الدليل الثاني لابن شبرمة على منع تزويج الصغيرة:
فَلَوْ جَازَ التَّزْوِيجُ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا فَائِدَةٌ، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ عَلَى الصَّغِيرَةِ لِحَاجَةِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ حَتَّى إنَّ فِيمَا لَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ الْحَاجَةُ لَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ كَالتَّبَرُّعَاتِ، وَلَا حَاجَةَ بِهِمَا إلَى النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ النِّكَاحِ طَبْعًا هُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ وَشَرْعًا النَّسْلُ وَالصِّغَرُ يُنَافِيهِمَا، ثُمَّ هَذَا الْعَقْدُ يُعْقَدُ لِلْعُمُرِ وَتَلْزَمُهُمَا أَحْكَامُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يُلْزِمَهُمَا ذَلِكَ إذْ لَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ.

رد الامام السرخسي:
وَحُجَّتُنَا قَوْله تَعَالَى {وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى عِدَّةَ الصَّغِيرَةِ، وَسَبَبُ الْعِدَّةِ شَرْعًا هُوَ النِّكَاحُ، وَذَلِكَ دَلِيلُ تَصَوُّرِ نِكَاحِ الصَّغِيرَةِ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] الِاحْتِلَامُ، ثُمَّ حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - نَصٌّ فِيهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْآثَارِ فَإِنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ تَزَوَّجَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ وُلِدَتْ، وَقَالَ: إنْ مِتُّ فَهِيَ خَيْرُ وَرَثَتِي، وَإِنْ عِشْتَ فَهِيَ بِنْتُ الزُّبَيْرِ، وَزَوَّجَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِنْتًا لَهُ صَغِيرَةً مِنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَزَوَّجَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِنْتَ أَخِيهِ ابْنَ أُخْتِهِ وَهُمَا صَغِيرَانِ وَوَهَبَ رَجُلٌ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ فَأَجَازَ ذَلِكَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَزَوَّجَتْ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِنْتًا لَهَا صَغِيرَةً ابْنًا لِلْمُسَيِّبِ بْنِ نُخْبَةَ فَأَجَازَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَكِنْ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ أَصَمَّ لَمْ يَسْمَعْ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النِّكَاحَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَصَالِحِ وَضْعًا فِي حَقِّ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ جَمِيعًا، وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَغْرَاضٍ وَمَقَاصِدَ لَا يَتَوَفَّرُ ذَلِكَ إلَّا بَيْنَ الْأَكْفَاءِ.

وَالْكُفْءُ لَا يَتَّفِقُ فِيكُلِّ وَقْتٍ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ مَاسَّةً إلَى إثْبَاتِ الْوِلَايَةِ لِلْوَلِيِّ فِي صِغَرِهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ انْتَظَرَ بُلُوغَهَا لَفَاتَ ذَلِكَ الْكُفْءُ، وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُ وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْعَقْدُ يُعْقَدُ لِلْعُمُرِ تَتَحَقَّقُ الْحَاجَةُ إلَى مَا هُوَ مِنْ مَقَاصِدِ هَذَا الْعَقْدِ فَتُجْعَلُ تِلْكَ الْحَاجَةُ كَالْمُتَحَقِّقَةِ لِلْحَالِ لِإِثْبَاتِ الْوِلَايَةِ لِلْوَلِيِّ .

المناقشة: سبق ان أوردنا مسئلة ((واللائي لم يحضن)) و مسئلة
{حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} و حديث السيدة عائشة و مسئلة تخييرها و الاستدلال به و بقي مناقشة مسئلة الفائدة من تزويج الصغيرة و الآثار المذكورة:
يؤيد مذهب ابن شبرمة في المسئلة أن لاحاجة للصغيرة في النكاح قول الامام ابن عثيمين:
فإذا قال قائل: قوله( يستأذنها)يدل على أن المرأة لها رأي، فلا نجعل الحكم خاصاً بالصغيرة، ونقول: المكلفة لا تجبر، لكن الصغيرة تجبر.
قلنا: أي فائدة للصغيرة في النكاح؟! وهل هذا إلا تصرف في بضعها على وجه لا تدري ما معناه؟! لننتظر حتى تعرف مصالح النكاح، وتعرف المراد بالنكاح ثم بعد ذلك نزوجها، فالمصلحة مصلحتها.

أما مسئلة الاكفاء و فوات الكفء فيرد عليها بالآتي:قال الامام ابن عثيمين في تسجيل شرح زاد المستقنع في صدد المسئلة:
فاذا قال أبوها أنا أسهر الليل و النهار أرجو مثل هذا الرجل الكفء الدين الشاب العالم الغني الذكي السخي الجواد ما أنا حاصل بهذا أنا أزوجها و ان شاء الله اذا كبرت ...
قلنا اتقي الله في بنتك و خلها الآن حرة مطلقة ثم يأتي الله بعد ذلك بالرزق أليس من أتى بمثل هذا الرجل الموصوف بهذه الصفات قادر على أن يأتي بأفضل منه ...بلى قادر فاذن ليس في المسألة دليل.

و قال في كتاب الشرح الممتع:
لكن لو فرضنا أن الرجل وجد أن هذا الخاطب كفء، وهو كبير السن، ويخشى إن انتقل إلى الآخرة صارت البنت في ولاية إخوتها أن يتلاعبوا بها، وأن يزوِّجوها حسب أهوائهم، لا حسب مصلحتها، فإن رأى المصلحة في أن يزوجها من هو كفء فلا بأس بذلك، ولكن لها الخيار إذا كبرت؛ إن شاءت قالت: لا أرضى بهذا ولا أريده. وإذا كان الأمر كذلك فالسلامة ألا يزوجها، وأن يدعها إلى الله ـ عزّ وجل ـ فربما أنه الآن يرى هذا الرجل كفئاً ثم تتغير حال الرجل، وربما يأتي الله لها عند بلوغها النكاح برجل خير من هذا الرجل؛ لأن الأمور بيد الله ـ

قال الامام الكيا الهراسي مشيرا لهذ القول في كتابه آحكام القرآن:
وربما لا يقولون: لا يحتج بما كان في حق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإن نكاح رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يفتقر إلى الولاء.
وعماد كلامهم أن تزويج الصغيرة يتخير بتفويت في مقابلة نجح موهوم، ولا يتحقق ذلك في حق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إذ لا يتوقع فوات مصلحة الصغيرة من نكاح رسول الله صلّى الله عليه وسلم.وقد يقال في الجواب عن ذلك: إن المرأة ربما أرادت الدنيا بعد البلوغ، وأرادت التفرغ إلى نفسها ولم ترد زوجا فالتوقع قائم.

لكن يؤيد وجه الفائدة من تزويج الصغيرة أن يكون الأب في زمن فتنة و قل الأكفاء أو في بلاد كفر وجد مسلم كفء و العودة متعذرة لبلاد الاسلام أو أن يكون عاجزا أو فقيرا معدما و متعذر أن ينفق على البنت أحد من الأقارب أو أهل الخير لكن هذه حالات استثنائية لا تعطيء للأب الحق في أن يزوج ابنته و هي في المهد لمجرد أنه زوجها من كفء حتى و لو لن تزف اليه الا بعد البلوغ اذ ذلك يفوت حقها في الاختيار فربما لم ترد هذا الكفء و أرادت غيره أو أرادت اتمام مرحلة تعليمية معينة ثم التزوج و لا بد من الأخذ في الاعتبار كيف تستغل هذه الرخصة ؟من الفئة التي تستخدمها؟نجد في الوقت الحاضر من يبيع بناته بيعا و لا يبالي أهليتها للنكاح و لا لمن يزوجها و لو من هرم و نجد من يزوج البنت في سن مبكرة لمجرد التخلص من أعباء الانفاق عليها فمسئلة كيف تطبق الرخصة أيضا في وقتنا الحاضر تؤيد المنع.

قال الامام ابن عثيمين : فالذي يظهر لي أنه من الناحية الانضباطية في الوقت الحاضر ، أن يُمنع الأبُ من تزويج ابنته مطلقا ، حتى تبلغ وتُستأذن ، وكم من امرأة زوّجها أبوها بغير رضاها ، فلما عرفت وذاقت الأمرين من زوجها قالت لأهلها : إما أن تفكوني من هذا الرجل ، وإلا أحرقت نفسي ، وهذا كثير ما يقع ، لأنهم لا يراعون مصلحة البنت ، وإنما يراعون مصلحة أنفسهم فقط ، فمنع هذا عندي في الوقت الحاضر متعين ، ولكل وقت حكمه .
ولا مانع من أن نمنع الناس من تزويج النساء اللاتي دون البلوغ مطلقا ، فها هو عمر – رضي الله عنه – منع من رجوع الرجل إلى امرأته إذا طلّقها ثلاثا في مجلس واحد ، مع الرجوع لمن طلّق ثلاثا في مجلس واحد كان جائزا في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأبي بكر وسنتين من خلافته ، والراجح أنها واحدة.
ومنع من بيع أمهات الأولاد – فالمرأة السُّرِّيَّة عند سيدها إذا جامعها وأتت منه بولد صارت أم ولد – في عهد الرسول –صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر ، كانت تباع أم الولد ، لكن لما رأى عمر أن الناس صاروا لا يخافون الله ، ويفرِّقون بين المرأة وولدها ، منع –رضي الله عنه – من بيع أمهات الأولاد.
وكذلك أيضا : أسقط الحد عن السارق في عام المجاعة العامة .