أسباب المحبة




المحبة: مركوزة في النفوس، ولا نعيم للقلوب إلا بها، حتى إن من ليس له محبوب مخصوص تراه عند سماع الغناء أو هبوب النسيم يئنُّ أنينًا ويَحِنُّ حنينًا، وربما بكى تَلهفًا أو سرورًا إذا كان رفيع الاستعداد رقيق الفؤاد.

وهذا النعيم الذي يجده، وتلك اللذة التي يشعر بها، ليس منشؤها التذاذًا بالأصوات واستحسانًا للنغمات، بل من أجل أن ذلك حرَّك من نفسه ساكنًا وهيج كامنًا، وإن كان لا يدري إلى أي شيء يحن! أو لماذا يئن؟! ولكنه مقتضى الغريزة الإنسانية والحكمة الربانية. وليس بلازم أن نأتي على كل ما في الأمر من سِر. فيمكنك أن تهيج تلك الغريزة من نفسك، فإن أصل الحب التحابب. ولهذا نَدَبنا الدين الحنيف لكل ما عسى أن يكون وسيلة لذلك من زيارة بعضنا بعضًا، ومودة بعضنا بعضًا، وإهداء بعضنا بعضًا، ومصافحة بعضنا بعضًا، إلى غير ذلك مما جاء في السنة.

وقد قالوا: إن العشق في أول أمره يكون اختياريًّا ثم يصير اضطراريًّا؛ فهو بمنزلة الشراب تستطيع أن تشرب وألا تشرب، ولكن لا تستطيع بعدُ ألا تسكر، ولعلك عاينت من الأسباب التي استعملتها لتحبيب بعض القلوب إليك شيئًا كثيرًا.

وأما الأسباب الطبيعية للمحبة، فأقواها التناسب بين الأرواح، فإنها جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف كما في الحديث. وعلى قدر ذلك التناسب يكون الحب، وما حُشِرَ المرء مع من أحب إلا لكونهما من وادٍ واحد. ولهذا السبب قد تتعجب من محبة بعض الناس لبعض على غير معنى فيه، غافلا عن هذا التشاكل الرُّوحاني الذي هو أقوى الأسباب وإن كان أخفاها، وهو السبب الذي لا يلحقه زوال ولا يعتريه اضمحلال؛ وصاحبه هو المحبوب لذاته لا لعلة ولا غرض.

وأما من أحبك لإحسانك إليه -والإحسان من أسباب المحبة- فقد تتغير محبته إذا انقطع إحسانك عنه. وربما عاداك وأضرك إذا وجد في ذلك فائدة أكبر وثمرة أعظم متى كان خبيث الطبع لئيم النفس؛ لأنه ما أحبك إلا لغرضه، فهو مع الغرض حيث كان.

ومحبة الأزواج والأصحاب تارة تكون من قبيل المحبة التي للأغراض وقضاء المآرب وتبادل المنافع وكثرة الفوائد، وهي المحبة التي لا تدوم؛ وتارة تكون للمناسبة بين النفوس، فلا تزداد على مَرِّ الأيام وكثرة الحوادث إلا قوة ومتانة. وهذا مما ينبغي الالتفات إليه جدًّا فيما بين الزوجين حتى تكون بينهما ألفة طبيعية ومحبة ذاتية، فلا يتطرق إليها انصداع ولا يلحقها انقطاع، وإلا تعاملوا معاملة التجار اللئام، وذهبوا إلى المحاكم بعد قليل من الأيام.

ومما يلتحق بسبب التشاكل الذي شرحناه ما تراه من ميل الصانع إلى الصانع، والزارع إلى الزارع، حتى إن السارق يرتاح للسارق، والفاسق يرتاح إلى الفاسق، لما بينهما من الصفات المشتركة (شبيه الشيء منجذب إليه)، بل ذلك في غير أفراد الإنسان.

وقد قالوا: «إن الطيور على أشكالها تقع» وإن كثيرًا ما يفرِّق بينهما تنازع البقاء، فيوقعهم في الشحناء والبغضاء.

وأكثر الأسباب الواقعة بين الناس ما دعا إليه الغرض واقتضته الحاجة .

ولهذا لا تكاد ترى محبة صادقة؛ غاية الأمر أن صاحب النفس الشريفة لا ينسى ودًّا، ولا ينقض عهدًا، ولكنه كثيرًا ما يفعل ذلك بمقتضى إحساسه الشريف، ومروءته الفاضلة، لا بمقتضى الألفة والمحبة.

وأهل تلك المحبة التي غايتها المنفعة الشخصية أكثر المحبين توددًا إليك، وترددًا عليك، ومسارعة إلى امتثال أوامرك، ولو كلفتهم نقل الصخور أو نطل البحور، ما دامت إليك حاجاتهم ولديك غاياتهم، حتى يخيل لك في تلك الأيام أنك ظفرت بأعظم الناس نفعًا وأرقهم طبعًا، فإذا ظفروا بما أرادوه منك ولم يتوهموا لديك شيئًا يعود عليهم، طاروا من حولك طيران الذباب إلى من يبتغون عنده حاجتهم، حتى إذا نالوا منه بغيتهم فعلوا فعلتهم. فعلى من يريد اتخاذ الأصدقاء أن يبحث عن جوهر النفوس وما لها من الصفات الذاتية والاستعدادات الطبيعية، ولا يغتر بتلك الألوان البراقة التي يظهر بها الإنسان على حسب الحاجة، فإنه في ذلك أبرع من الحرباء وأروغ من الثعلب.

هذا ومن أسباب المحبة الجمال الظاهري أو الباطني، وبهذا السبب قد أحببنا الأزهار والأطيار، والصور الجميلة والنقوش البديعة، فإن الجمال لا يختص بنوع الإنسان أو جنس الحيوان، بل جمال كل شيء في أن يصل إلى كماله الذي يراد منه، وغايته الممكنة له؛ والجمال محبوب بالطبع لذاته؛ ولهذا السبب بعينه قد أحببنا الكرماء والفضلاء والعلماء. وإياك أن تكون ممن يقصر الحب على الجمال الحسي والحسن الظاهري، فتنكر محبة الله تعالى حبًّا وجدانيًّا ذوقيًّا، فتكون من العامة لا من الخاصة الذين فهموا قوله تعالى:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}[المائدة: ٥٤]. حق الفهم فلم يحتاجوا فيه إلى تجوز ولا تأويل.

على أن ذلك غريزة في الإنسان وإن كانت تحتاج إلى التهييج في بعض الناس الذين لم تفسد إنسانيتهم بالكلية. وإن الذي تجده من محبة العامة لعنترة وغيره من الشجعان، وتفاني بعض الناس في محبة العلماء والعظماء، وارتياح النفس والتذاذها بسماع أخبار سيدنا عمر بن الخطاب في عدله، أو سيدنا علي بن أبي طالب في شجاعته وعلمه وسرعة بديهته وقوة حجته؛ أو أخبار السموءَل في وفائه، أو حاتم الطائي في سخائه، ليس إلا بمقتضى تلك الغريزة التي تُفضِّل الجمال المعنوي على الجمال الحسي.

هذا وقد رأينا أن نسمعك بعض ما جاء في السنة مما يناسب هذا الموضوع، فنقول:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يرحم الناس لا يرحمه الله». رواه البخاري ومسلم. وعنه صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منَّا من لم يوقر الكبير، ويرحم الصغير، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر» رواه أحمد والترمذي .

وقال صلى الله عليه وسلم: «طوبى لمن تواضع في غير منقصة، وذلَّ في نفسه من غير مسألة، وأنفق مالا جَمعَه في غير معصية، ورحم أهل الذِّلة والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة». رواه الطبراني.

«لا تنزع الرحمة إلا من شقي». رواه أبو داود واللفظ له، والترمذي .

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لقي أخاه المسلم بما يحب ليسرَّه بذلك، سَرَّه الله عز وجل يوم القيامة» رواه الطبراني في الصغير بإسناد حسن.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تقبلون الصبيان وما نقبلهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك». رواه البخاري ومسلم.

«دخلت امرأة النار في هِرةٍ ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض» رواه البخاري.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «دنا رجل إلى بئر فنزل فشرب منها وعلى البئر كلب يلهث، فرحمه: فنزع أحد خفيه فسقاه، فشكر الله له فأدخله الجنة». رواه ابن حبان في صحيحه.

«من نفَّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة؛ ومن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة؛ والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» رواه مسلم.

«لا يستر عبدٌ عبدًا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة». رواه مسلم.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه: لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله».

ونظر ابن عمر يومًا إلى الكعبة فقال: «ما أعظمك وما أعظم حرمتك: والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك». رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليعمر بالقوم الديار ويثمر لهم الأموال، وما نظر إليهم منذ خلقهم بغضًا لهم. قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: بصلتهم أرحامهم» رواه الحاكم والطبراني بإسناد حسن.

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: «أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخصال من الخير: أوصاني ألا أنظر إلى من هو فوقي وأن أنظر إلى من هو دوني؛ وأوصاني بحب المساكين والدنو منهم؛ وأوصاني أن أصل رحمي وإن أدبرت؛ وأوصاني ألا أخاف في الله لومة لائم؛ وأوصاني أن أقول الحق وإن كان مُرًّا؛ وأوصاني أن أكثر من «لا حول ولا قوة إلا بالله» فإنها كنز من كنوز الجنة». رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه واللفظ له.

وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسنَ الناس أحسنَّا وإن أساء النَّاس أسأنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا ألا تظلموا» رواه الترمذي وقال: حديث حسن.

وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة: من البغي وقطيعة الرحم». رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك وتعالى: «وجبت محبتي للمتحابين فيَّ وللمتجالسين فيَّ وللمتزاورين فيَّ وللمتباذلين فيَّ». رواه مالك بإسناد صحيح.

وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الله في حاجة العبد ما دام في حاجة أخيه». رواه الطبراني.

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانًا؛ ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث». رواه مالك والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.

وعن أبي موسى أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «على كل مسلم صدقة. قيل: أرأيت إن لم يجد؟ قال: يعتمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق. قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف. قال: قيل له: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يأمر بالمعروف، أو الخير. قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشر فإنه له صدقة». رواه البخاري ومسلم.

و للحديث بقية .....

بقلم الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي
[/RIGHT]