هذا نوع من أنواع كيد اليهود مع المسلمين، وذلك لأنه روي أن فنحاص بن عازوراء، وزيد بن قيس ونفراً من اليهود
قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد: ألم تروا ما أصابكم، ولو كنتم على الحق ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلاً
فقال عمار: كيف نقض العهد فيكم؟
قالوا: شديد
قال: فإني قد عاهدت أني لا أكفر بمحمد ما عشت
فقالت اليهود: أما هذا فقد صبأ
وقال حذيفة: وأما أنا فقد رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخواناً، ثم أتيا
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه
فقال: أصبتما خيراً وأفلحتما، فنزلت هذه الآية

قوله تعالى: {
وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتـٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـنِكُمْ كُفَّارًا }
فالمراد أنهم كانوا ومازالوا يريدون رجوع المؤمنين عن الإيمان من بعد ما تبين لهم أن الإيمان صواب وحق، والعالم بأن غيره على حق لا يجوز أن يريد رده عنه إلا
بشبهة يلقيها إليه، لأن المحق لا يعدل عن الحق إلا بشبهة والشبهة ضربان :
أحدهما: ما يتصل بالدنيا وهو أن يقال لهم: قد علمتم ما نزل بكم من إخراجكم من دياركم وضيق الأمر عليكم واستمرار المخافة بكم، فاتركوا الإيمان الذي ساقكم إلى هذه الأشياء
والثاني: في باب الدين: بطرح الشبه في المعجزات أو تحريف ما في التوراة.
أما قوله تعالى: {
حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى بين أن حبهم لأن يرجعوا عن الإيمان إنما كان لأجل الحسد.
قال الجبائي: عنى بقوله: {
كَفَّاراً حَسَداً مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } أنهم لم يؤتوا ذلك من قبله تعالى وإن كفرهم هو فعلهم لا من خلق الله فيهم، والجواب أن قوله: {
مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما: أنه متعلق بـ «
ود» على معنى أنهم أحبوا أن ترتدوا عن دينكم ، وتمنيهم ذلك من قبل شهوتهم لا من قبل التدين والميل مع الحق لأنهم ودّوا ذلك من بعد ما تبين لهم أنكم على الحق فكيف يكون تمنيهم من قبل طلب الحق؟
الثاني: أنه متعلق بحسداً أي حسداً عظيماً منبعثاً من عند أنفسهم.
أما قوله تعالى: { فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ } فهذا يدل على أن اليهود بعدما أرادوا صرف المؤمنين عن الإيمان احتالوا في ذلك بإلقاء الشبه على ما بيناه،
ولا يجوز أن يأمرهم تعالى بالعفو والصفح على وجه الرضا بما فعلوا، لأن ذلك كفر ، فوجب حمله على أحد أمرين :
القول الأول: أن المراد ترك المقابلة والإعراض عن الجواب، لأن ذلك أقرب إلى تسكين الثائرة في الوقت، فكأنه تعالى أمر الرسول بالعفو والصفح عن اليهود فكذا أمره بالعفو والصفح عن مشركي العرب بقوله تعالى:
{
قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ }
[الجاثية: 14]
وقوله:
{
وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جميلاً }
[المزمل: 10]
ولذلك لم يأمر بذلك على الدوام بل علقه بغاية فقال: {
حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } وذكروا فيه وجوهاً
أحدها: أنه المجازاة يوم القيامة عن الحسن
وثانيها: أنه قوة الرسول وكثرة أمته.
وثالثها: وهو قول أكثر الصحابة والتابعين، إنه الأمر بالقتال لأن عنده يتعين أحد أمرين: إما الإسلام، وإما الخضوع لدفع الجزية وتحمل الذل والصغار، فلهذا قال العلماء : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:
{
قَـتِلُواْ الَذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِاليَوْمِ الأخِرِ }
[التوبة: 29]
وعن الباقر رضي الله عنه أنه لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال حتى نزل جبريل عليه السلام بقوله:
{
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ }
[الحج: 39]
وقلده سيفاً فكان أول قتال قاتل أصحاب عبد الله بن جحش ببطن نخل وبعده غزوة بدر ، وههنا سؤالان:
1)
السؤال الأول: كيف يكون منسوخاً وهو معلق بغاية كقوله:
{
ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ }
[البقرة: 187]
وإن لم يكن ورود الليل ناسخاً فكذا ههنا
الجواب: أن الغاية التي يعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعاً لم يخرج ذلك الوارد شرعاً عن أن يكون ناسخاً ويحل محل قوله: { فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ } إلى أن أنسخه عنكم.
2)
السؤال الثاني: كيف يعفون ويصفحون والكفار كانوا أصحاب الشوكة والقوة والصفح لا يكون إلا عن قدرة؟
والجواب: أن الرجل من المسلمين كان ينال بالأذى فيقدر في تلك الحالة قبل اجتماع الأعداء أن يدفع عدوه عن نفسه وأن يستعين بأصحابه، فأمر الله تعالى عند ذلك بالعفو والصفح كي لا يهيجوا شراً وقتالاً.
القول الثاني : في التفسير قوله: {
فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ } حسن الاستدعاء، واستعمل ما يلزم فيه من النصح والإشفاق والتشدد فيه، وعلى هذا التفسير لا يجوز نسخه وإنما يجوز نسخه على التفسير الأول.
أما قوله تعالى: {
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } فهو تحذير لهم بالوعيد سواء حمل على الأمر بالقتال أو غيره
لنصل في النهاية أنه مازال اهل الكتاب يسعون لرد المسلمين عن دينهم إلى الآن ، أليست الآية كانت تحتاج إلى وحي لأنها كشفت ما في قلوب أهل الكتاب ضد المسلمين إلى الآن ، ويتضح ذلك من طرح اهل الكتاب شبهة مثل هذه بجهالة .
المفضلات