واما التبرج
فقد نهى الشارع عنه نهيا عاما في جميع الحالات بادلة صريحة لا تقبل التأويل،﴿ والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح ان يضعن ثيابهن غير متبرجات ﴾ فالاية في مفهومها نهي عن التبرج مطلقا فان الله حين شرط عليهن في وضع الثياب التي سمح بوضعها ان لا يكن متبرجات فانه بذلك يكون قد نهاهن عن التبرج واذا كانت القواعد من النساء قد نهيت عن التبرج فان غير القواعد منهيات عن التبرج في الاية من باب أولى، فالاية دليل عل تحريم التبرج
﴿ولا يضربن بارجلهن ليعلم ما يخفين ﴾ فانه جل وعلا نهى في هذه الاية عن نوع من انواع التبرج وهو عمل حركة تجعل الخلاخيل تخرج صوتا فتظهر بذلك زينتها، فيكون نهى عن اظهار الزينة اي نهى عن التبرج ،وعن ابي موسى الاشعري قال قال رسول الله
(ايما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية ) اي هي كالزانية في الاثم، وعن ابي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صنفان من اهل النار لم ارهما بعد : نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رؤوسهن امثال اسنمة البخت لا يرين الجنة ولا يجدن ريحها (فهذه الادلة كلها صرحية في النهي عن التبرج ولذلك كان التبرج حراما في صريح النصوص من الكتاب والسنة.
اما ما هو واقع التبرج، هل هو الزينة ام هو شيء اكثر من الزينة،[COLOR="RoyalBlue"] والجواب على ذلك هو ان التبرج غير الزينة، فالزينة شيء والتبرج شيء اخر، ذلك ان الزينة للمرأة لم ينه الشارع عنها الا في حالة الحداد على الزوج،واما في غير هذه الحالة فانه لم يرد نهي عنها بل هي من المباحات، صحيح قد ورد نهي عن بعض انواع الزينة، فهو نهى خاص من انواع من الزينة لا عن الزينة كلها.
[/
COLOR]اما الزينة في حالة الحداد على الزوج فقد ورد النهي صريحا عنها، فعن ام عطية رضي الله عنها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث الا على زوج اربعة اشهر وعشرا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا الا ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيبا الا اذا طهرت نبذة من قسط او اظفار)
ولابي داود )ولا تختضب ( وللنسائي ) ولا تمتشط ( فهذا الحديث نهى عن الزينة في هذه الحالة، ومفهومه أن الزينة جائزة في غير هذه الحالة .واما النهي عن بعض انواع الزينة فقد وردت احاديث تنهى عن بعض انواع الزينة، فعن ابن عمر رضي الله عنه (ان النبي لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة)
فهذه الانواع من انواع الزينة التي نص عليها الشرع فهي حرام، واما ما عداها فانه مباح، وهي من قبيل النص على افراد معينة وهي غير معللة بعلة شرعية فيكون النص خاصا بها ولا يشمل غيرها .
وعلى هذا فالزينة بجميع أنواعها مباحة من طيب وكحل ووصل الشعر بشريط حرير وقص الشعر وترجيله واحمر الشفاه وأصباغ الوجه وغير ذلك لان الزينة مباحة اباحة مطلقة والزينة تحصل بأشياء والاصل في الأشياء الإباحة، فتكون الزينة مباحة باي شيء يتزين به الا ما ورد النص بتحريمه، لذلك فان آيات التبرج لا تنطبق على الزينة وليس المراد بها الزينة بل المراد هو شيء اخر غير الزينة وغير التزين.
فما هو التبرج؟
والجواب على ذلك ان القران عربي فتفسر الفاظه بلغة العرب الا اذا ورد لها معنى شرعي فتفسر حينئذ بالمعنى الشرعي، والتبرج لم يرد به معنى شرعي خاص به بل جاءت الادلة على معناه اللغوي ولذلك يفسر بالمعنى اللغوي، والتبرج لغة هو اظهار الزينة والمحاسن للاجانب، يقال تبرجت المرأة اظهرت زينتها ومحاسنها للاجانب.
وعلى ذلك فان التبرج ليس الزينة وانما هو اكثر من الزينة، هو ابداء الزينة وابداء المحاسن للاجانب وهذا هو المعنى اللغوي، وقد جاءت الادلة الناهية عن التبرج بهذا المعنى اللغوي، وناطقة به، فقوله تعالى ﴿ليعلم ما يخفين من زينتهن ﴾ وقوله عليه الصلاة والسلام ) ليجدوا من ريحها ( وقوله )(كاسيات عاريات ( وقوله(على رؤوسهن كأسنمة البخت ) وقوله ( مائلات مميلات) كلها معناها ابداء الزينة وابداء المحاسن ،فكلمة( ليجدوا) وكلمة(عاريات ) وكلمة(مائلات مميلات ) وكلمة (كأسنمة البخت )
كل ذلك وصف لابداء الزينة وابداء المحاسن كل ذلك وصف لابداء الزينة وابداء المحاسن فان قوله تعالى ﴿ولا يضربن بارجلهن ليلعلم ما يخفين من زينتهن ﴾
واضح فيه انه نهي عن ابداء الزينة، وقوله عليه السلام)ايما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها ( واضح فيه انه نهي عن الاستعطار ليجد الرجال ريحها اي نهي عن اظهار العطر اي عن ابداء الزينة، وفي حديث كاسيات عاريات واضح في قوله )كاسيات عاريات ( إبداء المحاسن، وفي قوله (مائلات مميلات) إظهارهن لزينة شعورهن بلف عمامة او عصبة او نحوها حتى تسير كسنام الناقة،فهذه الادلة كلها لا يفهم منها الا المعنى اللغوي الذي جاء للتبرج، ولا يفهم منها الا ان التبرج هو ابداء الزينة وابداء المحاسن للرجال الاجانب،فيكون هذا المعنى وحده هو الذي حرمه الشارع على المرأة وهو ليس الزينة والتزين وانما هو ابداء الزينة وابداء المحاسن للاجانب.
بقيت مسألة واحدة وهي من الذي يعين ان هذا زينة او تبرج،هل هو الشرع ام العرف ام الخبراء .
وبيان هذه المسألة هو ان هناك اشياء نص عليها الشارع بانها تبرج،فهذه لا شك انها تبرج وهي حرام بنص الشارع،ولكنها نظرا لان الدليل عليها دليل على افراد لا على معاني عامة، ونظرا لانها غير معللة بعلة شرعية ، لذلك تقتصر الحرمة عليها وحدها كافراد فلا تشمل غيرها، ولا يقاس عليها غيرها، وذلك مثل ما ورد في النصوص السابقة.
وهناك أشياء لم ينص عليها الشرع وهي موجودة في كل عصر،وتتحدد في كل عصر،فهذه الاشياء لا يلتمس لها دليل شرعي لان الامر ليس متعلقا بحكمها وانما هو متعلق بواقعها،فهي من قبيل وصف واقع الشيء وحقيقته، وهذا لا علاقة له بالدليل بل بمعرفة واقعه ماهو وكذلك لا تعرف حقيقتها من قبل العرف،لان العرف مجرد عادة شاعت فصارت عرفا عاما .فالتبرج ليس من هذا القبيل لانه ليس عادة اعتاد عليها بعض الناس ثم شاعت بينهم بل هو زينة معينة تتزين بها المرأة، فيراد تقديرها من حيث هي ومن حيث كيفيتها، ومن حيث وضعها،هل تعتبر تبرجا ام لا، فمن الذي يرجع اليه هذا التقدير، هذا هو واقع التبرج، بانه تقدير لزينة معينة، هل هي ابداء زينة وابداء محاسن،ام هي مجرد زينة.
فالموضوع في التبرج هو موضوع تقديري او بعبارة اخرى هو حقيقة اعتبارية، فليس هو شيئا اعتاد عليه الناس والفوه وشاع بينهم، ولا شيئا اصطلح على تسميته، لانه من قبيل الحقائق وليس من قبيل معاني الالفاظ والاصطلاح يكون على الألفاظ ومعانيها، وهذا ليس من هذا القبيل وانما هو تقدير لشيء معين من قبيل جهة معينة فيرجع هذا التقدير لتلك الجهة، فمن هي تلك الجهة ؟
ومن تدقيق واقع الأشياء التي تحتاج الى تقدير، ومن تتبع ذلك يتبين ان المجتمع هو الذي يرجع اليه هذا التقدير اي ان الناس في علاقاتهم التي تجعلهم مجتمعا هم الذين يرجع اليهم هذا التقدير، فان اختلفوا فحينئذ يرجع للخبراء في الموضوع .
فالزينة المعينة حتى تعرف هل هي تبرج ام لا يرجع تقديرها للناس في المجتمع،فان قدروها بانها من شأنها ان تلفت نظر الرجال الأجانب كانت من قبيل إبداء الزينة وإبداء المحاسن للاجانب فكانت تبرجا، وان قدروها انها زينة عادية لم تكن تبرجا.
فالتبرج هو زينة معينة جرى تقديرها من قبل المجتمع اي من قبل اناس بما بينهم من علاقات فيكون راجعا لتقدير المجتمع، وليس راجعا للشرع ولا للعرف ولا للاصطلاح بل لتقدير المجتمع، فهو كسائر الاشياء التي يرجع تقديرها للمجتمع .ومثله في ذلك مثل السعر والاجرة والمهر وما شاكل ذلك.
فالذي يقدر ثمن السلعة هو المجتمع، والذي يقدر اجرة الاجير هو المجتمع، والذي يقدر المهور هو المجتمع، وكذلك الزينة انما يقدرها المجتمع،وتبعا لكون المجتمع هو الذي يقدر الثمن والاجرة والمهر وما شاكل ذلك، فانه كذلك هو الذي يقدر الغلاء والرخص، والغبن الفاحش والربح الفاحش واجر المثل ومهر المثل وما شاكل ذلك فكذلك هو الذي يقدر التبرج .فالمجتمع هو الذي يقرر ثمن السلعة وبالتالي هو الذي يقرر كونها غالية ام رخيصة، وهو الذي يقرر كون البيع فيه غبن فاحش ام لا، وكون الصفقة فيها غبن فاحش ام لا .
والمجتمع هو الذي يقرر اجرة الاجير وبالتالي هو الذي يقرر كون الاجرة هي اجرة المثل ام لا،والمجتمع هو الذي يقدر المهور للنساء، وبالتالي هو الذي يقرر كون مهر المرأة هو الذي يقرر كون مهر المرأة الفلانية هو مهر المثل ام لا .
فكذلك المجتمع هو الذي يقرر الزينة بانها تبرج وليست تبرجا،لانه اي التبرج معنى اعتباري، اي حقيقة اعتبارية وليس حقيقة دائمة،وقد جرى وضع هذا المعنى او هذه الحقيقة في اصله هو المجتمع لذلك فان المجتمع هو الذي يحكم على هذه الحقيقة ما هي، وعليه فلكي يعرف الشيء بانه تبرج او ليس تبرجا يرجع فيه للمجتمع،فما يقرره المجتمع بشأنه يكون هو المعتبر.
هذه واحدة، اما الثانية فان المعاني الاعتبارية او الحقائق الاعتبارية يختلف واقعها باختلاف اعتبارها واعتبارها يختلف باختلاف المجتمعات، وباختلاف العصور، ويتفاوت افراد الشيء نفسه، لذلك يختلف التقدير لواقع الشيء، فقد يكون ثمن السلعة دينارا واحدا في عمان وثلاثة دنانير في بغداد وخمسة دنانير في الرياض . فاذا بيعت في عمان بدينارين كانت غالية وكان فيها غبن فاحش على المشترى وكان ربح الصفقة ربحا فاحشا في حين انها لو بيعت كذلك في الرياض لكانت رخيصة ولكان البائع مغبونا في البيع . فاختلف هنا تقدير السعر والغبن باختلاف البلدان .
وقد يكون مهر فتاة من اسرة عريقة وثرية الف دينار، ويكون مهر فتاة اخرى من اسرة فقيرة وضيعه مائة دينار وجرى عقد الزواج على الفتاتين في ان واحد دون ذكر المهر، فان القاضي يحكم لكل منهما بالمهر الذي يقدره المجتمع لها، لان المهر حقيقة اعتبارية تختلف باختلاف الاوضاع ويرجع فيه لتقدير المجتمع، وكذلك التبرج،فان كون الشيء تبرجا او لا يعتبر تبرجا يختلف باختلاف المجتمعات وباختلاف الاوضاع، وباختلاف العصور، ويختلف باختلاف درجة التزيين بالشيء نفسه فمثلا هناك الكحل تكتحل به المرأة فان هذا الكحل ان كان عاديا حسب ما اعتاد عليه اهل البلد يكون زينة ولا يكون تبرجا، وان كان بشكل غير عادي مما يلفت نظر الرجال الاجانب عادة في ذلك البلد فانه يكون تبرجا ، ومثلا هناك الملاءة التي تلبس فوق الثياب فقد كان شكلها وتفصيلها في بعض البلدان يعتبر تبرجا وفي بلدان أخرى يعتبر عاديا وكانت في بعض العصور تعتبر تبرجا ثم صارت عادية، وكان الكاب يعتبر تبرجا ثم صار عاديا، وكان الطقم يعتبر تبرجا ثم صار يعتبر عاديا وهكذا يختلف اعتبار الشيء من لباس وغيره زينة واعتباره تبرجا باختلاف الأشخاص واختلاف المجتمعات واختلاف العصور وتفاوت الشيء نفسه،ويرجع في كل ذلك اي في جميع هذه الحالات او غيرها للمجتمع وعليه فالشيء من زينة او لباس او غير ذلك حتى يعتبر تبرجا في المجتمع او عدم تبرج اي مجرد زينة او مجرد لباس يرجع فيه للناس في المجتمع . واذا اختلف الناس يرجع فيه لاهل الخبرة.
هذا هو موضوع التبرج فلا يصح ان يخلط بموضوع العورة ولا بموضوع لباس المرأة في الحياة العامة فقد تكون ساترة للعورة ومتبرجة،وقد تكون لابسة الثوب الواسع الذي امر به الشرع في الحياة العامة،وتكون متبرجة وقد تتبرج في بيتها او بيوت من تزورهم للفت نظر الرجال فالتبرج موضوع منفرد،فلا يصح ان يخلط بغيره او يدمج مع غيره بل يجب ان ينظر اليه كموضوع منفصل وقد حرمه الشارع تحريما عاما في جميع الحالات .
والله المستعان
المفضلات