

-
المطلب الرابع: صراع الحضارات أو حوارها في ظل القيم الحضارية الإسلامية:
انتقلت الحضارات الإنسانية المختلفة ـ الديني منها والوضعي ـ من الصراع المباشر وغير المباشر إبان الحرب العالمية الأولى والثانية إلى عهد ما يسمى بالحرب الباردة، وبدأ ذلك عند بروز الشيوعية ووضع لبناتها الأولى على يد مؤسسيها: كارل ماركس وفريدريك إنجلز اللذين استغلا عواطف العمال المقهورين من أرباب العمل في ظل النظام الرأسمالي وانتهزا سذاجتهم فمنياهم بالثروة ووعداهم بالرفاهية؛ ولا يعني هذا عدم وجود الصراع قبل الحربين العالميتين فقد كان هناك صراع كبير ولكنه إقليمي أو داخلي باعتبار حضاري أوديني.
وبعد انتهاء الحرب الباردة وما صاحبها من سباق التسلح وحرب النجوم وزوال المعسكر الشرقي وتفكك منظومته التي كان يتزعمها الاتحاد السوفيتي؛ أصبح للعالم قطب واحد يهيمن على مقدراته، وهو المعسكر الغربي الذي تهيمن عليه الرأسمالية الغربية بنظامها الديمقراطي واقتصادها الحر وآلتها الإعلامية وانحلال قيمها وتفسخ أخلاقها القائمة أصلا على ديانات محرفة ومبدلة، وفي ظل هذه الأحادية بدأ بعض المفكرين الغربيين يروج لفكرة صدام الحضارات التي يفترض فيها العدو القادم، ويحدد شكله، ويهيئ الغرب بنظمه السياسية ونخبه الفكرية وأحلافه العسكرية وجماعاته الدينية لمواجهته مواجهة شاملة، وما هذا العدو المرتقب للحضارة الغربية إلا الإسلام الذي أوجبوا استئصاله واقتلاع شجرته من جذورها.
والتنبؤ بحتمية الصراع ـ بعد انهيار الشيوعية ـ بين الحضارة الإسلامية وبعض الحضارات الآسيوية من جهة والحضارة الغربية من جهة أخرى يعد من بنات أفكار مراكز الدراسات الإستراتيجية والفكرية في الغرب، وهو امتداد طبيعي لذهنية اليهود وخصائصهم النفسية القائمة على الاستكبار والاستعلاء: }وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{ (البقرة: 91)، فهؤلاء المفكرون ومن شايعهم أدركوا أن المستقبل للدين الإسلامي الذي يملك مقومات البقاء من: الصدق، والعدل، وحفظ حقوق الإنسان، ويتصف بأسباب النهوض من: احترام العقل، والإيمان بالأسرة ورسالتها الاجتماعية والتربوية، وقدروا بناء على ذلك أنه إذا كانت هناك حضارة تشكل خطرا على الحضارة الغربية وتنافسها في ريادتها للعالم فإنها هي حضارة الدين الإسلامي الذي يعد أسرع الأديان انتشارا باعتراف الأعداء.
ويستطيع المرء أن يستنبط ـ بسهولة ويسر ـ من الدعوة إلى صراع الحضارات أن انهيار القيم الحضارية ينتقل تأثيره من الحياة الاجتماعية للأمم إلى تخطيطها الاستراتيجي ويسلك سبيله إلى أهدافها العليا، فلولا الشعور بالاستعلاء والنظرة الفوقية وضيق الحضارة الغربية ذرعا بالآخر لما كانت الدعوة إلى الصدام مع الحضارة الإسلامية وإقصائها، وقد يصعب تحليل هذه الدعوة وردها إلى جذورها الحضارية والدينية الغربية اليهودية أو المسيحية؛ ولكن المسلم يجد ذلك في حديث القرآن الكريم عن العلاقات بين الشركاء في الجزيرة العربية من المسلمين واليهود والنصارى، وتلك العلاقات التي كانت بين مجتمعات بدائية صغيرة في رقعة جغرافية محدودة هي الأساس للعلاقات الدولية المعاصرة بين الحضارات المختلفة، فعلاقة اليهود بالعرب قامت على أكل أموال الناس بالباطل والاستضعاف والفتنة، فقال الله تعالى: }ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ{ (آل عمران: 75)، ويبين القرآن الكريم كذلك الأساس العام لهذا الخلق البذيء وأصل ذلك السلوك المبتذل، وذلك حين تحدث عن اليهود والنصارى وصفاتهم النفسية وفساد طريتهم فقال: }وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم{ (المائدة: 18).
وقد ظن كثير من الناس أن الحضارة الغربية قد بلغت أوج الحضارة الإنسانية وجعلوا ذلك منطلقا لنظرية نهاية الدين ثم نهاية التاريخ لتثبيط العزائم وإضعاف الإبداع والسعي إلى التميز بحجة أن الدنيا ستنتهي عندها ولن تأتي بمثلها علما واقتصادا ورفاهية؛ ولكن الواقع يثبت أنها أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار والتلاشي، فما تتصف به من الإلحاد، والخواء الروحي، والإباحية، والشذوذ الجنسي لدى الرهبان وغيرهم، والجور، وازدواجية المعايير، وإدمان المخدرات، وانهيار نظام الأسرة، يجعلها تنتظم في قوله تعالى: }وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا{(الإسراء: 16)، وقد غاب عن الذين بهرتهم الحضارة الغربية بتقدم آلتها ومدنها الصناعية، وأدهشهم تطورها العلمي أنها حضارة عرجاء قامت على العمران والعلم وأهملت الروح والدين، واهتمت بالعقل والآلة وضربت الذكر صفحا عن القيم الإنسانية والأخلاق ونظام الأسرة والإيمان فشملها قوله: }قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ (المائدة: 100)، ولذلك ما ينبغي للمسلم أن يصدم بقوتها المادية وجبروتها المعرفي والعسكري والصناعي فهي لا تساوي شيئا بدون القيم والأخلاق.
وهذه النتيجة الصحيحة للمقدمة المنطقية والأسباب الموضوعية ـ التي يؤكدها الواقع الماثل بين أيدينا ـ لا يقدح فيها ما ارتآه بعض المفكرين الغربيين المتفائلين ـ مثل المؤرخ البريطاني: أرنولد توينبي ـ (الذي لم يمنعه إثبات مرض الحضارة الغربية من القول بأنه قابل للعلاج وأنها قادرة على التجدد والتكيف مع الأزمة؛ فإن استخف هؤلاء المفكرون المشكلة فقد اعترف بها آخرون ووضحوا حقيقتها ومنهم المفكر الألماني: أوزفالد اشبنجلر الذي انتهى إلى أن الحضارة الغربية قد أصابتها أعراض الشيخوخة والتدهور)[1]، ويكتسب هذا الرأي أهمية كبيرة لأن مجرد الاعتراف بأزمة القيم يعتبر إقرارا بالانهيار فالأزمة: (تنمو وتنمو معها أيضا نتائجها، من الحد الذي يمكن تداركه بالتعديل البسيط إلى الحد الذي يصبح التعديل مستحيلا، أولا يمكن إلا بثورة ثقافية عارمة تكون في الحقيقة بمثابة انطلاقة جديدة للحياة الاجتماعية من نقطة الصفر) [2].
وليست القيم الحضارية ـ في الإسلام ـ شرطا لقوة الحضارة وتتابعها وحسب؛ ولكنها ضرورة للحوار بين الحضارات الهادف إلى الاستقرار والأمن والسلم، فالقيم الحضارية المشتركة بين الحضارات هي الكفيلة بجعلها حضارات متحاورة تهدف إلى التعاون والتعايش، والسلم والاستقرار، والمسلمون يؤسسون حوارهم الحضاري مع الآخر على العدل والبر لقوله: }لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ{ (الممتحنة: 8، 9)، ويبنونه على وجوب الوفاء بالعهود وتحريم الغدر والخيانة كما ورد في حديث: (عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي r قال: من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما)[3]، وبهذا المفهوم تتميز الحضارة الإسلامية عن الحضارات المعاصرة التي جعلت مبدأها أن لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة بل مصلحة دائمة.
ولم تخل المصادر الإسلامية من مفردات التدافع والتنافس بين بني آدم في شؤون الدنيا والدين، إلا أن وجودها لا يعني تطابق المفهوم الإسلامي مع التصور الغربي لصراع الحضارات؛ لأنه في الإسلام يأخذ شكلا مغايرا لما هو عليه في الفكر الغربي المعاصر وينطلق من أصول تخالفه ويتجه إلى غايات تناقضه تماما، فهو مبني وفق المنظور القرآني على تفاوت البشر في الأرزاق ومرتب على سنة كونية قضت برفع بعض العباد فوق بعض ليتخذ بعضهم بعضا سخريا، فالصراع في الإسلام يأخذ شكل التنافس المحمود والمجاهدة الشريفة، ويهدف إلى التجويد والإتقان، وتكون غايته البقاء والاستمرار قال الله تعالى: }وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ{ (البقرة: 251)، وبهذا يتبين الفرق بين التصور الإسلامي وما ذهبت إليه الملل الأخرى: (فقد أقر الإسلام بوجود الصراع، لكنه لا يقر التفسير المادي للتاريخ بأنه عبارة عن صراع بين المتناقضات أو بين الطبقات، وكذلك أقر بتنوع الصراع، فهناك صراعات دينية وعرقية وسياسية واقتصادية) [4].
[1] ـ القيم الحضارية في رسالة الإسلام ـ د / محمد فتحي عثمان ـ ص 5/6.
[2] ـ مشكلة الثقافة ـ مالك بن نبي ـ ص 91.
[3] ـ أخرجه البخاري في الجزية والموادعة باب: إثم من قتل معاهدا بغير جرم ص607
[4] ـ تفسير التاريخ ـ د / نعمان عبد الرزاق ـ ص 193.
تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة فداء الرسول في المنتدى من السيرة العطرة لخير البرية صلى الله عليه وسلم
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 04-10-2012, 12:16 PM
-
بواسطة نضال 3 في المنتدى من السيرة العطرة لخير البرية صلى الله عليه وسلم
مشاركات: 0
آخر مشاركة: 02-11-2010, 12:53 AM
-
بواسطة نضال 3 في المنتدى من السيرة العطرة لخير البرية صلى الله عليه وسلم
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 16-02-2010, 09:56 PM
-
بواسطة الحاجه في المنتدى من السيرة العطرة لخير البرية صلى الله عليه وسلم
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 06-11-2009, 02:00 AM
-
بواسطة قابضة على الجمر في المنتدى منتدى الكتب
مشاركات: 2
آخر مشاركة: 15-05-2008, 09:56 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات