بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين
إن هو إلا وحي يوحى : اللهم صلى وسلم وبارك على سيدنا محمد
عندما قرأت الحديث لم يُشتبه علىّ وذهبت الى معناه المقصود فأردت أن أبحث إلى رأي ذهب الى ما ذهبت إليه فوجدت ما يؤيده وهو أصح الأراء عندي فأردت نقله كما هو
إن منشأ غلط كثير من أهل العلم في ترجيحهم بين الأحاديث المتعارضة في الظاهر، هو زعمهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجوز له أن يخبر بشيء ويُعْلِمُه الوحي بخلافه. قالوا: ويستحيل أن يقع التعارض بين خبرين من الوحي، لكنه جائز بين خبر قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - من عند نفسه وبموجب اجتهاده وخبرٍ من الوحي!
قلت: إن دعوى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بشيء وأَعلَمه الوحي بخلافه دعوى عاريةٌ عن الدليل، ورجمٌ بالغيب، وقولٌ في دين الله بغير علم؛ فلا تثبت هذه الدعوى إلا بأمرين:
الأول: إثبات أنه قال هذا القول من عند نفسه أو قاله شاكّاً أو متردداً، ولن يستطيع مدَّعٍ إثبات ذلك أبداً، اللهم إلا رجماً بالغيب وقولاً بغير علم.
الثاني: إثبات أنه قال هذا القول، وأخبر بهذا الخبر قبل إخباره بالخبر الآخر؛ حتى يصح ادعاء أن الخبر الآخر وحي، والأول قاله شاكّاً أو متردداً أو قَبْلَ أن يوحى إليه؛ فبدون إثبات أنه قال أحد القولين قبل الآخر، لا يجوز لمدَّع أن يدَّعي أن أحد الخبرين وحيٌ والآخر ليس كذلك؛ فلا يمكن لمدعي هذه الدعوى أن يثبت صحتها ولو اجتمع له علم مَنْ في الأرض جميعاً.
إن القول في دين الله بغير علم حرام وقد قال الله - جل وعلا - لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: ٦٣]، وقال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٣ - ٤]. وقال الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -: «من أحب أن يسألَني عن شيء فَلْيَسأَلْني عنه؛ فوالله لا تسألوني عن شيءٍ إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا»[1].
فلا يجوز لأحد من الناس أن يقول في دين الله بغير علم أو أن يُخْبِر عن شيء لا يدري ما هو؛ فكيف بالمعصوم - صلى الله عليه وسلم -؟
نعم! يجوز له - صلى الله عليه وسلم - أن يظن ظناً، أو يجتهد، أويرى رأياً، كما في حديث تأبير النخل، وقولِه: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»[2]. وحُكْمِه في أسارى بدر، وإذنِه لبعض المتخلفين عن تبوك، ولكن هذا في الأحكام لا في الأخبار، ومن استقرأ نصوص الشريعة علم يقيناً أنه لا يجوز الاجتهاد في الأخبار؛ لأن الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو، هو عين الكذب، والأنبياء معصـومون من هذا النوع من الكذب، وإن جاز في حقهـم الكـذب فهـو الكـذب المشـروع الـذي هـو خيـرٌ وحكمـةٌ ومصلحةٌ، وليـس القـول بغير علـم، والرجـم بالغيـب، ولا أظن أحداً يشم رائحة الفقه يدعي أنه يجوز الاجتهاد في الأخبار.
وقد اتفقت كلمة الأصولين على أنه لا يقع التعارض بين الأخبار؛ لأنه لو تعارض خبران كان أحدهما كذباً لا محالة. قال ابن قدامة في روضة الناظر: (اعلم أن التعارض هو التناقض؛ ولا يجوز ذلك في خبرين؛ لأن خبر الله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يكون كذباً؛ فإن وُجِدَ ذلك في حكمين، فإما أن يكون أحدهما كذباً من الراوي، أو يكون الجمع بينهما بالتنزيل على حالين، أو في زمانين، أو يكون أحدهما منسوخاً)[3].
وهكذا صرَّح قَبْلَه الغزالي في المستصفى[4]، وروى الخطيب البغدادي بسنده إلى أبي الطيب الطبري أنه قال: (كل خبرين عُلِم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم بهما فلا يصح دخول التعارض فيهما على وجه، وإن كان ظاهراهما متعارضين... لأنه يوجب كون أحدهما صدقاً والآخر كذباً إن كانا خبرين؛ والنبي - صلى الله عليه وسلم - منزَّه عن ذلك، ومعصوم باتفاق كلِّ مثبت للنبوة)[5].
ولهذا صرحوا أنه لا يجوز النسخ في الأخبار؛ لأنه يستحيل التعارض بينها، والنسخ أَثَرٌ من آثار التعارض؛ فلو جاز التعارض لجاز النسخ، ولا شك في غلط من جوَّز التعارض ومنع النسخ، ثم قرر أن ذلك الخبر قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يوحى إليه.
فدعوى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله قبل أن يوحى إليه، فيها إهمال لوحي، وإسقاط لأحد الخبرين، وإبطالٌ لحديث الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -، الذي لا ينطق عن الهوى؛ وقد اتفق الأصوليون على أن إعمال الدليلين أَوْلَى من إهمال أحدهما، وأنه لا يصار إلى إهمال أحد الدليلين إن أمكن الجمع بينهما.
قال الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى -: (وكلما احتُمِل حديثان أن يُستعمَلا معاً استُعمِلا معاً ولم يعطِّل واحد منهما الآخر)[6].
وقال في الرسالة: (ولم نجد عنه - صلى الله عليه وسلم - شيئاً مختلفاً فكشفناه إلا وجدنا له وجهاً يحتمل به ألا يكون مختلفاً)[7].
وقال الإمام ابن خزيمة - رحمه الله -: (ليس ثَمَّ حديثان متعارضان من كل وجه، ومن وَجَد من ذلك شيئاً فَلْيَأتني لأؤلِّف له بينهما)[8].
وقال القرافي - رحمه الله -: «إذا تعارض دليلان، فالعمل بكل واحد منهما من وجه أَوْلَى من العمل بأحدهما»[9].
ويقول اللكنوي: (إن إخراج نصٍّ شرعيٍّ عن العمل به مع إمكان العمل به غير لائق؛ فالأَوْلَى أن يُطلَب الجمع بين المتعارضيين بأي وجه كان بشرط تعمُّق النظر وغوص الفكر)[10].
إن نصوص الوحي يفسر بعضها بعضاً ويؤيد بعضها بعضاً ويقوي بعضها بعضاً، ومحال أن تأتي متعارضةً ومتناقضةً؛ لأنها من مشكاة واحدة، وفي ملَّة واحدة، ولم تأتِ عن جهل، ولم تصدر عن هوى. وما تُوُهِّم عن بعضها أنها مختلفة ومتعارضة، فهو تعارض ظاهري ينشأ في الذهن ويقع في الخاطر، وسرعان ما ينكشف ويتلاشى أمام الراسخ في العلم، وأعظم أسباب هذا الوهم هو عدم حضور النصوص مجتمعة عند المجتهد؛ فيحضر بعضها ويغيب بعضها، وما غاب عنه هو الرابط الذي يربط بين تلك النصوص ويؤلِّف بينها والجامع الذي يجمع شَمْلَها. وهذه القاعدة أشار إليها شيخ الأسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى- فاستمسِك بها فإنها تغنيك عن سِفْر يُسْفِر عن كثير من القواعد في هذا الباب.
والعالِم الموفَّق، هيَّاب للوحي، معظِّم لشأنة، وقَّاف عند حدوده؛ لا يتقدم بين يدي الله ورسوله، وليس بهياب للجمهور، ولا معظِّمٍ للآراء ولا متبعٍ لنخالة الأفكار وزبالة الأذهان.
وإن يعظِّمِ العبد نصوص الوحي من ربِّه، ويقدِّرْها حق قَدْرِها، ويأخذها بقوة؛ يفتحِ الله - سبحانه - له أبواباً من العلم والفهم؛ وهو الفتاح العليم.
الأحاديث التي وردت في المسخ:
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فُقدَت أمَّة من بني إسرائيل لا يُدرَى ما فعلت، وما أراها إلا الفأر؛ ألا ترونها إذا وُضِعَ لها ألبان الإبل لم تشربْه، وإذا وُضِعَ لها ألبان الشاء شربته؟».
وروى مسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بضبٍّ فأبى أن يأكل منه وقال: «لا أدري لعله من القرون التي مُسِخَت».
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الحيات مسخ الجن ، كما مُسِخَت القردة والخنازير من بني إسرائيل»[11].
وروى مسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «قال رجل: يا رسول الله القرد والخنازير هي مما مُسِخ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله لم يجعلْ لمسخ نسلاً ولا عقباً، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك».
لقد اختلف العلماء في معاني هذه الأحاديث، فأخذ بعضهم بظاهر الأحاديث الأُوْلَى وزعموا أن الممسوخ يَنْسُل، وأن هذه القردة والخنازير هي من نَسْل بني إسرائيل الذين مُسِخُوا وكذلك الفأر والضب. وهو قول أبي إسحاق الزجاج واختاره القاضي أبو بكر بن العربي[12].
وقال الجمهور: إن الممسوخ لا يَنْسُل، وإن القردة والخنازير وغيرها كانت قبل ذلك، والذين مسخهم الله قد هلكوا، ولم يبقَ لهم نسلٌ؛ لأنه قد أصابهم السخط والعذاب فلم يكن لهم قرار في الدنيا بعد ثلاثة أيام، وقال ابن عباس: لم يعشْ مسخ قط بعد ثلاثة أيام ولم يأكل ولم يشرب ولم يَنْسُل.
قالوا: ويدل عليه حديث ابن مسعود الذي ذكرناه آنفاً: «إن الله لم يجعل لمسخ نسلاً ولا عقباً»، واختلفوا في معنى أحاديث الفأر والضب، فقال بعضهم: أحاديث الفأر والضب قالها النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يوحى إليه أن الله لم يجعل لمسخ نسلاً ولا عقباً، وهذا قول كثيرٍ من أهل العلم ورجَّحه القرطبي وابن حجر وغيرهما. قال القرطبي: (وكان هذا حدساً منه - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يوحى إليه أن الله لم يجعل للمسخ نسلاً، فلما أوحى إليه بذلك زال عنه ذلك التخوف، وعلم أن الضب والفأر ليسا مما مُسِخ)[13].
قلت: الأحاديث ليست متعارضة؛ لأنها أخبار والأخبار لا تتعارض؛ لأنها إن تعارضت لزم أن يكون بعضها كذباً، والنبي - صلى الله عليه وسلم - منزَّه عن ذلك باتفاق، وإنما ينبغي تأويلها لتأتلف ويتفق معناها.
وقال الحازمي في الاعتبار: «ومهما أمكن حَمْلُ كلام الشارع على وجه يكون أعمَّ للفائدة؛ كان أَوُلَى؛ صوناً لكلامه عن سمات النقص»[14]؛ فلا بد أن تؤوَّل هذه الأحاديث تأويلاً صحيحاً بعيداً عن التعسف، ولا يؤدي إلى تعطيل اللفظ أو تحريفه.
وقال إمام الحرمين: «مما غلَّط الشافعي - رضي الله عنه - على المؤوِّلين كلُّ ما يؤدي فيه التأويل إلى تعطيل اللفظ»[15].
وبناءً عليه نقول - والله أعلم -: إن الأحاديث لا تعني أن الفأر الموجود الآن هي من بني إسرائيل الممسوخين، وإنما تعني أن بني إسرائيل وقع فيهم مسخٌ إلى الفأر، ويدل على هذا التأويل حديث ابن عباس: «الحيات مسخ الجن ، كما مُسِخَت القردة والخنازير من بني إسرائيل»؛ فإن ظاهره يوحي بذلك، وراوي هذا الحديث هو ابن عباس القائل: لم يعـشْ مسخ قط فـوق ثلاثة أيام. قال العـلاَّمة الألبـاني - رحمه الله -: «إن الحديث لا يعني أن الحيات الموجودة الآن هي من الجن الممسوخ وإنما يعني أن الجن وقع فيهم مسخ إلى الحيات». وهذا التأويل كالمتعين؛ لأنـه جارٍ على منهج الفصحاء، وأسلـوب البلغـاء، وليـس فيه تعسُّـف ولا يؤدي إلى تعطيل اللفظ أو تحريفه؛ فإن قيل: فما وجه امتناعه - صلى الله عليه وسلم - عن أكـل الضـب وقوله: «لعلـه من القـرون التـي مسخت»؟ قلنا: لا جرم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يشك: هل وقـع المسخ إلى الضب أم لا؟ وإذا كان قد وقع إليه المسخ، فهو حرام قطعاً؛ لأن المسخ لا يقع إلا إلى الحيوان الخبيث لوجود الشبه بين الممسوخ والممسوخ إليه ثم لا يزال هذا الشبه كما يقول ابن القيم يقوى ويتزايد حتى يصيرَ ظاهراً على الوجه، ثم يقوى حتى يَقْلبَ الصورة الظاهرة، كما قلب الهيئة الباطنة، ومن له فِراسة تامة يرى على صور الناس مسخاً من صور الحيوانات التي تخلَّقوا بأخلاقها في الباطن؛ فالظاهر مرتبط بالباطن أتمَّ ارتباط، وعقوبات الرب - تعالى - جارية على وَفْقِ حكمته وعدله[16]، ويدل على هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وإني لا أراها إلا الفأر؛ ألا ترونها إذا وُضِعَ لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وُضِعَ لها ألبان الشاء شربته»؛ فهو - صلى الله عليه وسلم - قد استدل على وقوع المسخ إلى الفأر بوجود الشبه بين الممسوخ والممسوخ إليه، وتبيَّن له أن الضب لم يقع إليه المسخ، فأُكِل بين يديه وعلى مائدته، ولم ينكِر، وقال: «إنه ليس من طعام قومي أجدني أعافه»[17].
وبهذا تجتمع الأدلة ويرتفع التعارض، ولله الحمد والمنَّة.
[1] صحيح مسلم: (6074).
[2] صحيح مسلم: (6081).
[3] روضة الناظر: (2/208).
[4] المستصفى: (2/226).
[5] الكفاية في علم الرواية: ص 606.
[6] اختلاف الحديث: ص 39.
[7] الرسالة: ص 216.
[8] ابن كثير، اختصار علوم الحديث: ص 170.
[9] القرافي، تنقيح الفصول: ص 421.
[10] اللكنوي، الأجوبة الفاضلة: ص 183.
[11] الألباني، السلسلة الصحيحة.
[12] القرطبي، سورة البقرة: آية 65.
[13] المصدر السابق.
[14] الحازمي، الاعتبار: ص 11.
[15] البرهان: (1/551).
[16] ابن القيم إغاثة اللهفان: ص410.
[17] الألباني، السلسلة الصحيحة.
المفضلات