نسمع الكثير من الأفواه تشدو به وتترنم له ..
ونرى الكثير من الآذان تطرب لسماع اسمه ..
ونشاهد الكثير من الوجنات تحمر دلالا لمرور طيفه ..
والكثير من القلوب تهتز حنينا إليه .. وتتمايل فرحا بزيارته إياها ..
أو تنوء سنينا بحمله .. وتشقى بشوقها لمن أسكنه الحب حجراتها الصغيرة ..
الغارقة في الدماء الممزوجة مزجا به ...

ما هو الحب ؟ ..
هل الحب حب مجنون ليلى لليلاه ؟ ...
مجنون !! .. لم يجن إلا بحبها ..
ولم يفقد عقله إلا هياما بها ..
ولم ينظم قصائده إلا تغزلا بمحاسنها ..
وتطلعا لوصالها .. ولم يوجه وجهه حتى في صلاته إلا لديارها ..
طمعا في أن تذهب رؤيته لها أو لظلها ما به من جنون .. لكنه لم يفز بما يحب ..
فعاش ومات وخلد في التاريخ باسم مجنون ..
هل هذا هو الحب ؟ .. لا .. لا يمكن أن يكون الحب الحقيقي دافعا للجنون ...

ما هو الحب ؟ ..
هل الحب حب الأم لطفلها ..
حبها الذي يدفعها لتحمل ثِقَله تسعة أشهر كاملة ..
وتعاني آلام الوضع حتى تشرف على الموت لتخرجه إلى الحياة ..
وترضعه لبنا سائغا لذة للشاربين عامين متتالين ..
حبها الذي يحملها على تنظيفه من القذارة .. وتطهيره من النجاسة .
حبها الذي يجعلها تحتضنه عميقا إلى صدره ..
تمسح دمعه بأناملها ..
تربت على شعره بحنو ..
حبها الذي يدفعها إلى إطعامه لتجوع .. وكسوته لتعرى ..
وسقياه لتظمأ ..
لا ..
ليس هذا الحب الذي أسأل عنه ..
لأنه حب فطري ..
مفطورة قلوب كل بنات حواء عليه ..

ماهو الحب ؟ ..
هل الحب حب رب الأسرة لأسرته ..
تحمله متاعب الحياة لأجلهم ..
وسعيه الدؤوب لإسعادهم .. وحسن معاملته لهم ..
وصبره على خطأهم وزللهم ... وتقويمه لا نحراف سلوكهم بهدوء وروية ...
لا .. ليس عن هذا الحب أسأل ..
إن هذا الحب يمليه الواجب ..
وتفرضه المعاشرة وطول الصحبة ...


ماهو الحب الحقيقي إذن ؟ .. إ
إنه الحب الذي يتغلغل عميقا في الوجدان ...
ويتسرب في حنايا الروح ..
ويتوزع في أجزاء القلب حتى يملكها كلها ..
ويتوج على القلب ملكا معظما ..
يأتمر القلب بأمره ..
وتنصاع الجوارح مرغمة صاغرة لإرادته ..
وتنقاد الأركان لقيادته ... إنه الحب الذي أجرى ينابيع الكرم على يدي أبي بكر الصديق رضي الله عنه فخرج بماله كله دعما لدين الله ..
تركت لأهلي الله ورسوله ...

إنه الحب الذي شجع خباب على رفض المساومة وهو على خشبة الصلب ..
يرفض أن يصاب سيدنا محمد صلى الله عيه وسلم بشوكة وهو في أهله سليما معافى ...
إنه الحب الذي دفع بعثمان على أن يجهز جيش العسرة كله ..
ماضر عثمان ما فعل بعد اليوم ...

إنه الحب الذي أشعل شجاعة خالد فكسر في يده تسعة أسياف ..
أشبعها وأروى ظمأها من دماء أعداء دينه وملته ... ...
إنه الحب الذي زين لتلك الصغيرة قسم نطاقها إلى نصفين لتحمل في أحدهما زاد رسول الله ...
لقد أبدلها بهما نطاقين في الجنة ...

إنه الحب الذي جرء الفتاة المؤمنة على أمها لتعلنها صريحة في وجهها :
إن كان عمر لا يرانا فرب عمر يرانا ...

إنه الحب الذي أعان ابن حنبل على تحمل السياط والتعذيب والتنكيل والضرب والإهانة ..
من أجل أن يحفظ على الأمة عقيدتها .. القرآن منزل وليس بمخلوق ..
أحيا الله به سننا غرقت وسط أمواج البدع المتلاطمة التي كان لها رحمه الله بالمرصاد ..
تفنيدا ومناقشة وردا ..

وتأليفا لكتب ورسائل كانت بعد منة الله هادية لكثير من المسلمين ...
نعم .. هذا هو الحب الحقيقي .. الحب الذي أسأل عنه منذ زمن ..
حب الله .. حب رسوله .. حب دينه .. حب كتابه .. الحب الذي يدفع صاحبه ..
للعمل .. للبذل .. للعطاء .. للجود .. للإقدام .. للتضحية .. للعمل ساعات وساعات لأجله دون كلل أو ملل أو تقاعس أو تراجع أو ضجر ..
بل إنه ليندم على الثواني القليلة التي ضاعت ولم يسنفدها في خدمته ..


الحب الذي يسترخص في سبيله المؤمن روحه وماله وولده وجاهه وسلطانه ..
لا لشيء إلا لأنه قد باع والله اشترى بعهد موثق ( ومن أوفى بعهده من الله ) ... فلا تحرم نفسك أن تكون من أهله ممن باع واشترى منهم الله ....