المطلب الثاني: القيم الحضارية في: العقيدة، العبادة، الأخلاق:

يبدأ الدخول في الدين الإسلامي باستسلام مطلق للخالق، وإذعان تام لمشيئته وإرادته، وذلك عندما ينطق العبد بالشهادتين، ويصدق الجنان، ويطمئن القلب، وتؤدي الجوارح أركان الدين، فتكتمل بذلك العناصر التي يجب توفرها في أهل القبلة الموصوفين في القرآن الكريم بالإحسان والاستمساك بالعروة الوثقى فقال تعالى: }وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ{ (لقمان: 22)، والعقيدة والعبادة يمهدان الطريق أمام الفرد المسلم لاكتساب الأخلاق الفاضلة خُلُقاً بعد خُلُق ونبذ الأخلاق الرذيلة التي تُذْهِب الحسنات وتحلق الدين.

وتشكل العقيدة والعبادة والأخلاق مظان القيم الحضارية وقوالبها التي تندرج فيها، فما هذه المنظومة إلا شجرة باسقة الأغصان يحتوي كل فرع منها على قيمة حضارية فنجد اليقين في العقيدة، والإخلاص في العبادة، والمروءة في المُعامَلة، وفي ظل هذه العناصر الثلاثة تنمو بذرة القيم، وتشتد، وتستوي على سُوقِها، والقيم من ثمرات المجاهدة وآثار المرابطة، وعندما تفسد القيم الحضارية تبطل العقيدة وتذهب العبادة هباء منثورا وتنحط الأخلاق والمُعامَلة ويصبح العذاب مُتوقَّعاً، ولا فرق في ذلك بين اليهودي والوثني كما جاء في السنة: (. . . وعرضت علي النار، فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة لها، ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، ورأيت أبا ثمامة عمرو بن مالك يجر قصبه. . . ) [1]، وهذا المفهوم أحد وجهي تفسير قوله تعالى: }وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ { (هود: 117)، فقد قال بعض المفسرين: (أي: لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد، كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان، وقوم لوط باللواط، ودل هذا على أن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك، وإن كان عذاب الشرك في الآخرة أصعب) [2]، ومن حديث: (عائشة قالت قلت: يا رسول الله ! ابن جدعان، كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه ؟ قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) [3] ندرك أن التلازم بين العقيدة والقيم الحضارية ضرورة شرعية لتتحقق الثمار المنتظرة.


والعقيدة الإسلامية ـ في حد ذاتها ـ تعتبر نقطة تحول في حياة الأفراد والجماعات، فإن الإنسان الذي يقبل على الإسلام يجد قيما حضارية سامية ترتقي بفكره، وتسمو بروحه، ويكتشف أن العقيدة ـ في المفهوم الإسلامي ـ تزخر بجملة من القيم الحضارية التي تصوغ الحياة الفكرية والثقافية وتحفز إلى العطاء والإبداع، ويكسبه الإيمان بالغيب قيما حضارية كالصدق، والعدل، واليقين، والوفاء بالعهد، وإعمال العقل وإدراك قيمته، والإقرار بالفضل ورده لأهله، ولذلك فإن المرء يحرص بعد دخول الإسلام على تحسس قيمه الجاهلية والتمييز بين ما يوافق الإسلام وما لا يوافقه فقد جاء: (عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت يا رسول الله ! أمورا كنا نصنعها في الجاهلية، كنا نأتي الكهان، قال: فلا تأتوا الكهان. قال قلت: كنا نتطير. قال: ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه، فلا يصدنكم) [4].

وتطرد آثار التحول بعد أن يتخلل الإيمان القلب ويبلغ شغافه فتصبح القيم الحضارية الإسلامية نفائس يرجو المسلم خيرها ويدعو الناس إليها ويجاهد في سبيلها، وفي قوله تعالى: }وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ{ (غافر: 41، 42) نجد أن القرآن الكريم قد أكد التحول القوي الذي أحدثه الإيمان في مؤمن آل فرعون فأصبح من الداعين إلى القيم الحضارية، وجاء في الحديث ما يفسر هذه الرغبة ويبين علاقتها بالإيمان فقد روى ‏أنس ‏عن النبي ‏‏r ‏ ‏قال: (‏لا يؤمن ‏ ‏أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) [5].

وليست العبادة ـ البدنية أو المالية ـ في المفهوم الإسلامي مجرد كلمات أو حركات تؤدى والنفس كارهة دون خشوع القلب وحضور العقل؛ ولكن العبادة يجب أن تقوم على شكر المنعم، وحبه، والطمع في جنته والخوف من عذابه، فأيما عبادة لم يقصد بها وجه الله أو جاءت مخالفة لما ورد في كتاب الله وسنة رسوله r فإنها عبادة باطلة لا تهذب سلوكا ولا تبرئ ذمة، ولما كانت العبادة ذات أثر عظيم في تنمية القيم الحضارية الإسلامية وغرسها في نفس المسلم فقد أمر الله النبي r بأن تكون حياته كلها ذكرا وصلاة وتسبيحا: }وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ{ (الحجر: 99)، وللعبادة أثر عظيم في تقويم سلوك العابد وتهذيب أخلاقه وتزكية روحه قال تعالى في شأن الصلاة: }وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ{ (العنكبوت: 45)، وفي شأن الصوم: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{ (البقرة: 183)، وفي شأن الزكاة: }خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا{ (التوبة: 103)، ومن هنا يتبين أن فلسفة العبادة في الإسلام تقوم على غرس القيم الفاضلة ووقاية الفرد والمجتمع من القيم الباطلة.

وتأتي الأخلاق مكملة للمنظومة، ومتممة لمصادر القيم الحضارية، وثمرة للعقيدة والعبادة اللذين يغرسان الصفات في النفوس فينتج عنها آثار في السلوك محمودة أو مذمومة، والأخلاق الفاضلة هي الغاية التي يسعى المؤمن إلى نيلها والظفر بها، وهي أمر جبلي يكتسبه المرء من التنشئة ونوع التربية؛ ولكنها تنمو وتطرد بالاكتساب والتعلم والاغتراف من المصادر العلمية والتطبيقية، ونظرا لأهمية الأخلاق في الإسلام وصلتها بالقيم الحضارية وصعوبة حمل النفس عليها فقد أعظم الله أجر ذوي الأخلاق الرفيعة وأعلت السنة النبوية منزلتهم، فقال تعالى في مدح نبيه r واستنهاض همم أمته لتتبع نهجه: }وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ{ (القلم: 4)، وبينت السنة منزلة الأخلاق الحسنة فعن: (عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: لم يكن النبي r فاحشا ولا متفحشا، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقا) [6].

وبهذا يتبين أن العقيدة والعبادة والأخلاق تعتبر في الإسلام منظومة واحدة يعتضد كل واحد منها بالآخر في بناء القيم الحضارية الإسلامية وتنميتها والحفاظ عليها، وفي ظل هذه المنظومة يدرك المرء أهمية القيم وضرورتها الشرعية، ويعلم أنها عندما تنبثق من الدين فإنها تأخذ صفة الشمول فتندرج فيها القيم الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإعلامية والثقافية لتتلاءم مع الوحي الذي ما فرط الله فيه من شيء، ويجدر بنا أن نختم هذا المبحث بحديث من روائع كلم الرسول r أجمل فيه أثر القيم الحضارية في العبادة والأخلاق والعقيدة، والعلاقة بين هذه المفردات، وثمراتها في الدنيا والآخرة، فقال فيما روى (أبو مالك الأشعري قال: قال رسول r: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبايع نفسه، فمعتقها أو موبقها) [7].



[1] ـ أخرجه مسلم في الكسوف. باب ما عرض على النبي r في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار ـ ص 351.

[2] ـ الجامع لأحكام القرآن ـ القرطبي ـ ج 9 ص 114.

[3] ـ أخرجه مسلم في الإيمان. باب: الدليل على أن من مات على الكفر لا ينفعه عمل ص 115.

[4] ـ أخرجه مسلم في السلام. باب: تحريم الكهانة وإتيان الكهان ـ ص 916.

[5] ـ أخرجه البخاري في الإيمان باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه. ص 26.

[6] ـ أخرجه البخاري في المناقب. باب: صفة النبي rص 682.

[7] ـ أخرجه مسلم في الطهارة باب: فضل الوضوء ص 119.