامي ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم :( لا تُطْرُوني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله) ، وربما وقع رغم ذلك ، نوع من الانحراف عن هذا المنهج التربوي القويم، نظراً للحب الشديد الذي يكنه الصحابة لشخصه صلى الله عليه وسلم ، فيتم التذكير بهذه الخاصية التربوية المتميزة ، فتعود المياه إلى مجاريها بسرعة ، ولا يقع التمادي في تكريس الوساطة المذمومة!

من ذلك ما صدر من عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال : (والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم 000 وليبعثنه الله ، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ) فقال أبو بكر رضي الله عنه: ( أيها الحالف على رسلك!) فلما تكلم أبو بكر جلس عمر ، فحمد الله، أبو بكر ، وأثنى عليه ، وقال: (ألا من كان يعبد محمداً، فإن محمداً قد مات ،ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت) . وقال : (إنك ميّتُُ وإنهم ميّتُون ) (الزمر:30)، وقال: (وما محمدُُ إلا رسولُُ قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم )(آل عمران : 144). ثم لقد بصَّر أبو بكر الناسَ الهُدى، وعرفهم الحق الذي عليهم ،وخرجوا به يتلون : (وما محمدُُ إلا رسولُُ قد خلت من قبله الرسل 000 الشاكرين )(آل عمران : 144 ).

إن هذه العودة السريعة ، والقوية ، في نفس الوقت، إلى مقتضى القرآن لم تكن لتحصل في هذا الموقف الصعب ، لو لم تكن للقرآن الكريم المصدرية المطلقة في تكوينهم التربوي، ولو كانت شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في حياتهم التربوية ، شخصية وسيط ، لا شخصية مربٍّ 00 وهذا المعنى ، هو الذي رسخ في عقلية الجيل القرآني ،واستمر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ،كما يشهد بذلك حديث أنس ، رضي الله عنه ، قال :

( قال أبو بكر ، رضي الله عنه ،بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه : انطلق بنا إلى أم أيمن ، نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها 00فلما انتهيا إليها، بكت ، فقالا لها : ما يبكيك ؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم فقالت :ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خيرا لرسوله صلى الله عليه وسلم ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء ! فهيجتهما على البكاء ، فجعلا يبكيان معها) .

فالنص دال بوضوح ، على أن ارتباط الصحابة ، إنما كان بالقرآن ،الذي هو ربط مباشر بالله ، ولم يكن بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم ، إلا من حيث هو مبلغ عن الله ، وفي ذلك تأكيد لتوحيدية المنهج النبوي من خلال الخاصيتين المذكورتين : المصدرية القرآنية ،والحضور التربوي للرسول صلى الله عليه وسلم كمربٍّ، لا كوسيط . وما ذلك إلا استجابة لتوجيه القرآن نفسه، حيث قال عز وجل: (ولكن كونوا ربانيَّن بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) (آل عمران:79)، قال الطبري، رحمه الله ، في هذه الآية : ( أخبر تعالى ذكره عنهم ،أنهم أهل إصلاح للناس ، وتربية لهم بتعليمهم إياهم كتاب ربهم ،ودراستهم إياه وتلاوته)00 ومن ثم صح أن نقول : إن القرآن الكريم،كان هو الباب المفتوح والمباشر الذي ولجه الصحابة الكرام إلى ملكوت الله ،حيث صُنعوا على عين الله. إنه السبب الوثيق،الذي تعلقت به قلوبهم ،فأوصلهم إلى مقام التوحيد ، أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : (كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض ).

3- اعتماد منهج التكوين:

هذا ، وأما الخاصية الثالثة للتربية النبوية فهي كما ـ تقرر في عناصر المقارنة بين التوحيد والوساطة ـ اعتماد منهج التكوين ، دون منهج التلقين! وهو أمر واضح في التربية النبوية ، تشهد له الأصول الصحيحة الصريحة، شهادة متواترة المعنى . وذلك أنا قررنا قبلُ ، أن اعتماد النصوص الشرعية في حد ذاته ،ومدارستها ، كمادة تربوية، لا ينتج عنه إلا التكوين.

ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما تبين ، يعتمد شيئاً غير القرآن ، وسنته المطهرة ، باعتبارها تفسيراً له. وكان يوجه الصحابة إلى اكتشاف قدراتهم الذاتية ،ومواهبهم الفطرية ، وتنميتها بالعمل قائلاً: (اعملوا فكلُُ ميسرُُ لما خُلق له )، محارباً بذلك العقلية الاستهلاكية التواكلية ، ويقرُّ المختلفين من أصحابه، على الاجتهاد ، المصيب منهم والمخطئ، على السواء كما هو معلوم في حديث بني قريظة المشهور، مربياً إياهم ومشجعاً لهم على التزام العقلية الاجتهادية المبادرة وكثيرة هي المفاهيم التي أوصلها صلى الله عليه وسلم ، إلى أصحابه عن طريق السؤال أولاً ، حتى إذا سُئلوا ، أَعَمْلُوا فِكْرَهُم ، محاولين التوصل إلى الإجابة،فإما أجابوا ،وإما عجزوا ،ويكونون حينئذ ،قد تلقوا درساً في ضرورة التفكير الشخصي ، والاستقلال العقلي ، في الفهم والاستنباط ، ثم يقرهم على ، جوابهم ، أو يصحح لهم بإجابته صلى الله عليه وسلم . ونماذج هذا الأسلوب كثيرة جداً ، منها قوله صلى الله عليه وسلم : ( أتدرون ما العَضَه؟ نقلُ الحديث من بعض الناس إلى بعض ؛ ليفسدوا بينهم )، وقوله : (أتدرون ما الغيبة؟ )، وقوله أيضاً : (أتدرون مَن المُفلس؟ )، وقوله أيضاً : (أتدرون ما هذان الكتابان ؟)، مشيراً إلى يمينه وشماله ، وقوله كذلك : (هل تدرون ما الكوثر؟ )، وقوله : ( يا أبا ذر ! أترى أن كثرة المال هو الغِنى؟ )، إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية ، المبنية على السؤال والجواب.

ومما يبين تكوينية المنهج النبوي في التربية ، أنه صلى الله عليه وسلم ، كان يراعي الخصائص الذاتية لكل فرد من الصحابة ، ولا يسعى إلى تربيتهم على نمط واحد ، وإنما يكونهم بما يناسب مواهبهم، وشخصياتهم ، على اختلافها، ولذلك كان جوابه يختلف كلما سُئل : (أي الأعمال أفضل؟) مراعياً بذلك حال السائل وطبيعته ، فيجيب مرة بقوله صلى الله عليه وسلم : (أفضل الأعمال ، الإيمان بالله وحده ، ثم الجهاد 000 )إلى آخر الحديث ، ويجيب مرة أخرى بقوله : (أفضل الأعمال ، الصلاة في أول وقتها )، وكذلك : (أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سروراً0 00) الحديث 000إلخ وينظر إلى عبد الله بن عمر ، فيري فيه أهلية لصلاة الليل ، فيقول فيه : (نِعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل ).

ويُسْلِمُ خالد بن الوليد ، وهو قائد عسكري بطبعه، فيزكي فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، هذه الموهبة ، ويوجهها إلى خدمة الحق، ولا يميل به إلى الإكثار من صلاة الليل ، أو رواية الحديث ، ولكن يقول فيه: (نِعمَ عبدُ الله ، خالد بن الوليد : سيف من سيوفُُ الله ). ويقول في أبي عبيدة بن الجراح : (إن لكل أمة أمينا،ً وأن أميننا ـ أيتها الأمة ـ أبو عبيدة بن الجراح ).

ويدعو صلى الله عليه وسلم لابن عباس قائلاً: (اللهم علّمه الحكمة، اللهمّ علمه الكتاب )، وقال صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي بأمتي ، أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله ، عُمر ، وأصدقهم حياءً، عثمان ، وأقرؤهم لكتاب الله أبيّ بن كعب ، وأفرضهم ، زيد بن ثابت ، وأعلمهم بالحلال والحرام، معاذ بن جبل ،ولكل أمة أمين،وأمين هذه الأمة ، أبو عبيدة بن الجراح )، إلى غير ذلك من الأحاديث ، التي تدل على وعي النبي صلى الله عليه وسلم ، بمواهب أصحابه، وخصائصهم الذاتية، وعلى تربيته صلى الله عليه وسلم لهم ، بناءً على ذلك ، مما يؤكد بعده عليه السلام عن التربية النمطية ، ذات النموذج الجاهز، والمتكرر ، عن نسخة واحدة ، هي الوسيط ، لا غير 00 وبذلك يكون الرسول المربي صلى الله عليه وسلم مكوناً، لا ملقناً ، ومربياً، لا وسيطاً.