وبالتالي فإنَّنا نَخْلص من ذلك إلى:
• أنَّ الكنيسة دخلَتْ عليها كثير من المفاسد فغيَّرتْها عمَّا كانت عليه بعد رَفْع عيسى - عليه السلام - منْها عوامل قهرية كالتَّعذيب الذي وقَع على النَّصارى من قِبَل اليهود والرومان، ومنها عوامل ذاتيَّة رغْبة في التَّحريف لمطامِعَ سياسيَّة؛ ممَّا يؤكِّد أنَّ النَّصرانية محرَّفة، ولا يدع مجالاً للشَّك، وبالتَّالي، فهي صنعة بشريَّة بحتة.

• أنَّ المجامع التي كانت تقام لم تكن تُبْطِل من الدَّعاوى الدَّخِيلة وتعود للأصْل، بل كانت مَجامع لفرْض الآراء الجديدة الَّتي لا يتَّفق أصحابُها عليها، وأخرجَتْهم شِيَعًا متفرِّقين متنافرين.

• أنَّ المجامع هي المشرع الحقيقي للنَّصرانية المحرَّفة؛ لأنَّها لم تكن تَقُوم على نصوص صحيحة ثابتة، بل هي أقوال من عند أنفسهم جعَلوا منها شِرْعةً ومنهاجًا، ثمَّ اعتمدوها في الكتاب المقدَّس الذي يَحتوي على العَهْدين؛ القديم والجديد، والذي يخصُّهم منه هو العهد الجديد، الذي عُرِف بـ "الأناجيل الأربعة" (متَّى، ومُرْقص، ولوقا، ويوحنَّا)، وكلُّها بطبيعة الحال محرَّفة.

قال - تعالى -: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 30 - 31].

وفي تحريفهم أيضًا يقول الغربيون من بَنِي جلدتهم: إنَّ فكْرة البُنوَّة مسْتقاة من الأفلاطونية[14]، وهذا مما يؤكِّد تأثُّرهم بالثقافات الدَّخيلة عليهم، وخلْطها مع الديانة النصرانية.

ويقول درابر الأمريكي في كتابه (الدِّين والعلم): دخلَت الوثَنيَّة والشِّرك في النَّصرانية بتأثير المنافقين الَّذين تقلَّدوا وظائف خطيرةً ومناصبَ عاليةً في الدَّولة الرُّومية بِتَظاهرهم بالنصرانية، ولم يكونوا يَحْفُلون بأمْر الدِّين، ولم يُخْلِصوا يومًا من الأيام[15].

وعقائد النصارى على اختلاف كنائسهم إجْمالاً أصْبحت تَقُوم على ثلاثة أُسس هي:
• التثليث.
• الصَّلب والفداء.
• مُحاسبة المَسِيح للنَّاس.


ولمَّا أدْخل على النَّصرانية ما ليس منها، وتَمَّ تَحريفها بشكْل كبير كما بيَّنَّا، أدْخلت فيها زيادات خرافيَّة، وجرأة على الذَّات الإلهية بأنْ نسَبوا إليها بنوَّة عيسى - عليه السلام - تعالى الله عمَّا يقولون، ولا زال التَّحريف الذي تجاوز الحدَّ يَطُولهم، ومنها أمورٌ أَلْزموها أنفسَهم ولم تُفْرَض عليهم؛ قال - تعالى -: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 27].

فلمَّا فرَضوا على أنفسهم ما لا طاقة لهم به وهي "الرَّهبانية"، انْحرفوا وضلُّوا واتَّبعوا شهواتهم؛ لأنَّهم خالفوا الفطْرة التي خلقهم الله - تعالى - عليها، فشاع في أكْثرِهم الفسادُ المستترُ الذي يَعْلمه كثير منهم، والذي ما لبث أنْ ظهَر وانكشف، وهو ما شكَّل صدْمة للملأ؛ إذْ إنَّ الرُّهْبان ينبغي أن يكونوا محلَّ قدْوة لأتْباعهم، وأبْعَدَ الناسِ عن الدنيا التي يَدْعون الناس للزُّهد فيها، فعلى الأقل كان ينبغي أن يكونوا أوَّلَ من يطبِّق هذه المفاهيم التي اخْترعوها من عنْد أنفسهم، لكنَّهم كانوا على العكس من ذلك، يَفْرِضون الأموال الطائلة على المجتمع باسْم الدِّين، بينما في الحقيقة كانوا يكدِّسونها لمصالحهم الذاتية، فكانت "الرهبانية" بمثابة السِّتار الذي يَحْجب عن الناس حقيقتهم وفسادهم من كافَّة النواحي.

ثم ما لبثوا أن اخترعوا ما يسمَّى بصكوك الغفْران! فهم لم يَكْتفوا باستِنْزاف أموال الناس لمصالحهم، ولكنِ استنْزفوا عقولَهم وحرَموهم أبسط الأمور المشْروعة وهي التقرُّب إلى ربِّهم بلا وسَائط، بغضِّ النَّظر عن فساد هذه العبادات، فهم قد اسْتغلوا هذا الجانب وأصْدر مَجْمع "لاتيران" سنة 1215 قرارًا بتمَلُّك الكنيسة حقَّ الغفران! زاعمين أنَّ عيسى - عليه السَّلام - قد قلَّد الكنيسة حقَّ الغفران[16]، وقد كان الغفران شفهيًّا، ثم ما لبثوا أَنِ اخترعوا بيع صكوك الغفران التي كانت تُعْطَى بلا مال؛ وذلك رغْبة في زيادة سلطانها، آخذين هذه الخرافة من الوثنيَّة التي كانت تنتشر فيها هذه الأفكار.

وبالطَّبْع انكشفت هذه الخدعة للعقلاء، ولم تنطلِ عليهم الحيلة كما انْطلَتْ على البُسطاء المخدوعين بقداسة البابا وقدْرته على مَحْو الذنوب، ولكنْ على الرغم من انكشافها لِكَثيرين فإنها ظلَّتْ في هذه المجتمعات الضالَّة فتْرة طويلة، زادَتْ من خلالها أرباح الرُّهبان وأعوانهم، لكنَّهم لم يُدْرِكوا أنَّ هذه الحيلة قد زَهَّدت الناس في الدِّين وإقبالهم عليه؛ إذْ سبَّبت لهم النُّفور من الدِّين بسبب تصرُّفات أهله واستخدامهم هذا المالِ للمُجون الذي انتشرَتْ أخباره في أوساط مجتمعهم.

ثم ما لَبِثت بعد ذلك أن اختَرَعت ما يسمَّى بـ "محاكم التفتيش"، وهي عبارة عن تَحْقيقات واستعلامات عن الإلْحاد، وتفنَّنتْ في تعذيب مَن يجدونه مُخالفًا لتعاليمهم في ساحات الأسواق، وأكْثريةُ المعذَّبين فقراء مَعْدومون لا حيلة لهم، فكانوا يُنْزِلون بهم أشدَّ العذاب؛ حرقًا بالنار حتَّى الموت في أبشع الصُّوَر الإنسانية.

كما أنَّ هذه المحاكِمَ الآثمة طالَت المسلمين وعذَّبتْهم بوحشيَّة في الأنْدلس وطردَتْهم نهائيًّا من إسبانيا؛ خوفًا من العلم الذي يَمْلكونه أن يؤثِّر في مجتمعهم الجاهل؛ فيَخرجوا من سَطْوة الإذعان الكامل للكنيسة، وكان الرُّهبان يَضِيقون ذرعًا بكل ما يتَّصل بالعِلْم ولا يَرَون إلاَّ رأْيَهم، ونَصَّبوا أنفسهم للحدِّ من العِلْم.

وكل هذه المظاهر الإجرامية البَشِعة من محاكم التفتيش أوجدَتْ في صدور الناس الغِلَّ والحنقَ على الكنيسة، كذلك وقفَت الكنيسةُ وراء الظُّلْم السياسي والاجتماعي والاقتصادي بالمساندة والذَّوْد عنه ومحاربة أيِّ حركة إصلاحية.

ومن هنا طَغَت الكنيسة على المجتمع طغيانًا كاملاً، بفعْل السطْوة التي فرَضَتْها والمنَعَة المالية التي حقَّقتْها؛ قال - تعالى -: ﴿ كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6 - 7].

قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - في تفْسير هذه الآية: يُخْبِر - تعالى - عن الإنسان أنه ذُو فرح وأشَرٍ وبطرٍ وطغْيان، إذا رأى نفْسه قد استغنى وكثر ماله[17].

وكان طغيانها شاملاً (للدِّين، والعقل، والمال، والسياسة، والعلم):
أ ‌- الطغيان الدِّيني "الرُّوحي":
يَزْعم الرهبان أنَّهم مُحاطُون بالأسرار والغموض التي لها صِلَة خفيَّة بالإله المعْبود، كأسرار التَّثْليث، والعَشَاء الربَّاني، وغيرها من عقائدهم المحرَّفة، فهم مختَلِفون عن بقيَّة البشر، يجب إرضاؤهم وعدم مخالفتهم، ويتصوَّر الناس أنَّ غضَبَهم كما لو أنَّهم أغْضبوا الربَّ، وكذلك رضاهم على السَّواء! حتى إنَّهم - كما تقدَّم - جعَلوا من أنفسهم وُسَطاء بينهم وبين الله! فأصبحت حياةُ الناس مقرونةً بالرُّهبان منذ ولادتهم حتَّى وفاتهم، فهم مَن يعمدهم، ومن يَشْفع لهم، ومن يصلِّي بهم، ولا يُقْبَل منهم عمل إلا بِهِم.

وهذا الحال في وجوب الطاعة والإذعان ينطبق على جميع فئاتهم بدءًا بالأبرشة، ثم الأسقف، ثم الكردينال، وصولاً إلى كبيرهم ورئيسهم جميعًا؛ فكان طغيانًا دينيًّا كاملاً.

ب - الطغيان العقلي والفكري:
إضافةً إلى ما سبق من الطغيان الدِّيني أو الروحي، فإنَّ الكنيسة مارست أيضًا الطغيان الفكري، بأنْ أمَرَت الناس بالأسْرار التي يَدَّعون معرفتها وحْدَهم دون غيرهم، دون مناقشة، واعتَبَرت المُنَاقش لها كافرًا ومُهَرطقًا، وجبَتْ عليه اللعنة الدائمة المؤبَّدة.

وبطبيعة الحال كانت تلك الأسرار محيِّرة للأذهان، يَستعصي على العقل فَهْمُها، فضلاً عن تقَبُّلها، كعقيدة التَّثليث التي يدَّعون معرفتهم بأسْرارها، بل ما حَمَلهم على هذا الصنيع - وهو قَمْع أتْباعهم وتكْفيرُهم عند مناقشتها - إلاَّ جهْلُهم بها في الحقيقة؛ لأنَّهم يَخْشون أن ينكشف إفلاسهم المعرفي بما يقولون، فيصدُّ الناس عنهم.

وهنا يتَّضح الفَرْق بين تعاليم ديننا ودينهم؛ فالإسْلام يَدْعو إلى التفَكُّر والتعقُّل والاحْتكام إلى الرسول إذا استعْصى عليهم أمْر، كما أنَّ الآيات المحْكَمات يعْلَمها عامَّةُ الناس، بينما المتشابهات لا يعلمها إلاَّ الرَّاسخون في العلم، وهم غير واحد، لا كما يدَّعي الرُّهْبان انحصارَهم في فئتهم دُون غيرهم، كما أنَّ علماء المسْلمين الرَّاسخين لا يدَّعون أنَّ لدَيْهم أسرارًا خاصَّة، فالحمد لله على نعمة الإسلام، المحفوظ من التحريف والدخائل.

ج - الطغيان المالي:
وقد تقدَّم هذا؛ إذْ كانت أمْلاكُهم تَزْداد يومًا بعد يوم بسبب استغفالهم لمجتمعهم، حتَّى في الوصايا والهِبَات التي كان يكتبها الناس قبل موتِهم فرضَت الكنيسةُ على الناس ألاَّ يَكْتبوا وصاياهم إلاَّ على يد قسِّيس، وإذا كُتِبت الوصية والقسيس حاضر كان لا بدَّ على الواهب من أن يُوصي بشيء للكنيسة؛ حتَّى لا يكون مُجافيًا للذَّوْق!

وقد أذَلَّت الكنيسةُ الناسَ باسْم الدِّين، ونهَبَت أموالهم أمام أعينهم وبأتْعابهم اليوميَّة.

د- الطغيان السياسي:
زعمت الكنيسة أنَّ المسيح - عليه السلام - قد أَعْطى قَيْصَر حِكْمة شرعيَّة الوجود، حين وُضِعت على لسانه هذه الكلمات: "إذًا أَعْطوا ما لقيصر لِقَيصر، وما للهِ لله".

يقول أ. محمد قطب[18]: وفسَّرتها عمَليًّا بترْك القانون الروماني يَحْكم العالَم المسيحيَّ بدلاً من شريعة الله.

والكنيسة - بِسُلطانِها الطاغي الذي تمارسه - لم تطالب أحدًا - بما فيهم الحكَّام - باتِّباع شريعة الله، على الرغم من أنَّها تَمْلك صلاحية فرْض الشَّريعة بما كانت تَمْلكه من سلطان طاغٍ على قلوب الناس، عامَّتِهم وحُكَّامِهم، بل أخضعَتْ سلطانَها فقط ليكون الناسُ رعايا لِهَواها وجبروتها لا أكثر.

فقد قَدَّمت العقيدةَ بلا تشريع مشوَّهة، وادَّعت أنَّه الدِّين الصحيح، وهي بذلك تكون أسْهَمت في السَّماح للرُّومان بحكْم العالَم النصراني، لا بالدِّين الذي أنزل، فظهَرَتْ ألوانُ الظلم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وفصَلَتْ بين الدِّين والسياسة، ومع مرور الوقت بدأ سلطانها في التَّداعي.

هـ - الطغيان العِلْمي:
وهو آخر الأمور التي يُتَكلْم عنها في تلك الحقْبة؛ إذْ إنَّه بدأ يتحرَّك في الغرْب النصراني بعد صمْت طويل؛ من الطُّغيان الدِّيني، والفكري، والمالي، والسياسي.

وهو أيضًا شَهِد ألوان الطُّغيان، بدءًا بمنْع مناقشة الأسرار المزعومة والتَّفكير فيها، وبَدأ الطغيان العلمي عندما قال العلماء بِكرويَّة الأرض، وأنْها ليست مرْكزَ الكون، فثارت ثائرةُ الكنيسة عليهم، وأحرَقَت البعْضَ وعذَّبَت الآخَر، وهدَّدت بالتعذيب والحرْق في النار إنْ لم يَكُفُّوا عن هذه "الهرطقة"، بحجَّة أنَّ التوراة قالت بأنَّ الأرض مسطَّحة، وهي مركز الكون.

ويَرى البعض أنَّهم أخذوها من نظريَّة "بطليموس" التي تَجْعل الأرض مركزَ الكون، وتقول: إنَّ الأجْرام السَّماوية جميعَها تَدُور حولَها، لكنَّ القسِّيس "كوبرنيق" جاء بنظريَّة خلاف نظريتهم وشرَحَ نظريته في كتاب "حركات الأَجْرام السماوية" وطبعها، فانْقلَبوا ضدَّه، وساقوه إلى مَحكمة التفتيش، لكنَّه مات قبل الوصول إليها، ومنَعَت الكنيسةُ تَداولَ هذا الكتاب، ووصفَتْ ما فيه بالوساوس الشيطانية[19].

وهذه الحادثة تُثْبِت لنا أنَّ الكنيسة - مع مَخاوِفِها من الحركة العِلْميَّة وما قد تؤدِّيه من فضْحٍ لحالها - تُصوِّر مدَى الجهل الذي كان قائمًا عليهم وعلى مجتمعهم، حتَّى إنْ تمَسَّكوا بخرافةٍ كتَبُوها أو حرَّفوها من قِبل أنفسهم، ولْنَقُل: إنَّ ذاك أقْصَى ما توصَّلوا إليه، لكنَّهم لم يكونوا يَمْلكون الاسْتعداد للتعلُّم ولا التَّشجيع عليه، بل الثورة ضدَّه، وهذا مُتَصادم مع الفطرة التي فَطَر الله الناس عليها، وهو العِلْم المقْرون مع الدِّين؛ قال - تعالى -: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5].

فقد شنَّعَت على مَن يريد العلم ووصفَتْ من طلبه بأنَّه خارج عن الدِّين، وفي ذلك أكبر جناية على العلْم، وجُنَّ جنونُها خشيةَ تأثُّرِ الطلاب المبْتَعثين بالعلم، ولا سيَّما العلم الذي كان لدَى المسْلمين، ويُقَدَّر عدَدُ من عاقبَتْهم المحاكم يبلغ ثلاثمائة ألْف، أُحْرِق منهم اثنان وثلاثون ألفًا أحياء، كان منهم العالِم الطبيعي المعروف "برونو" الذي نقمت الكنيسة من بعض آرائه التي أشدَّها قولُه بتعدُّد العوالم، وحكَمَت عليه بالقتْل، واقترحَتْ بألاَّ تُرَاق قَطْرةٌ من دمه، وكان ذلك بأن يُحرق حيًّا[20].

و"جاليليو" الذي توصَّل إلى صنْع المِنْظار الفلَكِي "التِّلسكوب" والذي أيَّد نظرية مَن سبَقه "كوبرنيق" وقال بِدَوران الأرض، فسِيق إلى محكمة التفتيش، وحَكَم عليه سبعةُ كرادلة بالسجن، وفرَضُوا عليه تلاوةَ مزامير النَّدم السَّبعة مرَّةً كلَّ أسبوع طوال ثلاث سنوات[21]، فأعْلن توبتَه عن قوله لَمَّا عَلِم بمصير مَن سبقه.

وبالتالي فإنَّ خلاصة هذا الفساد:
• أنَّ فساد رجال الكنيسة ناجِمٌ من التحريف الذي أدخلوه على الدِّين، وتَرْكِهم له وعدم العمل به.
• لَمَّا تعرَّضت قوانين رجال الكنيسة التي فرَضُوها على أنفسهم، والتي تخالف الفِطْرة، ظهَرَتْ ألوانُ الانْحراف فيهم، واستغلُّوا مكانتهم، فشرعوا قوانين تُرْضِي مطامعهم تحت قِناع القداسة؛ تلبيسًا وتضليلاً للعامَّة.
• أنَّ طغيانهم، شَمل جميع أوجه المجتمع (دينيًّا، وفكريًّا، وسياسيًّا، وماليًّا، وعِلميًّا).

ونتيجةً للطغيان الذي سبق من قِبَل الكنيسة على الجماهير، وخصوصًا في الجانب العلْمي، وما ترتَّب عليه من تعذيبٍ ومذابِحَ لمن حاول طَرْق باب العلْم، كلُّ ذلك وَلَّد في نفوسهم حقدًا وحنقًا على رجالات الكنيسة، وبخاصة العقلاء منهم، الذين يرَون تقَدُّم الأمم مِن حولهم، وهم قابعون في سُبَات الجهل، على الرغم من الحقائق التي تتبَدَّى لهم.


يتبع