محبة الأصدقاء:



ومنها محبة الأصدقاء ولا بد للإنسان من صديق يأنس به، ويلقي عليه بعض همومه، وقد خلق الإنسان ضعيفًا، حتى إنه لا يستطيع أن يكتم ما في صدره من فرح أو ترح، وهو على نفسه أشق من الأثقال الحسية، فإن هذه على جسمه وتلك على قلبه:

ولا بد من شكوى إلى ذي صداقة يسليك أو ينسيك أو يتوجـع

و لكن الشكوى من ندرة الأصدقاء المخلصين قديمة قدم الإنسان على الأرض ، حتى عد الناس
( الخل الوفي ) من المستحيلات :

و زهّدني في الناس معرفتي بهم وطول اختباري صاحبا بعد صاحب

فلم تُرِنِي الأيام خِلاًّ تسـرني مباديـه إلا سـاءني في العواقـب

إني لأفتح عيني حين أفتحهـا على كثير ولـكن لا أرى أحـدا


إلى غير ذلك وهو كثير. وسر ذلك أن الإنسان يطلب صديقًا لا يتغير بحال، ولا يتصف بعيب، يقدمك على نفسه، ويتحملك في كل ما تأتي به، كما قال قائلهم:

إن أخاك الصدق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك

ومن إذا ريب الزمان صدعك شتَّت فيك شمله ليجمعك


ومن الغريب أنه يوجب ذلك على صديقه له ولا يوجبه على نفسه لصديقه،ولكن إذا كانت الصداقة مبنية على تشاكل في الأرواح، وصادفت مع هذا استعدادًا حسنًا، كانت الأمنيةَ المطلوبة، والبغيةَ المرغوبة. وإذا تكمل إيمان المرء وجدت فيه كل ما تحب من صفات الخير وسجايا الفضل، حتى يقدمك على نفسه كما تحب، فإنه إذا وصل إلى درجة الكمال كان من الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.

ولا شيء يعلي الهمة ويعظم المروءة ويورث الرحمة ويغرس في القلوب المحبة مثل الإيمان الكامل. فإذا اشتاقت نفسك إلى ذلك الصديق فاطلبه بين المؤمنين، فعسى أن تجده فيهم، فهم مظان وجوده.

على أنه يلزمك أن تكتفي من صديقك بفضيلة من الفضائل، وتغتفر له في جانب ذلك ما يكون منه، فإن الحسنات يذهبن السيئات:

ولستَ بمستبْق أخا لا تلمه على شعَثٍ أيُّ الرجال المهذَّب

ولا تطلب أن يكون جامعًا لكل فضل، مبرأً من كل نقص (وإذا كان مَن هذه صفاته ممن يدخل في عالم الوجود فاجتهد أن تكون أنت ذلك الإنسان).

فالخلاصة: أنه يلزمك أن تعرف الطبائع البشرية ومقتضياتها، ولا تطلب ما ليس في طبع الإنسان، وأن تكتفي ممن يكون صديقك بجهة من جهات الخير، ثم تقبله بعد ذلك على ما فيه من عيب، وتتحرز منه في الجهة الأخرى (جهة الشر الذي فيه).

فإذا ظفرت بمن يغلب خيره على شره، فقد ظفرت بالخير كله.