فلان التزم (صار مطوع)

في مصر يقولون فلان التزم يعني صار ملتزما بأحكام الإسلام وفي السعودية يقولون صار مطوع فما معنى هذه العبارة ؟ هل تعني أن فلانا قد أرخي لحيته وقصر ثوبه وفقط أم أنها تعني للشخص الملتزم أشياء أكبر من مجرد تغير منظره الخارجي؟ كثير منا رأى أمامه حالة كهذه . . رجل كان يحيا أمامه مثل أي أحد من الناس ( بطريقة عادية ) ثم فجأة بين يوم وليلة يتحول إلي شخصية أخرى تماما ليصبح ( غير عادي ) في نظر كثير من الناس !! هذه ظاهرة جديرة بتأمل كل واحد منا سواء كان ملتزما أم (غير ملتزم) ..
ترى ما الذي يجعل رجلا أو شابا أو طفلا تتحول طريقته في الحياة والتصور والمعاملة مائة وثمانين درجة بين عشية وضحاها؟ ما هذه الشعرة الدقيقة التي نبتت في فؤاده وأحدثت ذلك التغيير المفاجىء ؟؟
لا تظن أني أعني هنا أن فلانا هذا كان لا يصلي نهائيا فأصبح في عداد المصلين فهذا قد دخل الإسلام فلنهنئه! لكني أعني ذلك الشخص الذي كان يصلي الصلوات الخمس مثل بقية المسلمين
كان يحيا مثل بقية الناس ..
يحلم بوظيفة جيدة وراتب مرتفع و زوجة وأولاد و.. وفقط !
كان يعيش لنفسه أو على الأكثر لنفسه وأهله
ثم ...
أصبح يعيش لله ..
كان ينظر للأمور والأحداث بمنظار صنعته له وسائل الإعلام وفصلته الأفلام والمسلسلات تفصيلا دقيقا لتصوغ أفكاره وردود أفعاله حسب ما تريد
فأصبح ينظر للأمور بمنظار القرآن والسنة ويشكل أرائه وتصوراته وفق ما تمليان
كان لا يبالي أن يقلد عمرا أو زيدا من الناس فأصبح قدوته رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أموره
كان إذا عرضت له مسألة يتمنى أن يكون حكم الله وحكم رسوله موافقا لما يهوى فأصبح حكم الله وحكم رسوله هو عين ما يهوى
كانت همومه متشعبة في العمل والأهل والمصيف والمباريات فأصبحت الهموم هما واحدا ..إرضاء الله عز وجل
كانت آماله محدودة لا تتجاوز محيط عمله ومنزله ولا تنفذ في المستقبل لأكثر من عدة عشرات من السنين فأصبحت آماله تتجاوز حدود دولته لتشمل أقطار الكرة الأرضية كلها وتتخطى حاجز الزمان والمكان لتحلق في جنة عرضها السماوات والأرض ..
كان همه ينحصر في محيط أسرته أو على الأكثر جيرانه فأصبح هم كل مسلم على ظهر الأرض هما له
كان إذا سمع عن مآسي المسلمين و جراحاتهم النازفة يتأثر ساعة أو ساعتين ثم ينسى
فأصبح شغله الشاغل وأمنيته أن يجعله الله سببا في نصرتهم
كانت نفسه لا تكاد تحدثه بالتبرع لإخوانه المسلمين في نكباتهم فأصبحت نفسه تحدثه بالجهاد في سبيل الله
كان يجاري الناس في أحاديثهم و رؤاهم للأحداث فأصبح نسيجا وحده
كان لا يبالي بالكلمة تخرج من فمه فتذهب كل مذهب وتهيم في كل واد على ألا تخالف أهواء الناس فأصبح للكلام عنده ألف حساب وصار يزن الكلمة بميزان دقيق قبل أن تخرج من فمه يبغي بها رضا ربه وإن خالفه أهل الأرض جميعا
كان يمشي مع التيار فأصبح هو الذي يقود التيار
يعرف هدفه وغايته واثق الخطى مستنير الطريق لا يأبه بسخرية الجاهلين أو كلام العابثين
يحيا في الناس غريبا أو كعابر سبيل
كانت معلوماته الدينية أكثرها مما يتذكره من مناهج التربية الإسلامية في المدرسة أو مما يتناقله الناس فيما بينهم أو مما يقرؤه على صفحات الجرائد
فأصبح طالبا للعلم الشرعي من العلماء الثقات إما على سبيل نجاة وإما ليكون داعية إلى الله على بصيرة..
يبتغي صفاء العقيدة و الفقه في الدين .. و سلامة المنهج و حسن التصور
كان إذا مر على قوم يعملون السيئات نظر إليهم محتقرا ثم مضى يتمتم في نفسه هل ستغير الكون؟ هذا إن التفت إليهم !!
والآن إذا رآهم أشفق عليهم من عذاب الله .. فنصح ووعظ .. وأمر ونهى .. فهو يعتقد أن هذا هو السبيل لتغيير الكون !
كانت تمر عليه الأوقات والساعات الطوال بدون أن يحقق فيها شيئا يذكر .. فأصبح يندم على كل دقيقة تمر من عمره لا ينتفع بها أو ينفع بها إنسانا في دينه أو دنياه
كان اللهو عنده غاية من الغايات .. فأصبح وسيلة ليجدد نشاطه ويستعيد قوته ويكمل مسيرته
يعطي كل ذي حق حقه و لا ينسى احتياجات الأهل النفسية والعاطفية ..
كان خادما للمال فأصبح هو والمال في خدمة دين الله ..
يحب عمله ويبدع فيه ويرجو أن ينفع المسلمين به
كان يؤدي الصلاة بطريقة روتينية فأصبحت قرة عينه في الصلاة
يذكر الله .. يناجي الله .. يعبد الله كأنه يراه
كان يربي أولاده لكي يكبروا ويحصلوا على وظيفة مرموقة ثم يتزوجوا وينجبوا أطفالا ويكبر الأطفال و.. وفقط
فأصبح يؤمل أن يخرج من أولاده من يجاهد في سبيل الله ومن يجدد للناس أمر دينهم و من ينفع الناس في معاشهم
عزيمة لله صادقة وهمة عالية .. جسد يمشي على الأرض وروح ترفرف في السماء ..
إن هذه اللحظة الفاصلة التي يتحول فيها الإنسان هذا التحول الكبير لجديرة بالتأمل .. هذه اللحظة التي يقذف الله فيها نور الهداية في القلب فيمحو ظلام الغفلة لحظة تساوي عمر الإنسان
قد تأتي هذه اللحظة بسبب وقوع الإنسان على شفا حفرة من الموت بمرض عضال أو حادث فيتذكر حياته السابقة وما عمل فيها فيعض أصابع الندم أو قد تأتي لوفاة أحد الأصدقاء الحميمين أو المعارف الأقربين فيتخيل أنه كان مكان هذا الذي مات أو نتيجة التأثر بمآسي المسلمين وهي كثيرة أو لسماع خطبة مؤثرة أو قراءة كتاب أو التأثر بصديق ملتزم أو بمجرد التأمل !
أناس كثيرون يمرون بتجارب كهذه و تمر عليهم هذه اللحظات .. لكن أولو الألباب –وهم قليل-هم الذين يغتنمونها والأكثرون تضيع منهم هذه اللحظة الذهبية إما بالتسويف وإما لضعف ما في الشخصية وإما لغفلة شديدة وإما إخلادا إلى الأرض واتباعا لشهوات زائلة و" الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة " !
برغم قصر هذه اللحظة إلا أن من يغتنمها يسعد في الدنيا والآخرة والسعيد من وفقه الله

والآن ماذا تنتظر أيها العاقل ؟
أتنتظر أن يُتوفى أحد أصدقائك وأنت تنظر إليه كي تستيقظ ؟ أم تنتظر أن يصيبك الله بشيء في نفسك أو أهلك و مالك بما كسبت يداك فتدعو الله لئن أنجاك منها لتكونن من الشاكرين ؟
فيا عجبا ممن تتسلل الأيام من بين يديه بدون أن يقدم فيها شيئا لله !
ويا لغفلة من يري الناس يتساقطون من حوله واحدا تلو الآخر في هوة القبر ثم لا يعد عملا طيبا خالصا لله ينفعه إذا لحق بهم !
فالبدار البدار و النجاة النجاة وليكن عقلك عقلك .. قم واستفق واطلب العلم ..ادع الناس وأمر بالمعروف وانه عن المنكر وأنفق وتصدق واصبر وصابر وجاهد في الله حق جهاده وأعد أبنائك ليكونوا أئمة في الخير أو في الجهاد واغتنم شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وتذكر أنك عبد لله لا لسواه
وفي الختام .. إن أردت أن تحيا الحياة الطيبة فقد عرفت الطريق وإن أردت أن تحيا إمّعة فاتبع أهواء الناس وما ألفوه ودع نفسك وما تعودت عليه وأطلق لها العنان فهي جنة أو نار فلا تبع نفسك إلا لله واجعل نصب عينك ما يرضاه.

كتبها طارق أبو عبد الله