السؤال الأول :
الأطروحة الثالثة: تكلم القرآن عن الله بصيغة وضمير الجمع " وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا " البقرة 23 ... مما يدل على وحدة الجوهر مع تعدد الأقانيم في الذات العلية ... وقد اتفق القرآن مع الكتاب المقدس في ذلك ... كما تكلم عنه أيضاً بصيغة المفرد للإشارة الى توحيد الذات " إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ " الأعراف 196
" نحن فاروق الأول ملك مصروالسودان ... قررنا النزول عن العرش لولي عهدنا الأمير أحمد فؤاد " أمر ملكي رقم 65 لسنة 1952 ... لقد تكلم فاروق هنا بصيغة وضمير الجمع ... فهل كان فاروق آنذاك انسان متعدد الأقانيم ؟؟؟ الإجابة بالقطع لا ... إذن فما الذي دعاه الى قول نحن فاروق الأول ولم يقل أنا فاروق الأول ؟؟؟ الإجابة لأن استخدام صيغة وضمير الجمع مكان ضمير المفرد يكون للدلالة على التعظيم والإجلال ... وهو أمر يتوافق مع فنون اللغة العربية (مع تحفظنا أن يعظم أي بشر نفسه) ... هذا ولا ندرى إذا كان الناقد يعلم ذلك أم لا يعلم !!!
وكذلك الحال فإن النون في " نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا "لا تُسَمّى نونَ الجمع ... وإِنما تُسمى في اللغة العربية " نونَ العَظَمَة " ... فاللهُ المتكلمُ واحدٌ أَحَدٌ ... فَرْدٌ صَمَد غير متجزئ ... وعندما يتكلمُ بضميرِ " نحنُ " (المنفصلِ أَو المتصلِ أَو المستتر) فهذا من باب التعظيم المُستحق لكمال وعظمة وجلال الله سبحانه وتعالى ... ولذلك فالأمر لا علاقة له بتَعَدُّدُ أَقانيم أَو شخصياتٍ أَو جواهر أَو إِرادات ... إِنما الله إِلهٌ واحدٌ أحد سبحانه وتعالى عما يصفون ...
لقد عظم الطاغية فرعون نفسه عندما تكلم بضمير الجمع ليرد على من حرضوه على محاربة موسى والقضاء عليه وعلى اتباعه" وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ ... قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ " الأعراف 127 ... لقد اورد فرعون في كلامِه أَربعَ كلماتٍ بصيغةِ الجمع ليدل على عظمته " سَنُقَتِّلُ "، و " نَسْتَحْيي "، و " إِنّا "، و " قاهرون " ... وفرعون بالطبع كان شخصاً واحداً غير متجزئ وغير متعدد الأقانيم.
إن من إعجازات الصياغة في القرآن الكريم أننا إذا تأملنا الآيات الواردة في الحديث عن الله وجدنا لها صيغتين ... (صيغة المفرد وصيغة الجمع) وذلك حسبما يقتضي ويناسب السياق ذلك:
الصيغة الأولى: صيغة المفرد
وتأتي في مقام الأمر بالعبودية؛ لتأكيد الوحدانية ونفي الشرك: (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)، (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)، (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) لأنها في مساقٍ لا يحتمل اللبس، ولم يرد أبدًا: فاعبدونا، أو: اتقونا، أو: أطيعونا ... وأيضاً تأتى هذه الصيغة في مقام الدعاء والتضرع إذا حكاه الله عن عباده: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً)، (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ)، (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا ...) ... وأيضاً تستخدم في مقام التوبة: (أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ... وتستخدم أيضاً في مقام التوحُّد والتفرُّد كما في الآية التي استدل بها الناقد " إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ " الأعراف 196... ومثلها أيضاً في قوله تعالى: " يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ " غافر 16 ... مع أن الملك له قبل ذلك اليوم وبعده، فالدلالة على توحد الله وانفراده بالمجازاة في ذلك اليوم ... تكون أظهر مع استخدام ضمير المفرد ...
الصيغة الثانية: صيغة التعظيم (الجمع)
وتأتي في مقام تعظيم الله (المُسْتَحِقُ للعظمة) لنفسه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ... وفي مقام الإلماح إلى جنوده وملائكته الذين يعملون بأمره ما يشاء (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) ... وهي إشارة إلى الملائكة الكرام الكاتبين ... وفى مقام الامتنان بالعطاء والفضل كقوله: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)، ولكنه عقَّب في الموضع ذاته بقوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)، ولم يقل: (صلِّ لنا) ... ومثله قوله: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ... فالصلاة والعبادة والنحر له وحده سبحانه ولذلك كان الأنسب استخدام صيغة المفرد.
وكذلك الحال استخدمت صيغة التعظيم في قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا)، ثم أعقبها بقوله: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) ... أي بضمير المفرد الذي يناسب السياق ... وجمع الضميرين معًا في سياق واحد يزيل كل التباس أو توهُّم.
وفي مقام إهلاك الكافرين يُذكر بضمير العظمة ... وكأن المراد أنهم بكثرتهم وجمعهم لا يعجزونه سبحانه، فهو الواحد العظيم القدير ... وأمثلته كثيرة، منها: سورة القمر: (فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا) ... ومجيء الضميرين (المفرد والعظمة) معًا هو الغالب؛ ولهذا قال هنا بضمير المفرد: (فَدَعَا رَبَّهُ) ... فالمقام مقام توحيد وافراد الدعاء لله وحده لذلك ناسبه استخدام ضمير المفرد ...
ولا تكاد تجد موضعًا سيق فيه ضمير العظمة، إلا وقبله أو بعده ضمير الإفراد، أو الاسم الظاهر «الله» ... وهذه حكمة ربانية لنفي كل شبهة تعلق بنفس، أو يلقيها شيطان ... أو يوسوس بها مغرض ...
مما تقدم فالقارئ الذكي أدرك بالطبع أن تنوع أسلوب الضمير المستخدم (مفرد أو جمع) جاء ليتوافق مع السياق والمقام الذي تتحدث عنه الآيات ... ولذلك فالقرآن لا يتفق بتاتاً مع الكتاب المقدس في موضوع تثليث الله سبحانه وتعالى (كما حاول الناقد أن يوهم القارئ السطحي بذلك) ... بل بالعكس وكما أوضحنا ... فإن القرآن الكريم ينفى تماماً موضوع تثليث الله سبحانه وتعالى ... ولكن مازال الناقد يحاول التعلق بنص قرآني لمحاولة تعزيز موقف عقيدته التي تثلث الله ... ولو كان موقف عقيدته بمفردها في تثليث الله قوياً ... لما احتاج للتعلق بنص قرآني ...
واللــــــه أعلم وأعظـــــــم
يتــــــــــــبع بإذن الله وفضله
المفضلات