ما رواه البخاري رحمه الله في كتاب الأحكام / الأمراء من قريش:
حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه بلغ معاوية
وهو عنده في وفد من قريش أن عبد الله بن عمرو يحدث أنه سيكون ملك من قحطان فغضب فقام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنه بلغني أن رجالا منكم يحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا توثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولئك جهالكم فإياكم والأماني التي تضل أهلها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين
شرحه الحافظ ابن حجر:
قوله ( كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث )
قال صالح جزرة الحافظ : لم يقل أحد في روايته عن الزهري عن محمد بن جبير , إلا ما وقع في رواية نعيم بن حماد عن عبد الله بن المبارك " يعني التي ذكرها البخاري عقب هذا " قال صالح : ولا أصل له من حديث ابن المبارك , وكانت عادة الزهري إذا لم يسمع الحديث يقول : كان فلان يحدث وتعقبه البيهقي بما أخرجه من طريق يعقوب بن سفيان عن حجاج بن أبي منيع الرصافي عن جده عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم , وأخرجه الحسن بن رشيق في فوائده من طريق عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة عن عقيل عن الزهري عن محمد بن جبير .
قوله ( أنه بلغ معاوية )
لم أقف على اسم الذي بلغه ذلك .
قوله ( وهم عنده )
أي محمد بن جبير ومن كان وفد معه على معاوية بالشام حينئذ , وكأن ذلك كان لما بويع بالخلافة عندما سلم له الحسن بن علي , فأرسل أهل المدينة جماعة منهم إليه ليبايعوه .
قوله ( في وفد من قريش )
لم أقف على أسمائهم ; قال ابن التين : وفد فلان على الأمير أي ورد رسولا , والوفد بالسكون جمع وافد كصحب وصاحب . قلت : ورويناه في " فوائد أبي يعلى الموصلي " قال : حدثنا يحيى بن معين حدثنا أبو اليمان عن شعيب فقال فيه عن محمد بن جبير أيضا , وكذا هو في مسند الشاميين للطبراني من رواية بشر بن شعيب عن أبيه .
قوله ( أن عبد الله بن عمرو )
أي ابن العاص .
قوله ( أنه يكون ملك من قحطان )
لم أقف على لفظ حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في ذلك وهل هو مرفوع أو موقوف , وقد مضى في الفتن قريبا من حديث أبي هريرة مرفوعا " لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه " أورده في باب " تغيير الزمان حتى تعبد الأوثان " وفي ذلك إشارة إلى أن ملك القحطاني يقع في آخر الزمان عند قبض أهل الإيمان ورجوع كثير ممن يبقى بعدهم إلى عباده الأوثان وهم المعبر عنهم بشرار الناس الذين تقوم عليهم الساعة كما تقدم تقريره هناك , وذكرت له هناك شاهدا من حديث ابن عمر , فإن كان حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا موافقا لحديث أبي هريرة فلا معنى لإنكاره أصلا , وإن كان لم يرفعه وكان فيه قدر زائد يشعر بأن خروج القحطاني يكون في أوائل الإسلام فمعاوية معذور في إنكار ذلك عليه , وقد ذكرت نبذة من أخبار القحطاني في شرح حديث أبي هريرة في الفتن . وقال ابن بطال : سبب إنكار معاوية أنه حمل حديث عبد الله بن عمرو على ظاهره , وقد يكون معناه أن قحطانيا يخرج في ناحية من النواحي فلا يعارض حديث معاوية , والمراد بالأمر في حديث معاوية الخلافة كذا قال , ونقل عن المهلب أنه يجوز أن يكون ملك يغلب على الناس من غير أن يكون خليفة , وإنما أنكر معاوية خشية أن يظن أحد أن الخلافة تجوز في غير قريش , فلما خطب بذلك دل على أن الحكم عندهم كذلك إذ لم ينقل أن أحدا منهم أنكر عليه . قلت : ولا يلزم من عدم إنكارهم صحة إنكار معاوية ما ذكره عبد الله بن عمرو , فقد قال ابن التين الذي أنكره معاوية في حديثه ما يقويه لقوله " ما أقاموا الدين " فربما كان فيهم من لا يقيمه فيتسلط القحطاني عليه وهو كلام مستقيم .
قوله ( فإنه بلغني أن رجالا منكم يحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر )
أي تنقل
( عن رسول الله صلى الله عليه وسلم )
في هذا الكلام أن معاوية كان يراعي خاطر عمرو بن العاص , فما آثر أن ينص على تسمية ولده بل نسب ذلك إلى رجال بطريق الإبهام , ومراده بذلك عبد الله بن عمرو ومن وقع منه التحديث بما يضاهي ذلك , وقوله " ليست في كتاب الله " أي القرآن , وهو كذلك فليس فيه تنصيص على أن شخصا بعينه أو بوصفه يتولى الملك في هذه الأمة المحمدية , وقوله " لا يؤثر " فيه تقوية , لأن عبد الله بن عمرو لم يرفع الحديث المذكور إذ لو رفعه لم يتم نفي معاوية أن ذلك لا يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولعل أبا هريرة لم يحدث بالحديث المذكور حينئذ فإنه كان يتوقى مثل ذلك كثيرا , وإنما يقع منه التحديث به في حالة دون حالة وحيث يأمن الإنكار عليه ويحتمل أن يكون مراد معاوية غير عبد الله بن عمرو فلا يكون ذلك نصا على أن عبد الله بن عمرو لم يرفعه .
قوله ( وأولئك جهالكم )
أي الذين يتحدثون بأمور من أمور الغيب لا يستندون فيها إلى الكتاب ولا السنة .
قوله ( فإياكم والأماني )
بالتشديد ويجوز التخفيف .
قوله ( التي تضل أهلها )
بضم أول " تضل " من الرباعي و " أهلها " بالنصب على المفعولية . وروي بفتح أول تضل ورفع أهلها " والأماني " جمع أمنية راجع إلى التمني , وسيأتي تفسيره في آخر " كتاب الأحكام " ومناسبة ذكر ذلك تحذير من يسمع من القحطانيين من التمسك بالخبر المذكور فتحدثه نفسه أن يكون هو القحطاني , وقد تكون له قوة وعشيرة فيطمع في الملك ويستند إلى هذا الحديث فيضل لمخالفته الحكم الشرعي في أن الأئمة من قريش .
قوله ( فإني سمعت )
لما أنكر وحذر أراد أن يبين مستنده في ذلك .
قوله ( إن هذا الأمر في قريش )
قد ذكرت شواهد هذا المتن في الباب الذي قبله .
قوله ( لا يعاديهم أحد إلا كبه الله في النار على وجهه )
أي لا ينازعهم أحد في الأمر إلا كان مقهورا في الدنيا معذبا في الآخرة .
قوله ( ما أقاموا الدين )
أي مدة إقامتهم أمور الدين , قيل يحتمل أن يكون مفهومه فإذا لم يقيموه لا يسمع لهم , وقيل يحتمل أن لا يقام عليهم وإن كان لا يجوز إبقاؤهم على ذلك ذكرهما ابن التين , ثم قال " وقد أجمعوا أنه أي الخليفة إذا دعا إلى كفر أو بدعة أنه يقام عليه واختلفوا إذا غصب الأموال وسفك الدماء وانتهك هل يقام عليه أو لا " انتهى . وما ادعاه من الإجماع على القيام فيما إذا دعا الخليفة إلى البدعة مردود , إلا إن حمل على بدعة تؤدي إلى صريح الكفر , وإلا فقد دعا المأمون والمعتصم والواثق إلى بدعة القول بخلق القرآن وعاقبوا العلماء من أجلها بالقتل والضرب والحبس وأنواع الإهانة ولم يقل أحد بوجوب الخروج عليهم بسبب ذلك , ودام الأمر بضع عشرة سنة حتى ولي المتوكل الخلافة فأبطل المحنة وأمر بإظهار السنة ؟ وما نقله من الاحتمال في قوله " ما أقاموا الدين " خلاف ما تدل عليه الأخبار الواردة في ذلك الدالة على العمل بمفهومه أو أنهم إذا لم يقيموا الدين يخرج الأمر عنهم . وقد ورد في حديث أبي بكر الصديق نظير ما وقع في حديث معاوية ذكره محمد بن إسحاق في " الكتاب الكبير " فذكر قصة سقيفة بني ساعدة وبيعة أبي بكر وفيها " فقال أبو بكر : وإن هذا الأمر في قريش ما أطاعوا الله واستقاموا على أمره " وقد جاءت الأحاديث التي أشرت إليها على ثلاثة أنحاء :
الأول وعيدهم باللعن إذا لم يحافظوا على المأمور به كما في الأحاديث التي ذكرتها في الباب الذي قبله حيث قال " الأمراء من قريش ما فعلوا ثلاثا : ما حكموا فعدلوا " الحديث وفيه " فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله " وليس في هذا ما يقتضي خروج الأمر عنهم .
الثاني وعيدهم بأن يسلط عليهم من يبالغ في أذيتهم , فعند أحمد وأبي يعلى من حديث ابن مسعود رفعه " يا معشر قريش إنكم أهل هذا الأمر ما لم تحدثوا , فإذا غيرتم بعث الله عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب " ورجاله ثقات , إلا أنه من رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عم أبيه عبد الله بن مسعود ولم يدركه , هذه رواية صالح بن كيسان عن عبيد الله , وخالفه حبيب بن أبي ثابت فرواه عن القاسم بن محمد بن عبد الرحمن عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي مسعود الأنصاري ولفظه " لا يزال هذا الأمر فيكم وأنتم ولاته " الحديث أخرجه أحمد وفي سماع عبيد الله من أبي مسعود نظر مبني على الخلاف في سنة وفاته وله شاهد من مرسل عطاء بن يسار أخرجه الشافعي والبيهقي من طريقه بسند صحيح إلى عطاء ولفظه " قال لقريش : أنتم أولى الناس بهذا الأمر ما كنتم على الحق , إلا أن تعدلوا عنه فتلحون كما تلحى هذه الجريدة " وليس في هذا أيضا تصريح بخروج الأمر عنه وإن كان فيه إشعار به .
الثالث الإذن في القيام عليهم وقتالهم والإيذان بخروج الأمر عنهم كما أخرجه الطيالسي والطبراني من حديث ثوبان رفعه " استقيموا لقريش ما استقاموا لكم , فإن لم يستقيموا فضعوا سيوفكم على عواتقكم فأبيدوا خضراءهم , فإن لم تفعلوا فكونوا زراعين أشقياء " ورجاله ثقات , إلا أن فيه انقطاعا لأن راويه سالم بن أبي الجعد لم يسمع من ثوبان . وله شاهد في الطبراني من حديث النعمان بن بشير بمعناه . وأخرج أحمد من حديث ذي مخبر بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الموحدة بعدهما راء وهو ابن أخي النجاشي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كان هذا الأمر في حمير فنزعه الله منهم وصيره في قريش وسيعود إليهم " وسنده جيد وهو شاهد قوي لحديث القحطاني , فإن حمير يرجع نسبها إلى قحطان , وبه يقوى أن مفهوم حديث معاوية ما أقاموا الدين أنهم إذا لم يقيموا الدين خرج الأمر عنهم , ويؤخذ من بقية الأحاديث أن خروجه عنهم إنما يقع بعد إيقاع ما هددوا به من اللعن أولا وهو الموجب للخذلان وفساد التدبير , وقد وقع ذلك في صدر الدولة العباسية , ثم التهديد بتسليط من يؤذيهم عليهم , ووجد ذلك في غلبة مواليهم بحيث صاروا معهم كالصبي المحجور عليه يقتنع بلذاته ويباشر الأمور غيره , ثم اشتد الخطب فغلب عليهم الديلم فضايقوهم في كل شيء حتى لم يبق للخليفة إلا الخطبة , واقتسم المتغلبون الممالك في جميع الأقاليم , ثم طرأ عليهم طائفة بعد طائفة حتى انتزع الأمر منهم في جميع الأقطار ولم يبق للخليفة إلا مجرد الاسم في بعض الأمصار .
قوله ( تابعه نعيم بن حماد عن ابن المبارك عن معمر عن الزهري عن محمد بن جبير ) يعني عن معاوية به , وقد رويناه موصولا في معجم الطبراني الكبير والأوسط قال حدثنا بكر بن سهل حدثنا نعيم بن حماد فذكره مثل رواية شعيب , إلا أنه قال بعد قوله فغضب " فقال سمعت " ولم يذكر ما قبل قوله سمعت , وقال في روايته " كب على وجهه " بضم الكاف مبنيا لما لم يسم فاعله , قال الطبراني في الأوسط : لم يروه عن معمر إلا ابن المبارك تفرد به نعيم وكذا أخرجه الذهلي في " الزهريات " عن نعيم وقال " كبه الله " .
المفضلات