مسألة الاحتجاج بالقـــدر

عقيدة الإيمان بالقدر لقيت كثيرًا من الاعتراضات ، و أثيرت حولها كثير من الشبهات ،

ومن المعلوم أن كثيرًا من الكافرين والمشركين الضالين والمقصرين في عبادة الله

والمنحرفين عن منهج الله ، قد وجدوا في القدر مجالاً للاحتجاج به على كفرهم

وفسادهم وتقصيرهم. ولذلك أوردنا الجواب على مسألة الاحتجاج بالقدر بأربع قواعد :

( القاعدة الأولى ) :

أن علم الله الأزلي محيط بكل شيء مما كان ومما سيكون ومما لم

يكن لو كان كيف يكون . والأمور تقع على مقتضى علمه الكامل ، لا يخرج شيء

عنه .

( القاعدة الثانية ) :

غنى الله الكامل عن العباد ؛ حيث لا تنفعه طاعة المطيع كما لا

تضره معصية العاصي . وغناه تعالى شامل ومطلق ، وهو يفيد في طمأنينة القلب عند

المؤمن في هذا الباب ، وأن الله تعالى ليس بحاجة إلى العباد حتى يجبرهم أو يعذبهم

بغير ذنب يستحقون العقاب عليه .

( القاعدة الثالثة ) :

وهي مبنية على القاعدة السابقة ، وهي أن الله تعالى لا يظلم ، وقد

حرم على نفسه الظلم ، ونفاه في كتابه ، إن الله لا يظلم الناس شيئاً


[ يونس : 44 ] ، وفي معنى هذه الآية آيات كثيرة تنفي عن الله تعالى ظلم العباد لا في

عقوباتهم في الدنيـا ولا في جزائهـم يوم القيامة .

وهذه قاعدة مهمة في باب الاحتجاج بالقدر ، فإذا توهم العبد أو وسوس له الشيطان

فليتذكر أن الله تعالى لا يظلمه مثقال ذرة ، حتى يطمئن قلبه.

( القاعدة الرابعة ) :

قيام الحجة على العباد ، وهذه مسألة ينبغي أن يدركها كل مسلم ،

ومقتضاها أن حجة الله قد قامت على عباده .

وقيام الحجة على العباد بأمور :

1. أن لا يكلف إلا البالغ العاقل ؛ فالصغير والمجنون قد رفع عنه القلم .

2. وجود الإرادة للعبد ؛ ففاقد الإرادة المكره لا يكلف ، وحصول هذه الإرادة للعبد مما

لا ينكره أي عاقل ، وبهذه الإرادة يختار بين الطاعة والمعصية .

3. القدرة ؛ فالعاجز عن فعل الشيء المطلوب لا يكلف ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ،

والله لم يكلف الناس ما لا يطيقون .

4. قيام الحجة الرسالية ، بإرسال الرسل وإنزال الكتب .

وبهذه الأمور نعلم أن الحجة قد قامت على العباد ، ولا تعارض بينها وبين القدر .


آثار الإيمان بالقدر

وللقدر آثار كبيرة على الفرد وعلى المجتمع نجملها فيما يلي :

1. القدر من أكبر الدواعي التي تدعو إلى العمــل والنشاط والسعي بما يرضي الله في

هذه الحياة ، والإيمان بالقدر من أقوى الحوافز للمؤمن لكي يعمل ويقدم على عظائم

الأمور بثبات وعزم ويقين .

2. ومن آثار الإيمان بالقدر أن يعرف الإنسان قدْر نفسه ، فلا يتكبر ولا يبطر ولا يتعالى

أبدًا ؛ لأنه عاجز عن معرفة المقدور ، ومستقبل ما هو حادث ، ومن ثمّ يقر الإنسان

بعجزه وحاجته إلى ربه تعالى دائمًا . وهذا من أسرار خفاء المقدور .

3. ومن آثار الإيمان بالقدر أنه يطرد القلق والضجر عند فوات المراد أو حصول مكروه

، لأن ذلك بقضاء الله تعالى الذي له ملك السموات والأرض وهو كائن لا محالة ،

فيصبر على ذلك ويحتسب الأجر ، وإلى هذا يشير الله تعالى بقوله : ( ما أصاب من

مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ذلك على الله يسير ،

لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور )
[

الحديد : 22 ، 23 ]

4. الإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تعصف بالمجتمعات وتزرع

الأحقـاد بين المؤمنين ، وذلك مثل رذيلة الحسد ، فالمؤمن لا يحسد الناس على ما آتاهم

الله من فضله ؛ لأنه هو الذي رزقهم وقدر لهم ذلك ، وهو يعلم أنه حين يحسد غيره

إنما يعترض

على المقدور . وهكذا فالمؤمن يسعى لعمل الخير ، ويحب للناس ما يحــب لنفسه ، فإن

وصل إلى ما يصبو إليه حمد الله وشكره على نعمه ، وإن لم يصل إلى شيء من ذلك

صبر ولم يجزع ، ولم يحقد على غيره ممن نال من الفضل ما لم ينله ؛ لأن الله هو الذي

يقسم الأرزاق .

5. والإيمان بالقدر يبعث في القلوب الشجاعة على مواجهة الشدائد ، ويقوي فيها

العزائم فتثبت في ساحات الجهاد ولا تخاف الموت ، لأنها توقن أن الآجال محدودة لا

تتقدم ولا تتأخر لحظة واحدة .

6. والإيمان بالقدر من أكبر العوامل التي تكون سببًا في استقامة المسلم وخاصة في

معاملته للآخرين ، فحين يقصر في حقه أحد أو يسيء إليه ، أو يرد إحسانه بالإساءة ،

أو ينال من عرضه بغير حق ، تجده يعفو ويصفح ؛ لأنه يعلم أن ذلك مقدر ، وهذا إنما

يحسن إذا كان في حق نفسه ، إما في حق الله فلا يجوز العفو ولا التعلل بالقدر ؛ لأن

القدر إنما يحتج به في المصائب لا في المعايب .

7. والإيمان بالقدر يغرس في نفس المؤمن حقائق الإيمان المتعددة ، فهو دائم

الاستعانة بالله ، يعتمد على الله ويتوكل عليه مع فعل الأسباب ، وهو أيضًا دائم الافتقار

إلى ربه – تعالى – يستمد منه العون على الثبات ، ويطلب منه المزيد ، وهو أيضًا كريم

يحب الإحسان إلى الآخرين ، فتجده يعطف عليهم .

8. ومن آثار الإيمان بالقدر أن الداعي إلى الله يصدع بدعوته ، ويجهر بها أمام

الكافرين والظالمين ، لا يخاف في الله لومة لائم ، يبين للناس حقيقة الإيمان ويوضح

لهم مقتضياته ، وواجباتهم تجاه ربهم – تبارك وتعالى - ، كما يبين لهم حقائق الكفر

والشرك والنفاق ويحذرهم منها ، ويكشف الباطل وزيفه .


المؤمن و القـــدر

إن المؤمن الصادق لا يذل إلا لله ، ولا يخضع إلا له ، ولا يخاف إلا منه ، وحين يكون

كذلك تجده يسلك الطريق المستقيم ، ويثبت عليه ، ويدعوا إليه ، ويصبر على ما يلقاه

في سبيل الدعوة من عداء المعتدين ، وحرب الظالمين ، ومكر الماكرين ، ولا يصده

شيء من ذلك ؛ لأن هؤلاء لا يملكون من أمر الحياة ولا أمر الأرزاق شيئًا ، وإذا كان

الأمر هكذا
فكيف يبقي في نفس المؤمن الداعية ذرة من خوف وهو يؤمن بقضاء الله وقدره ؟ !

فما قـدر سيكون ، وما لم يقدر لن يكون ، وهذا كله مرجعه إلى الله ، والعباد لا

يملكون من ذلك شيئًا .

قال العلامة الشيخ محمد السفاريني في منظومته :

أفعالنــا مخلـــــــــوقة لله
لكنها كسب لنا يا لا هـي

وكل ما يفعــله العبــــــاد
من طاعة أو ضدها مراد

لربنا من غير ما اضـطرار

منه لنا ، فافهم ولا تمـار


مقتبسه من كتاب : القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس فيه

تأليف د / عبد الرحمن بن صالح المحمود