قضية "الصّلب" : لماذا أصر اليهود على صلب عيسى المسيح ؟
"الصَّلبُ" كان من القضايا التي شغلت ذهني , و لم أستطع وقتها ربط جميع الأمور - بهذا الوضوح كما هو الآن - و النظر للصورة كاملة التي تحوي في إطارها السبب القوي وراء اصرار اليهود على تطبيق عقوبة الصلب على يسوع المسيح , حتى تعرفت على الإسلام و قرأت الانجيل مرة أخرى.
كان بإمكان اليهود تسليط الغوغاء عليه و سحله و إعدامه خارج نطاق القانون , لا سيما و أن عيسى لم يكن له قبيلة تحامي عنه أو عصبة يلتجأ اليها و يستند بها كما هو الحال لدى العرب , و لكنهم أرادوا به "الصلب" بكل صرامه و صدق , فلماذا ؟
لماذا طلبوا من "بيلاطس النبطي" - الحاكم الروماني - مصادقة هذه العقوبة و تنفيذ هذا الحكم ؟
" لابد أن تصادق على هذا الحُكم و يجب عليك أن تقتله , يمكننا فعل ذلك , و لكن أنت الذي يوثِّق و يُنفِّذ "
الآن فهمت , و سوف أشرح لكم :
"عيسى" المسيح كانت لديه مهمة تتلخص في "مشاركة" الرب مع الناس , حتى أن "بولس" الرسول كشف عن نواياه - بشكل خفي - في رسالته إلى أهل "غلاطية" , عندما تم التعرض لمسألة "الصلب" و ' لماذا صُلِبَ المسيح [ حسب تصورهم ] و ما السبب في طلب اليهود ذلك [ من الحاكم الروماني ] ؟ ' ؛ قال "بولس" : " الصلب هو مؤامرة سَقَط عندها اليهود " و شرح في رسالته و أخذ يبني دعواه حول ما خلاصته بأن " يسوع المسيح لُعِن من أجلنا , كي يرفع عنا لعنة التشريع الرباني "الناموس" و يحملها بدلاً منا" , و اقتبَس "بولس" من العهد القديم " مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ".
[ رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية [ 3 : 13 ] " اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ»." ]
فقرأت مرة أخرى العهد القديم و الشرائع اليهودية و أدركت بأن اللعنة تحل على الأشخاص الذين يُعاقبوا بالصلب , و لابد أن يقترف مَن يُحكَم عليه بالصلب عملاً خطيرًا و خرقًا فظيعًا , حتى يُجازَى بهذه العقوبة المستوجبة للعنة الرب.
لذلك فإنه حسب التشريع اليهودي , كل مصلوب ملعون , و يتعدى ذلك إلى طقوس الدفن , فالأرض التي يُدفن فيها المجرم المصلوب تعتبر أرضًا ملعونة أيضًا و لا يحق لك أن تفعل أي شيء حيال ذلك , فقد أصيب هؤلاء المجرمين بلعنة الرب , و هذا قانون عند اليهود و يسري عند دفنهم لهؤلاء "الملعونين" في مقابرهم سواء كانت في "اورشليم" القدس أو "اسرائيل" [دولة يهود] أو فلسطين.
عندها بدأت التقط الخيوط و أفكّر مليًا :
" هم - اليهود - ما أرادوا قتل عيسى المسيح فقط , إذ كان بميسورهم قتله , و لكن أرادوا نقض ما كان هو عليه"
ابتغوا نقض ما كان هذا الرجل عليه و ما يمثّله , قال أنا المسيح " Messaiah " , و لذلك إذا صُلِبَ فلا يمكن أن يكون المسيح , و حتى لو كان كذلك , فإن تطبيق عقوبة الصلب بحقة سوف يقضي على رسالته.
هذا هو السبب وراء اصرارهم على صلب المسيح , و لهذا خلّصه الله من هذا الأمر و رفعه اليه , لقد جاء عيسى المسيح لتطبيق القانون الرباني و قال ذلك " أرسِلت كي أطبق شريعة الرب" و من هذه الشرائع لعنة الرب على المصلوب , لذلك فقد طُلِب من الرب تخليصه من هذا الأمر و رفعه الله اليه.
لاحظت هذه الأمور , ثم طفقت أقرأ حتى وصلت إلى "سِفر أعمل الرسل" "Book of Acts" و بدأت أقرأ كتابات "بولس" الرسول.
هنا و جدت أن الأمور أنقلبت 180 درجة , على النقيض تمامًا , دعى المسيح إلى عبادة الرب و حث على تطبيق شريعة الرب و الاعتصام بوصاياه و التمسك بها و جاء "بولس" يدعو الى عبادة المسيح و نقض شرائع الرب و ترك وصاياه .
كتب بولس إلى أهل غلاطية :
" يا أهل غلاطية الأغبياء ! أمازلتم تتبعون هذا الناموس الملعون , جاء يسوع المسيح ملعونًا حتى يرفع عنا آلام هذه اللعنة"
فتساءلت فيما بيني و بين نفسي :
" ولكن المسيح قال في عدة أسفار قبل هذه الرسالة :
" فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا، يدعى أصغر في ملكوت السماوات" ؟ و ها هو "بولس" يلقي تعاليم "الجوسبل" و يدعو لخرق هذا القانون ! "
أنكرت هذا تمامًا و رفضه عقلي , و ذهبت مرة أخرى أسأل القس الذي قال لي :
" لقد وصلت لمرحلة متأخرة و بدأت تتشكك في العهد الجديد ! أنت تعاني من مشكلة حقيقية ! "
حتى أنه بدأ يظن بأنني مصاب بالتلبس الشيطاني و غير ذلك من الأمور!
في الواقع كنت أعاني من صراع نفسي كبير و أخذني صديقي إلى أستاذة في جامعة " بوب جونز" الذي يدرسه علم "نقد النصوص" , الذي قاله لي هذا "البروفيسور" دمر آخر حصون الإيمان بالنصرانية في نفسي , و مازلت سعيدًا جدًا أن أقول في محاضراتي حول العالم بأن :
"هناك بروفيسورًا نصرانيًا من جامعة "بوب جونز" كان السبب في تهاوي ايماني بالنصرانية".
الصليب المكسور : الإيمان يكمِّل و اليقين يجمِّل !
سألت هذا الأستاذ عن سبب هذا التناقض في الانجيل ؟ لِمه هذا الجمال و حسن النظم للغة العبرية في بعض مقاطع العهد القديم التوراة ( حتى ليخيل لك أنك تقرأ القرآن) و في المقابل هناك ركاكة فجة و تراكيب مفككة بنفس اللغة - و لكأن كتبها أحد الأطفال في سن الثالثة - في أجزاء أخرى تالية من التوراة مكتوبة بلغة عامية و لهجة مكسورة , فلابد أن الكاتب هنا يختلف عن ذاك الذي كتب الفصول الجميلة السابقة ؟ و سألته عن جميع الأمور التي اعترضتني و أثارت حيرتي.
قال لي :
" هذا الكتاب الذي تراه بين يديك , كتبه البشر عبر القرون المتعاقبة و الأزمنة المتتالية. هذا الكتاب بدأ أصيلاً , ثم نُسِخَ كثيرًا , و مع هذا النسخ تحصل الأخطاء , فهناك من كتب عبارة خاطئة , وجاء بعده من صححها و أضاف جملة خاطئة بدوره , هناك من أغفل سطرًا أو أخطأ في الترتيب ؛ بل هناك من نسخ الكتاب و أحضره لبلاده و عدّل فيه بما يتناسب مع التشريعات التي كانت يدرِّسها ؛ فتجده حذف كلمة هنا و شطب مقطعًا هناك و أضاف شيئًا آخر هنا حتى يتلائم ما في الكتاب مع التصور الديني الغالب على بلاده أو منطقته"
ثم أضاف :
" و الآن بعد كل هذه السنين , يقبع أمام ناظريك كتابٌ حوى بين دفتيه كل هذه الطبعات و النُسَخ التي تراكمت عبر الزمن ؛ كتابٌ تداولة أيدي جميع هؤلاء الرجال - و بقيت بصماتهم عليه - هؤلاء الذين تعاهدوا نسخه و كتابته. هذا هو كلُ ما لديك : كتاب غير كامل بل ناقص و يكمّله الإيمان و يسد خلله اليقين."
هذا هو ما قاله لي و لعلّي أقتبس بشكل أكثر تحديدًا :
" هذا كتاب يكمّله الإيمان , فلا يمكن تكميله عن طريق النص , هذا كتاب غير "كامل" أو خالي من العيوب من وجهة النظر المحصورة بالنص , بل بالإيمان وحده يكتمل , و من يؤمن به يكمل عيوبه و يسد نقائصة و يراه كاملاً"
ها قد عدنا مرة أخرى للإيمان !
قلت : "الرب وهبني العقل لسبب , و لو كان لا يريد لي استخدامه , لأقتطع هذا الجزء الخاص بالمنطق و التقصي من عقلي و أبدل محله المزيد من الإيمان"
"أنا لم أكن أحمقًا , جدتي لم تربيني كي أكون أحمقًا أو مغفلاً , لا يمكنني تصديق ذلك!"
" لقد علّموني أن هذه هي كلمة الرب المطلقة الصحيحة و أنت تقول بأن هذا الكتاب مليء بالأخطاء و يكمّله الإيمان !"
" هذا شبيه بالنظر لسيارة متهالكة من نوع "داتسون" طراز 1982 و القول 'إذا آمنت حقًا فهذه سوف تصبح "مرسيدس" ! إذا تحليت بالإيمان !'
هذا هراء , لا يمكن أن تأخذ سيارة لتاجر سيارات و تقول له ذلك !
"إذا آمنت بصدق و نظرت جيدًا , فهذه مرسيدس"
قلت له " هذا كتاب يعج بالأخطاء , و دين الرب كامل , لأنه إذا كان له دين فلا بد أن يكون كاملاً , و إذا كان له كتاب فلا بد أن يكون أيضًا كاملاً , لأنه هو الكامل المنزه عن العيوب و النقص"
و هكذا تركت النصرانية إلى غير رجعة.
هناك عدة مباديء رسخت في عقلي و ارتضتها نفسي :
أولاً : "الله واحد" و تعلمت هذا من قراءتي للانجيل.
ثانيًا : لا يمكن أن يكون هناك أحد يقف بيني و بين ربي , هو خلقني بلا واسطة أو إذن من أحدهم , لذا فلا أحتاج لواسطة كي أصل اليه أو لكي يغفر لي ذنوبي و يصفح عني , هو من سيقوم بهذا مباشرة لأنه هو من سيحاسبني مباشرة يوم القيامة.
لم أكن أعلم حينها عن الأنبياء الذين بعثهم الخالق , كما كانت لدي تحفظاتي و شكوكي , فبدأت البحث عن دين آخر.
المفضلات