المبحث الثالث
المرجعية بين الدين والسياسة


إن تطور الحكم في الاسلام غير آليته فيما بعد فمن حيث كان البت في مسائل السياسية والدين شأن الامام صار لكل وجهته إلا أن كلا الحكمين لم يبتعدا عن بعضيهما من حيث صار لكل إمام منهما ضوابطه،وهو ما حدا بالعلماء أن يعرضوا لما يصدر عن النبي (ص) والفصل بين ما هو من الوحي أو ما هو من شؤون الدولة،وهو أمر شاق إن ذلك ربما صار لدى البعض تمرداً على الامام في الحكم مما حدا للنبي(ص) أن يوجه الناس.وقد ورد عنه (ص) الكثير من النصوص الشرعية التي تأمر باحترام المرجعية السياسية ومبايعتها وتنفيذ ما يصدر منها من أوامر كونها معينة بقرار من الدولة أو حاكمها أو بتنصيب مشروع، وسنقف عند جانب من تلك النصوص:

1.عن أنس-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله(ص):((اسمعوا وأطيعوا وأن استعمل عليكم عبد حبشي،كأن رأسه زبيبة))[صحيح البخاري( وانظر رياض الصالحين للنووي)برقم 666] والحديث يأمر المسلمين بالطاعة مهما نزل أمر القائد أو قل مستواه.

2.وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله(ص):((عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثره عليك))[صحيح مسلم برقم1836،وانظر شرح القاضي عياض6/242) وهنا يكرر النبي (ص)الأمر بالسمع والطاعة في كل حال من الرضا والكره واليسر والعسر وإن كان فيه ما يشق على النفس.

3.وجاء عن النبي (ص) قوله: ((العلماء ورثة الأنبياء))[جامع بيان العلم وفضله(1/164)] وقد نقل الحديث وراثته لمن أخذ العلم عن رسول الله (ص) وكونهم ورثة للأنبياء فهل إن وراثتهم للأنبياء بصفته السياسية والشرعية.

4.كما ورد عن النبي (ص) قوله:(( من أطاعني فقد أطاع الله،ومن يعصني فقد عصى الله،ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني))[صحيح مسلم برقم (1835)،وانظر شرح القاضي عياض(6/240)]. ومن مجمل تلك الأحاديث يتبين بأن النبي (ص) أشار إلى طاعة الأمراء من المقسطين إلا أن المتبادر إلى الذهن هو أن تلك الأوامر بخصوص الولاة،ولا يوجد فيها ما يخص العلماء والجواب عليه ربما كان الآمر بتلك الأوامر هو النبي(ص) بصفته الشرعية والعلمية.ومن باب آخر فإن النبي(ص) أرسل الكثير من العلماء وأمر الناس بالسمع لهم فأرسل معاذاً إلى اليمن وأرسل معصب بن عمير في بعثات لتعليم الناس بل وكان النبي(ص) يعقد راية القيادة لمن هوأكثرعلماً،لذلك فبالرغم من أن تلك الأوامر ربما صاغت واختارت عبارة الأمير إلا إنها لم تفصل-والله أعلم-بين إمارة السياسة والشريعة حتى إن بعض الفقهاء اشترط الاجتهاد في الامامة الكبرى وهو تقلد أمور الناس والعباد.

ثم إن النصوص التي مرت وعرضنا لها نماذج من القرآن والسنة ربما يرد عليها القول بأن الأمر بالطاعة إنما هو للشرع في شخص النبي (ص) كونه نبي مرسل وتجب طاعته أو أن ذلك الأمر بالطاعة إنما هو بصفته القيادية أو السياسية والأمر الآخر كون ذلك مخصوص بالنبي (ص) ولا يجوز تعديته إلى غيره ،أم أن ما مر من النصوص الداعية إلى الطاعة شاملة في كل إمام وهو ما يقودنا بالنهاية إلى طرح السؤال الكبير وهو التفرق بين الامامة في الدين والامامة في السياسة وأن مايترتب على ذلك من الطاعة مقصور على الامامة السياسية أم كليهما،وللاجابة على تلك التساؤلات لا بد من الاشارة إلى الأمور الآتية:

أولاً:إن طاعة أولي الأمر والتي أكد عليها الشرع كما في الكتاب والسنة إنما تهدف إلى تحقيق الاستقرار للمجتمع المسلم لذلك فإن كل أمير لا تعد إمارته مشروعة مالم تكن مصبوغة بأمر من الشرع،فإذا كان الأمر كذلك فقد صارت طاعة ذلك الأمير واجبة بسبب أمر الشرع.وحينئذ فإن طاعة أولي الأمر في دولة الأسلام إنما هي طاعة للعلماء الذين رأوا في ذلك العلم أو الحاكم القدرة على إمامتهم، ومتى ما كان الأمر غير ذلك وتبين للناس ظلم الحاكم وجب عليهم الصدع بالأمر إلى علمائهم لاتخاذ الأمر.

ثانياً: لا مانع من أن يجمع الامام بين السلطتين الشرعية والسياسية بل هو الأجدر في تحقيق التوازن،وهو ما كان عليه رسول الله والخلفاء من بعده وهو مايمكن استنباطه من وراثة العلماء للأنبياء لذلك فقد اشترط الكثير من العلماء شرطاً مهماً في الامامة الكبرى وهي السلطة السياسية إذ اشترطوا له أن يكون عالماً حد الاجتهاد ليمكنه ذلك من القدرة على الاستنباط والفصل في المسائل الشرعية، وهو ما كان عليه الخلفاء في العهد الراشدي مما يعني أن المرجعية كانت تحت خيمة واحدة وهي الفصل في مسائل الشرع والسياسة في حقب من الزمن أسقط شرط الاجتهاد فصار الأمر لا يعني بالضرورة أن يكون الحاكم عالماً بأمور الشرع مما تطلب استشارة من العلماء ومواقفتهم للتنصيب وبخلافه لا يتم للأمراء الحكم وهو ما يفسر دأئماً دأب الأمراء والسلاطين القرب من الأئمة،فكان للعالم أحياناً القدرة على عزل بعض الأمراء أو تهديد مناصبهم،لكن ابتعاد أهل العلم من المراجع وإهمالهم لأمور الحكم بسبب الزهد فيها فسح المجال أمام الحكام للاستئثار بالسلطة من غير موافقتهم أو حتى مراعاتهم.

والذي أراه بالنسبة لصياغة المرجعية لعلماء المسلمين أن تكون لهم سلطة معنوية وحقيقية في أتخاذ القرارات المهمة وذلك عبر طرق منها:

تفويض الناس لهم في كونهم السلطة والمرجع أو تأسيس مؤسسة أو مجمع يجتمع فيه أقطاب العلم ويعلن للناس ما يجب عليهم من واجبات تجاه حكوماتهم وأن تكون لهم السلطة المطلقة في تنصيب الحاكم ومساندته إن عدل وعزله إن ظلم.
فالمجتمع المسلم ينقاد للأئمة من علماء الشرع أكثر من أنقياد للأمراء والسلاطين،فلا يجوز إهمال الناس وتركهم عرضة للتخرص والتخبط من غير قيادة يلتفون حولها إذا أصاب الأمة طاريء أونكبت بنكبة، ولعل الأمة اليوم تعاني من تأثيرالمرجعية عليها لأسباب أبرزها:

1.تولي الناس مسؤولية الاجتهاد في الأمور الشرع كل حسب وجهته وذلك لتعميم فكرة أن مرجعيتنا في إصدار الحكم هو الله تعالى ورسوله وهو حق ولكن هل لكل إنسان أن يقرأ القرآن كما يريد هو أو يقرأ السنة كما يشتهي؟ أم أن لذلك أئمة يعلمون أن لكل مقام مقال من تلك النصوص؟ وهو ما ساس به النبي(ص) الأمة وقد بينا جانباً من ذلك في عقبة الفقه الدعوي، ولعل إسقاط شرط الاجتهاد عن الحكام سوغ للناس أن تجتهد كما يحلو لها فكثرت الاجتهادات حتى صار الخلاف على مستوى الأسرة الواحدة.

2.إيقاف فكرة الاجتهاد وتجميدها جعل من الناس لا ينظرون إلى العلماء من موقع التقدير ومن ثم الاقتداء بهم ، مما أزال عنهم بالضرورة مسؤولية القيادة فصار لكل مذهب جماعة تناحر الأخرى من غير تمييز بينما يجوز فيه الخلاف وما لايجوز فيه، فصرنا نسمع عن مجمعات فقهية كالأزهر والمجمع الفقهي ومنظمة المؤتمر الاسلامي تنعقد لمسألة فيتأثر حكمهم في الغالب بسياسة البلد المضيف مما أضفى على الناس الحيرة وزاد من انشقاقهم حول علمائهم.

3.لا بد للمسلمين من التفريق بين عصمة الأنبياء في تبليغ الأحكام الشرعية واحترام العلماء في الاجتهاد ضمن النصوص الشرعية،فكون الأنبياء معصومون فمرجعيتهم لا تقبل الجدل،أما العلماء فكونهم ليسوا معصومين فربما تسلل الخطأ إلى بعض ما يجتهدون فيه، ومع ذلك فهو لا يعني أنه قد خرج منه في اجتهاده ما يضلل به الناس فذلك مستبعد كون المبادئ التي يقوم عليها اجتهاد العلماء مستوحاة من الوحي والتفاعل مع تلك النصوص بالاجتهاد من أجل صياغة بعض الأحكام بالرغم من كونه افراز بشري إلا أنه لا يمكن أن يكون ضلالاً وإن كان خطأ،ولو كان كذلك لما صرح النبي(ص) بأن المخطيء له أجر الاجتهاد من حيث قصده خدمة الدين. لذلك فينبغي على المسلمين من غير المتخصصين في علوم الشرع أن يناوا بأنفسهم عن الفصل أو الحكم على قادة الفكرمن مجتهدي الآمة وعلمائها فصوابهم بأجرين وخطئهم بأجر، ولمن قلده في الصواب والخطأ عذر بل وثوابه ما لم يقصد الاساءة، وحينئذ من أجل تأسيس مرجعية علمية يتبعها الناس لا نحتاج من الحكم بعصمة العلماء بقدر ما نحتاج من الناس توقير العلماء من أهل الفضل وعدم الاساءة إليهم،فإذا كان للعلماء دور في قيادة الأمة فيجب أن تتوفر القاعدة الشعبية المثقفة من الناس الذي يحسن بأولئك العلماء قيادتهم أما أن نجعل من أئمتنا هدفاً نتصيد عثراتهم فإن فاعل ذلك سيتتبع الله عثراته حتى يفضحه، ومن قبل قيل للامام علي رضي الله عنه : لماذا كان الأمن سائداً في عهد الخلافة السابقة وكثر الهرج في خلافتك؟ فأجابه جواب الحكيم العاقل العارف،لأن رعية الخلفاء السا بقين أنا وأمثالي وأما رعيتي اليوم فأنت وأمثالك.


المبحث الرابع
ضوابط التعامل مع المرجعية


إن الاسلام وهو يحث الناس على الاتباع لما يصدر من المراجع العلمية والسياسية إذا تواءمت تحت غطاء الشرع،لا يغفل دورهم في إبطال جنوح تلك المراجع إذا مالت عن الطريق في سياسة الأمور أو تذكيرها بواجبها إذا ضعفت أو تقاعست،لذلك فلا بد من الاشارة هنا إلى الضوابط التي تخط الطريق للقاعدة الشعبية في التعامل مع أهل العلم والسياسة من أولي الأمر والتي يمكن إجمالها في النقاط الآتية:

1-نبذ الظلم والمعاصي وعدم الاستجابة لما يصدر من ولاة الأمر في الميدان السياسي من دعوة إلى السلوك اللاشرعي أو الفساد،إلا أن تلك الدعوة يجب أن تكون صريحة على الملأ،وأن تكون معصية لا خلاف فيها وهو ما شار إليه النبي(ص) بقوله:((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة))[صحيح مسلم برقم (1839)،وانظر شرح القاضي عياض6/244]. وعن أبي عبد الرحمن عن علي:أن الرسول الله (ص) بعث جيشاً وأمر عليهم رجلاًًَََ فأوقد ناراً وقال: ادخلوها فأراد ناس أن يدخلوها وقال الآخرون إنا قد فررنا منها فذكر ذلك لرسول الله (ص) فقال للذين أرادوا أن يدخلوها : (( لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة وقال للآخرين قولاً حسناً وقال: لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف[صحيح مسلم برقم (1840)،وانظر شرح القاضي عياض(6/244)] وأكثر ما يثير الانتباه في الأمر هو تلك الطاعة للأمير والمرجع والتي نفتقدها اليوم إذ إن الصحابة رضوان الله تعالى فهموا أن للأمير أمر ينبغي أن يطاع فيه وإن شق على نفس تنفيذه، ولعل مرد ذلك إلى حسن الثقة بين الحاكم والمحكوم.

2- ينبغي التفريق في تنفيذ الأمور وما يصدر من العلماء والساسة بين ما هو قابل للاجتهاد في كل زمان وبين ما لا يقبل الاجتهاد، فما يقبل الاجتهاد لا يجوز رفضه إذا صدر من الساسة وأن خالف ما نظنه حسناً فكونه مرجوحاً ندك فهو راجح عند غيرك وصار واجباً بعمل الامام ،كما لا يفوتني التذكير بفقه الضرورات التي يلجاء إليها القادة والعلماء والساسة تحقيقاً للمصالح الكلية للشريعة مما يوحي بركونهم إلى الضعف أو الخالفة كونها أمور ميدانية يتخذها العلماء بسبب المعركة الميدانية.وما أحب التأكيد عليه هنا مرة أخرى هو التفريق بين العلماء والساسة الميدانيون ممن هم في سجال مع الخصم ومناورة له من أجل حسم معركة أو تحقيق مكسب سياسي وبين من هو خارج الميدان ممن يحلوله التنظير من بعيد،وآفة الكثير من الشباب أنه بعيد عن المعركة أحياناً ولا يعرف من أبجديات اللعبة السياسية شيئاً ويجهل الكثير من مقاصد الشريعة المبنية على تحقيق المصالح ودفع المفاسد ثم يجلس في بيته مسترخياً فإذا سمع أمراً أو تصريحاً لم يعجبه حمل على من صدر منه ذلك الحكم بالرغم من جهله وعلم المتحدث،إضافة إلى أنه نسي أنه يجلس في بيته والآخرون تطاردهم المنون في كل مكان فرفقاً بأنفسنا وقادتنا وعلمائنا.

3-ربما تطلب الوقت أو الظرف أموراً من الناس تشق عليهم فلا يستطيعون تنفيذها ،وهنا ما يأمر به الشرع هو تنفيذها، وهنا ما يأمر به الشرع هو تنفيذ الأمر على قدر المستطاع.يقول ابن عمر : كنا إذا بايعنا رسول الله (ص) علىالسمع والطاعة يقول لنا (فيما استطعتم)[صحيح مسلم (1867)،وانظر شرح القاضي عياض(6/279).والأمر وهو منوط بالاستطاعة فإنه يسقط عن العاجز عن التطبيق ضرورة التنفيذ وإثم عدم التطبيق إلا أن ما يجدر اللاشارة إليه هو عدم تثبيط الناس ودعوتهم إلى ترك التنفيذ أو محاولة إثارة الناس ضد ما صدر من الحكم فقط لأنه لم يلق في نفسك قبولاً ،وقد أكد النبي –(ص)- على تلك الوجهة بقوله : (( من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر،فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات مات ميتة جاهلية))[صحيح مسلم برقم(849)،وانظر شرح القاضي عياض(6/259)]. ولعل هذه الوصية مما استغله السلاطين في غير موضعها وجهلها الناس إذ لم يعملوا بها فالنبي (ص) في الحديث يرمي إلى التغاضي عما قد يبدر من الأمراء بالصبر على ذلك لأمرين :أحدهما: أن الخطأ والجهل به يرد من الحكام وألامراء إذ لا يمكن في الغالب أن يسلموا منه مهما كان عادلاً.
والثاني: وهو المهم أن الأمة طالما انت تحت إمرة ذلك السلطان وأن مصالح الناس مستقرة ومستتبة فهنا لا يلتفت إلى المظلم الفردية التي ربما ألبت الناس وأثارت الفتن، لذلك فقد سأل رجل النبي (ص) قائلاً: يانبي الله أرايت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعون حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه ثم سأله، فقال رسول الله(ص) : (( اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم))[صحيح مسلم برقم1846،وانظر شرح القاضي عياض 6/254]. ولا يعد الأمر من قبيل السكوت على الظلم بل لأن ذلك كان بسبب سوء فهم الدهماء لسلوك الأمير الذي يتعلق بمعركته في الميدان السياسي بل وأكثر من ذلك فإن النبي(ص) قال: (( خير أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم،وتصلون عليهم ويصلون عليكم،وشرار أئمتكم الذين تبغوضهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم )) قلنا :ألا نناجزهم يا رسول الله؟ قال :لا ما أقاموا الصلاة فيكم، لا ما أقاموا فيكم الصلاة ))[صحيح مسلم برقم 1855،وانظر شرح القاضي عياض6/266].وربما كان ذلك من عدم مناجزة الأمراء خشية اندلاع الفتن وتفرق الدولة الاسلامية وضعفها،لكن الأمر يختلف في حال خرج الأمر عن حدود الطبيعية ودأى ظلم الحاكم إلى تفرق الناس وضياع حقوقهم فقد انتقل الأمر من حيز الفساد الخاص أو الفردي والذي كان مرجوحاً بحكم تحقيق المصلح العامة وتأخير مصلح الأفراد.وهنا لا يجوز السكوت عن ظلمه ومنه يأتي دور القاعدة الشعبية في مؤازرة العلماء وتذكيرهم بما يفعله الأمير وحكم الشرع في ذلك،وقد جهل الناس ذلك الفقه بخصوص التعامل مع الأمراء فتجدهم إما مفرط في السكوت إلى حد استباحة الأمير لكل الحقوق،وأما متذمر من كل شيء فما يكاد أن يرى للأمير سقطة حتى يجاهر بها ظناً منه أن ذلك من قبيل المعروف الذي يجب إعلانه أو المكر الذي يجب إزالته والأم ليس كذلك إذ الأمر يتعلق في مصلحة وحدة الأمة فطالما كانت موحدة فلا يجوز تفريقها.

4-مبايعة المراجع من الأئمة والعلماء فذلك أدعى في الطاعة وأقوم للاستجابة لذلك فقد حث النبي(ص) على المبايعة في أحاديث كثيرة فقال: (( من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية))[صحيح مسلم برقم 1851،وانظر شرح القاضي عياض 6/260].وفي إطار تلك البيعة أمر رسول الله(ص) القيام بما تعنيه البيعة من معنى فقال (ص) : ((من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له ))[صحيح مسلم برقم 1851،وانظرشرح القاضي عياض6/260] وما نلمحه من ذلك التوجيه النبوي بذلك الخصوص الحث على المسؤولية الشعبية تجاه المراجع من الأئمة والعلماء ،فالحديث أكد على أمور ،الأول : توجيه بالانضمام إلى التنظيم المبرمج والموحد عن طريق مبايعة الأئمة من أجل المحافظة على وحدة التوجيه في السلوك والتلقي ، والثاني:وجوب مبايعة الامام،والثالث:طاعته ما أطاع الله تعالى وحينئذ فما ينبغي على المسلم هو نفي المزاجية في التنفيذ فمن عاهد على الطاعة وجب عليه تحمل العهد وهو ما أشار إليه النبي (ص) بوجوب الطاعة في السراء والضراء.

وفي النهاية لا بد من القول بأن العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة أولاها القرآن اهتماماً مهماً إذ وجه القرآن النداء إلى الطرفين فأمر الناس بالطاعة لأولي الأمر فقال جل وعلا:{ يَِأيُها اُلَذِينَ ءَامَنوُا أطيعوُا اُللهَ وأَطيعِوا اَلرسُولَ وَأوِلى الأمرِ مِنكُم فَإِن تَنزَعَتُم فيِ شَىء فَرُدّوُه إلَى اللَهِ وَالرَّسُوِل إن كُنتُم تُؤِمنُونَ باِللَهِ واليوم الأَِخِر ذَلِكَ خَُيُر وَأحَسُن تَأوِيلا59}[النساء:59] فأمر المسلمين بالتحاكم إلى شرع الله ورد إلى أولياء من القادة في الميدانين الشرعي والسياسي ثم عاود القرآن ذلك التأكيد وأمر المسلمين برد التخاصم إلى المرجعية النبوية آنذاك وهو النبي (ص) أولى أولي الأمر من قادة المسلمين فقال تعالى : { وَإِذَا جَاءَهُم أمُُرُ مِنَ الأَمِن أوِ الخَوِف أذاَعوُا بِهِ وَلَو رَدُّوُه إِلىَ اُلرَّسُولِ وَإِلَى أُولىِ اُلأمِر مِنهُم لَعِلَمهُ اُلذَِينَ يَستَنبُِطونَهُ مِنُهم وَلَولاَ فَضلُ اُللَهِ عَليِكُم وَرَحَمتُهُ لاَ تبَعُتمُ اُلشَيَطانَ إِلا قَِلَيلا83}[النساء:83] وفي الطرف الثاني وجه الأمر إلى ولاة الأمر من المسلمين فقال تعالى : { إنَّ الَلَهَ يَأمُرُكُم أَن تُؤدَوُا اُلأَمَنَتِ إلَى أهَلِهَا وَإذَا حَكمَتُم بَينَ الناَِس أَن تَحكُمُوا باِلعدَل إنَّ الّلَهَ نِعِمَّا يعَُِظكُم بهِ إنَّ اللَهَ كَانَ سِمَيعَا بَصيِراً58}[النساء:58] فأمر بالعدل في محاكمة الناس وسياستهم ، ومن حيث بدأنا فإننا نعاود التأكيد بأن القرآن أمر بطاعة ولي الأمر من المسلمين حكاماً كانوا أو علماء الشريعة وهو ما أهمله المسلمون ويجب صياغته من جديد حتى تصير طاعة الحكام منوطة بأمر العلماء فإن وافقوا وجبت طاعتهم وأن أبوا فذاك يعني أنهم خلعوا سلطة ذلك الحاكم وهو ما يجب على الناس من طاعة أهل العلم من غير جدل أو مماراة- والله أعلم-. وقد حكى لن التاريخ مسألة التناغم بين القيادة السياسية والدينية من حيث كان للحاكم سلطة الأمر فيما يفصل به بين الناس من أمور الحكم والدولة وبين عالم الدين الذي إذا أمر بما يقتضي الشرع أجابه الناس فلقد ساء الناس يوماً ارتفاع أسعار العسل فشكوا الأمر إلى حسن البصري الذي أفتاهم بالامتناع عنه، فلما سمع الناس ذلك امتنعوا وتجابوا مع الأمر حتى كسد العسل وبيع مجاناً، وكان أيضاً للعز بن عبد السلام موقفه المشهور من الحكم المماليك إذ رأى من جهة شرعية أنهم لا يصلحون للحكم من حيث لا تتوفر فيهم شرط الحرية فلما امتنعوا وهم العز بن عبدالسلام بترك مصر أشار الناس على ملوكهم بأن خروج العز من مصر سوف يجعلها دولة بلا رعية أذ أن الناس سيتبعون العز بمقاله أو ترحاله فوافق المماليك على ما أراده العز بن عبد السلام فعقد لهم مزاداً وباع الملوك وأودع أموالهم في بيت مال المسلمين.وهو ما نؤكد عليه ضررة التزاوج بين طاعة الناس للعلماء ومراقبة مراجع الدين للسلاطين.