بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إستدراك ثاني بسيط على كلام سيدتي الفاضلة / المرضية ليسوع حول شخصية الذبيح

فالقرآن الكريم لم يصرح باسم الذبيح صراحة ، وانما صرح بدلائل وقرائن تدل عليه وعلى شخصيته ، وبما في ذلك ايضاً من كلام حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم .

والعلماء في شأن هذه القرائن اجتهدوا ، فمنهم من أصاب فله اجر الاثنين ، ومن أخطأ فله اجر الواحد .

والصواب في تحديد شخصية الذبيح هو سيدنا إسماعيل صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكر الامام شمس الدين بن القيم في كتابه زاد المعاد 1 / 26 ، الكثير من الادلة على اثبات ان الذبيح هو إسماعيل صلى الله عليه وسلم ، وانقله لحضرتك كمعلومات مبدئية ، علما بان حضرتك لو اردتي فتح موضوع مفصل نتحدث فيه عن الامر بإستفاضة اكثر فسأكون تحت امرك فيه إن شاء الله حتى لا يتشعب موضوعنا هنا فقط لا اكثر ولا اقل ، قال الشيخ الامام رحمه الله :

وامّا القول بانه اسحاق فباطل باكثر من عشرين وجهاً، وسمعت شيخ الاِسلام ابن تيمية قدّس اللّه روحه يقول‏:‏ هذا القول انما هو متلقى عن اهل الكِتاب، مع انه باطل بنص كتابهم، فان فيه‏:‏ ان اللّه امر ابراهيم ان يذبح ابنَه بكره، وفي لفظ‏:‏ وحيده، ولا يشكُّ اهلُ الكِتاب مع المسلمين ان اسماعيل هو بكر اولاده، والذي غرَّ اصحاب هذا القول ان في التوراة التي بايديهم‏:‏ اذبح ابنك اسحاق، قال‏:‏ وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم، لانها تناقض قوله‏:‏ اذبح بكرك ووحيدك،ولكن اليهود حسدت بني اسماعيل على هذا الشرف، واحبوا ان يكون لهم، وان يسوقوه اليهم، ويختاروه لانفسهم دون العرب، ويابى اللَّهُ الا ان يجعل فضله لاهله‏.

‏ وكيف يسوغ ان يُقال‏:‏ ان الذبيح اسحاق، واللّه تعالى قد بشر ام اسحاق به وبابنه يعقوب، فقال تعالى عن الملائكة‏:‏ انهم قالوا لاِبراهيم لما اتوه بالبشرى‏:‏ ‏{‏لاَ تَخَفْ اِنّا اُرْسِلْنَا اِلَىَ قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَاَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشّرْنَاهَا بِاِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ اِسْحَاقَ يَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 70-71‏]‏ فمحال ان يبشرها بانه يكون لها ولد، ثم يامر بذبحه، ولا ريبَ ان يعقوب عليه السلام داخل في البشارة، فَتَنَاوُل البشارة لاِسحاق ويعقوب في اللفظ واحد، وهذا ظاهِر الكلام وسياقُه‏.‏

فان قيل‏:‏ لو كان الامر كما ذكرتموه لكان ‏(‏يعقوب‏)‏ مجروراً عطفاً على اسحاق، فكانت القراءة ‏{‏ومن وراء اسحاق يعقوب‏}‏ اي‏:‏ ويعقوب من وراء اسحاق‏.‏ قيل‏:‏ لا يمنع الرفعُ ان يكون يعقوبُ مبشراً به، لان البشارةَ قول مخصوص، وهي اولُ خبر سارٍّ صادق‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ وَرَاءِ اِسْحَاقَ يَعْقُوب‏}‏ جملة متضمنة لهذه القيود، فتكون بشارة، بل حقيقة البشارة هي الجملة الخبرية‏.‏ ولما كانت البشارة قولاً، كان موضع هذه الجملة نصباً على الحكاية بالقول، كان المعنى‏:‏ وقلنا لها‏:‏ من وراء اِسحاق يعقوب، والقائل اذا قال‏:‏ بشرتُ فلاناً بِقُدوم اخيه وَثَقَلِهِ في اثره، لم يعقل منه الا بشارته بالامرين جميعاً‏.‏ هذا ممّا لا يستريبُ ذو فهم فيه البتة، ثم يُضعف الجرَّ امر اَخر، وهو ضعف قولك‏:‏ مررت بزيد وَمِنْ بعده عمرو، ولان العاطف يقوم مقام حرف الجرِّ،‏.‏فلا يفصل بينه وبين المجرور، كما لا يفصل بين حرف الجار والمجرور‏.‏

ويدل عليه ايضاً ان اللّه سبحانه لما ذكر قصة ابراهيم وابنه الذبيح في سورة ‏(‏الصافات ‏)‏ قال‏:‏ ‏{‏فَلَمّا اَسْلَمَا وَتَلّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ اَن يَاِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدّقْتَ الرّؤْيَا اِنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ اِنّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الاخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَىَ اِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ اِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 103-111‏]‏‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَشّرْنَاهُ بِاِسْحَاقَ نَبِيّاً مّنَ الصّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 112‏]‏‏.‏ فهذه بشارة من اللّه تعالى له شكراً على صبره على ما اُمِرَ به، وهذا ظاهر جداً في ان المبشَّر به غيرُ الاول، بل هو كالنص فيه‏.‏

فان قيل‏:‏ فالبشارة الثانية وقعت على نبوته، اي‏:‏ لما صبر الاب على ما اُمر به، واَسلم الولد لامر اللّه، جازاه اللّه على ذلك بان اعطاه النُّبوة‏.‏

قيل‏:‏ البشارة وقعت على المجموع‏:‏ على ذاته ووجوده، وان يكون نبياً، ولهذا نصب ‏(‏نبياً‏)‏ على الحال المقدَّر، اي‏:‏ مقدراً نبوته، فلا يمكن اخراجُ البِشارة ان تقع على الاصل، ثم تخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفَضْلَةِ، هذا مُحال من الكلام، بل اذا وقعت البِشارةُ على نبوته، فوقوعها على وجوده اولى واحرى‏.‏

وايضاً فلا ريب ان الذبيح كان بمكّة، ولذلك جُعلت القرابينُ يومَ النَّحر بها، كما جُعِل السعيُ بين الصفا والمروة ورمي الجمار تذكيراً لشان اِسماعيل وامِّه، واقامةً لذكر اللّه، ومعلوم ان اسماعيل وامه هما اللَّذان كانا بمكّة دون اسحاق وامه، ولهذا اتصل مكانُ الذبح وزمانُه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه ابراهيم واسماعيل، وكان النَّحرُ بمكّة مِن تمام حج البيت الذي كان على يد ابراهيم وابنه اسماعيل زماناً ومكاناً، ولو كان الذبح بالشام كما يزعم اهل الكِتاب ومن تلقى عنهم، لكانت القرابين والنَّحر بالشام، لا بمكّة‏.‏

وايضاً فان اللّه سبحانه سمى الذبيح حليماً‏.‏ لانه لا احلم ممن اسلم نفسه للذبح طاعة لربه‏.‏ ولما ذكر اسحاق سماه عليماً، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ اَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ اِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ اِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مّنكَرُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 24-25‏]‏ الى ان قال‏:‏ ‏{‏قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 28‏]‏ وهذا اسحاق بلا ريب، لانه من امراته، وهي المبشًّرة به، وامّا اسماعيل، فمن السُّرِّيَّةِ‏.‏ وايضاً فانهما بُشِّرا به على الكِبرَ واليَاْسِ من الولد، وهذا بخلاف اسماعيل، فانه ولد قبلَ ذلك‏.‏

وايضاً فان اللّه سبحانه اجرى العادة البشرية انَّ بكر الاولاد احبُّ الى الوالدين ممن بعده، وابراهيم عليه السلام لما سال ربه الولد، ووهبه له، تعلقت شُعْبَةٌ من قلبه بمحبته، واللّه تعالى قد اتخذه خليلاً، والخُلة مَنْصِبٌ يقتضي توحيدَ المحبوب بالمحبة، وان لا يُشارك بينه وبين غيره فيها، فلما اخذ الولدُ شعبةً من قلب الوالد، جاءت غَيْرةُ الخُلة تنتزعها من قلب الخليل، فامره بذبح المحبوب، فلما اقدم على ذبحه، وكانت محبةُ اللّه اعظمَ عنده من محبة الولد، خَلَصَتِ الخلة حينئذٍ من شوائب المشاركة، فلم يبق في الذبح مصلحة، اذ كانت المصلحةُ انما هي في العزم وتوطين النفس عليه، فقد حَصَل المقصودُ، فَنُسِخَ الامر، وَفُدي الذبيح، وَصدَّق الخليلُ الرؤيا، وحصل مراد الرب‏.‏

ومعلوم ان هذا الامتحان والاختبار انما حصل عند اول مولود، ولم يكن ليحصل في المولود الاخر دون الاول، بل لم يحصل عند المولود الاخر من مزاحمة الخلة ما يقتضي الامر بذبحه، وهذا في غاية الظهور‏.‏

وايضاً فان سارة امراة الخليل عليه السلام غارت من هاجر وابنها اشد الغيرة، فانها كانت جارية، فلما ولدت اسماعيل واَحبَّه ابوه، اشتدت غيرة ‏(‏سارة‏)‏، فامر اللّه سبحانه ان يُبعد عنها ‏(‏هاجر‏)‏ وابنها، ويسكنها في ارض مكّة لتبرد عن ‏(‏سارة‏)‏ حرارةُ الغيرة، وهذا من رحمته تعالى ورافته، فكيف يامره سبحانه بعد هذا ان يذبح ابنها، ويدع ابن الجارية بحاله، هذا مع رحمة الله لها وابعاد الضرر عنها وجبره لها، فكيف يامر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية، بل حكمتُه البالغة اقتضت ان يامر بذبح ولد السُّرِّيَّةِ، فحينئذٍ يرق قلبُ السيدة عليها وعلى ولدها، وتتبدل قسوةُ الغيرة رحمة، ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها، وان اللّه لا يضيع بيتاً هذه وابنها منهم، وليُريَ عباده جبره بعد الكسر، ولطفه بعد الشدة، وان عاقبة صبر ‏(‏هاجر‏)‏ وابنها على البُعد والوحدة والغربة والتسليم الى ذبح الولد الت الى ما الت اليه، من جَعل اثارهما ومواطئ اقدامهما مناسكَ لعباده المؤمنين، ومتعبداتٍ لهم الى يوم القيامة، وهذه سنته تعالى فِيمَن يُريد رفعه مِن خلقه ان يمنَّ عليه بعد استضعافه وذله وانكساره‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُرِيدُ اَن نّمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الارْضِ وَنَجْعَلَهُمْ اَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 5‏]‏ وذلك فضل اللّه يُؤْتيه من يشاء، واللّه ذو الفضل العظيم‏.‏