(10) .. قليل من العرفان الغنوصي !
تختلف المسيحية الغنوصية عن المسيحية المعروفة لدينا حالياً إختلافاً شاسعاً رغم إتفاقهما حول كثير من الشخصيات والأحداث والأفكار، ويبدو للقارئ في تراث هذه الكنائس الغنوصية أن معتقداتها أقرب لأن تكون مزيجاً غريباً في بعض الأحيان ورائعاً في أحيان أخرى من العقائد والأديان المختلفة التي كانت سائدة ومنتشرة في الإمبراطورية الرومانية في الفترة من 300 سنة ق.م وحتى القرن الرابع بعد الميلاد.
فالمسيحية الغنوصية تتفق مع الأديان التوحيدية في وجود إله مطلق "يلدابوث" Yaldaboath، ولكنها لا تخلو من كيانات إلهية متعددة، بعضها يتصارع مع البعض الآخر، بل وبعضها مريض نفسياً، وهذه الأفكار تبدو مقتبسة من العقائد الإغريقية.
الإله المطلق في الغنوصية يختلف كثيراً عن الإله المطلق في الذي نعرفه في الإسلام والمسيحية واليهودية، فهو لا يكترث كثيراً أو قليلاً بالإنسان وشئونه، وقد قام هذا الإله المطلق "يلدابوث" الذي يلقب أحياناً بالإله الحق بخلق مجموعة من الكيانات الإلهية الأخرى تعرف باسم "آيونات" Aeons.
احدى هذه الآيونات هي صوفيا Sophia العذراء، وهي ترمز إلى الحكمة وإلى السماوات أيضاً، وصوفيا من أهم شخصيات المذاهب الغنوصية بصفة عامة، التي أنجبت بدورها إلها مشوهاً أقل شأناً يعرف باسم ديميرج Demiurge و هي كلمة يونانية تعني "الصانع الماهر" Public craftsman ، وهذا الديميرج هو خالق أو صانع هذا العالم الذي نعيش فيه، وهو إله العهد القديم، وينظر إليه العرفانيون الغنوصيون على أنه شرير ، ممتلئ بالحسد والبغض والكراهية والقسوة.
وقد وضع ديميرج الإنسان في هذا السجن الرهيب المسمى بالعالم، رغبة منه في إظهار تفوقه على بقية الآيونات الإلهية حيث أنه يظن أن الأقوى والأقدر والأعظم، وقضبان هذا السجن هي عبارة عن القوانين الفيزيقية و القوانين الأخلاقية التي يطلق عليها الغنوصيون الكود الموسوي (الوصايا العشر).
وجدير بالذكر أن كل عمليات الخلق أو الميلاد (كمولد ديميرج من صوفيا) التي تمت في عالم الآيونات، يتم تصويرها كإنقسمات كونية، كظهور النور ثم الظلال نتيجة لوجود جسم ما .. وهو موضوع يطول شرحه، ربما نعود إليه في موضوع آخر حول الغنوصية.
الآيونات الإلهية في المذاهب الغنوصية لا تقتصر على صوفيا وديميرج، فالمسيح Christ هو أحد الآيونات الإلهية، ويرى بعض الباحثون أن المسيح هو الصورة الذكورية من صوفيا الأنثى، أو أنهما توأمين، وهو أمر جدير بالإهتمام والدراسة، حيث أن الغنوصية تعلي من شأن المرأة بصورة غير مسبوقة في العقائد الإبراهيمية، كما توجد آيونات إلهية أخرى بعضها لم يهتم بعالمنا إطلاقاً كما يفعل يلدابوث، وحتى الآن لم أقف على عدد الكيانات الإلهية "الآيونات" عند الغنوصيين.
يفرق الغنوصيون بين المسيح وبين يسوع، فيسوع هو شخص عادي جداً، أما المسيح فهو آيون إلهي، والحقيقة أنه يبدو للباحث أن طبيعة المسيح ويسوع كانت محل جدل طويل بين الغنوصيين أنفسهم، ولا نعرف على وجه التحديد هل حسموا أمورهم فعلاً بشأن يسوع والمسيح أم لا.
إلا أنه من الواضح أن يسوع لم يكن يلعب دور المخلص Savior كما تصوره العقائد المسيحية الشائعة، ولكنه كان كاشفاً أو موضحاً لأن طريق الخلاص يكمن في المعرفة (الغنوصية تعني العرفان أو المعرفة) وفي معرفة الذات على وجه التحديد، وسبب تأخر وصول المسيح إلى الأرض هو أن صوفيا كانت منفية بصورة أو بأخرى في بعد كوني مختلف ولم تتخلص من منفاها إلا في هذه الفترة .. وهذه أيضاً قصة أخرى يطول شرحها.
قصة خلق آدم يبدو أنها تحمل أبعاداً رمزية واضحة، فأدم عندهم يبدو وكأنه كناية للجنس البشري وليس شخصاً محدداً ، والحية التي حثت آدم وحواء على الأكل من شجرة المعرفة يعتبرها الغنوصيون رمزاً للخير وأنها بحثها الإنسان على الأكل من شجرة المعرفة، لم تكن تفعل أكثر مما جاء المسيح ليفعله ، لتحرير الإنسان من أسر العالم المادي الذي وضعه الإله ديميرج.
ويبدو أن الحية قد تكون هي صوفيا أو المسيح وربما تكون أحد الآيونات الإلهية الأخرى.
ويرى بعض الباحثون أن بعض الجماعات الغنوصية كانت تعتبر المسيح هو "فيض إلهي" أرسله يلدابوث لتخليص العالم من ظلم ديميرج ، والذين يرون ذلك يحتجون بأن المسيح يجب أن يكون صادراً عن قوة أكبر من قوة ديميرج.
وهنا يجب أن أشير إلى أن الجماعات الغنوصية التي إنتشرت في أرجاء الإمبراطورية الرومانية حتى تم القضاء عليها تماماً في القرن الخامس، كانت متعددة ومختلفة في الكثير من العقائد، إلا أنها كانت تتميز بالتسامح فيما بينها وبين العقائد الأخرى وتميزت هذه الجماعات أيضاً بالمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، فكثير من تلاميذ المسيح المقربين كانوا نساءً، ومنهم مريم المجدلية التي كان يسوع المسيح يقبلها في فمها كثيراً أمام بقية التلاميذ الذين شعروا بالغيرة منها كما جاء في إنجيل فيليب من مكتبة نجع حمادي، وقد أخبرهم يسوع المسيح بأن مريم المجدلية هي أحبهم إلى قلبه.
بطبيعة الحال .. لا يمكن شرح الغنوصية المسيحية في هذه العجالة .. ولعل هذا السبب تحديداً هو الذي جعلني أبتعد عن هذا الموضوع طوال هذه الفترة، فقد كنت أبحث عن أفضل وسيلة لتقديم نبذة سريعة وافية وغير مجحفة للغنوصية ، وهو ما لا أظن أنني فعلته.
إلا أنه يكفيني حالياً أن أشير إلى أن الغنوصية المسيحية قد حملت في عقائدها خليطاً فريداً من العقائد اليهودية والرومانية والإغريقية والفارسية والمصرية .. وعقائد أخرى متعددة .. فكيف تحقق ذلك الخلط الفريد وأين؟!
المفضلات