الخطاب (17)


نيويورك فى 25 يناير 1962 (19 شعبان 1381)

عزيزى مولانا مودودى
السلام عليكم ورحمة الله

أشكرك على خطابك الدسم ثقافيا فى 16 ديسمبر ، والذى أجهدت فيه نفسك فى الرد على كل أسئلتى بشكل وافر .
منذ عدة أسابيع مضت ، حضر "ظفر الله خان" ليعطى محاضرة خاصة بمسجدنا هنا فى نيويورك . وقد كنت خططت لأحضر المحاضرة ولكنى تراجعت فى آخر لحظة ، فلم أستسغ لنفسى الحضور . كما لاشك أنك تعرف جيدا أن "ظفر الله خان" هو أحد القادة المرموقين فى الأحمدية . ومن بين الفرعين ، أعتقد أن فرع لاهور هو الخطر عن المجموعة الرئيسية فى "ربوة Rabwah" . القاديانيون يتكلمون بصراحة على أن "ميرزا غلام" هو نبى ، والمسلمون يرفضون ذلك ويعتبرونهم كفارا ، وأنهم بذلك قد خرجوا عن ملة الإسلام . وأحمدية لاهور تحاول أن تظهر بأنها متمسكة بالدين الحنيف ، ولكنها تعمل فى السر وبالمخادعة على نشر بدعها . على ما أظن فظفر الله خان ينتمى إلى المجموعة الأخيرة . وبالرغم من أنه يتظاهر بأنه متمسك بالإسلام الصحيح ، ولكن حقيقته ظهرت حينما رفض أن يشارك فى صلاة الجنازة ، كممثل رسمى للحكومة ، على جثمان "قايد عزام Qaid - e - Azam" وذلك لمجرد أن الإمام لم يكن قديانيا .
وفى مكتبة صغيرة بنيويرك متخصصة فى الكتب الشرقية وجدت بها كتب مطبوعة فى باكستان ، وقد عثرت على كتيب عن الحركة القديانية بقلم الشيخ محمد أشرف من لاهور بعنوان ( باسم قداسته : شرح صريح وجسور عن قداسة "ميرزا غلام أحمد" ومطالبته بالنبوة ) بقلم ( فيونكس Phoenix ) وبمقدمة جيدة جدا بقلم "ظفر على خان" . يلقى هذا الكتاب أضواء على دراسة حياة الميرزا لم أقرأ مثله باللغة الإنجليزية ، وهو يحتوى على كم غزير من المقتطفات من كتاباته . وبعد أن قرأت عن حياته ، تعجبت كيف يمكن لعلماء نابغين مثل محمد على بلاهور أن يتقبلوا إدعاءاته الغريبة ما لم يكونوا قد قرروا اتباعه لمكاسب شخصية ومادية . لقد صعقت حينما وجدت ميرزا غلام أحمد تنقصه الحساسية الأخلاقية ، ومستواه الذهنى متوسط . لا شك فنظرتى إلى ميرزا غلام أحمد على أنه معتوه . "ففى تخيلاته (وبتعبير أدق ، هلوساته) فهى تؤكد له أن الله فى السماء يضعه فى مرتبة عظيمة ، وأنه سبحانه يدخر له أعلى الأوسمة ، وأنه ملك الآريين . وأنه هو "جاى سنغ بهادور Jai Singh Bahadur ( اسم سيخ يعنى الأسد المنتصر ) وأنه اللورد كريشنا . ومريم هى أحد أسمائه وصفته أو بالأحرى صفتها ، تبقى كبيرة مع عيسى لمدة ليست أكثر من عشرة أشهر . ( مداخلة : الترجمة صحيحة ، ولكنى لم أفهم المعنى ) . ويعتبر مولد المسيح ليس غير ميرزا نفسه "ص 191 - 192" . أليس هذا دليل على جنون الرجل ؟؟؟ لا أعرف لماذا فشل أقاربه فى معرفة ذلك ووضعوه فى الحجز ؟؟؟ لو كان ميرزا غلام أحمد قد وضع فى مستشقى الأمراض العقلية ، لم تكن له فرصة لنشر هلوساته ، ولم تكن أنت قد سجنت أثناء اضطرابات البنجاب عام 1953 ، ولم يكن صدر ضدك حكم بالإعدام . لو كان ميرزا غلام أحمد ما زال على قيد الحياة الآن ، لكانت أوهام العظمة والإضطهاد شخصت فورا من العالم الطبى بأنها من نوع الشيزوفرانيا - وجنون العظمة . كل سطر من كتباته تدل على مرضه . وكما كتب "فيونكس" : " غلام أحمد ، النبى ، كان مصابا بهوس الإضطهاد بشكل شديد . إدعاءاته تتواكب مع شعوره بالإضطهاد . فكلما زاد شعوره بالإضطهاد كلما ارتفعت أوهامه محلقة . المجانين يثابرون على أوهامهم كلما زاد هياجهم . لو أن المجتمع المسلم كان قد تركه وحيدا ونبذ إدعاءاته كحماقه ، لم يكن مرضه هذا قد وصل إلأى هذا الحد كما حدث (صفحات 185 - 186) " . فى النهاية ، فقد رأى فى أحد أحلامه ، بأنه فى الحقيقة هو الله القادر كما استنكر على أؤلئكم الذين يرفضون زعمه على أنه زائف . لم أجد ترجمات باللغة الإنجليزية للمجموعة الضخمة من كتب ميرزا غلام أحمد الت كتبها ، غير كتاب واحد بعنوان "تعاليم الإسلام" . أعتقد أنهم مدركون تماما كيف أن الناس ستسخر من هذه السخافات التى تنشر على أنها كشوفات أو وحى . كما أعتقد أن كتبه وبالذات كتاب "حقيقة الوحى" ، يجب أن تترجم لللأوردو واللغة الإنجليزية ليس لنشرها على الجمهور ، ولكن لنشرها على عالم الطب . عالم حقيقة الوحى ، هو فى منتهى الأهمية لطلبة علم النفس الغير طبيعى . علماء النفس يمكن لهم إعتباره كوثيقة قيمة على الفصام (schizophrenia) ، تعطى لهم تدريبا مهنيا مباشرا كيف يعمل الذهن المصاب بجنون العظمة . وفي ضوء ذلك ، فالهدف من دراسه كتب ميرزا غلام أحمد قد تساعد البحث العلمي في الأمراض العقلية .
فى أحد الكتب التى أرسلتها لى فى الماضى ، شرحت كيف أن القوميين فى آسيا وإفريقيا يطبقون نفس نظم سادتهم الإستعماريين السابقين . والفرق الوحيد هو أن الأيدى قد تغيرت . لقد قتل مسلمون أبرياء نتيجة الفتنة التى قام بها غير المسلمين فى أليجاره ومدن أخرى بالهند ، وعرف ذلك فورا بالوطن . وكملحد ومؤمن عتيد بالإشتراكية ، فقد قام نهرو باتباع العقيدة المادية كأسياده السابقين . لم يتررد فى استخدام نفس طرق الإضطهاد التى كان يتبعها البريطانيين على رعاياه . إن لم يكن هو نفسه مذنبا بالتحريض على المذابح التى حدثت فى الهند ، فهو لم يفعل شيئا لوقفها ومعاقبة المسئولين عنها . فى القومية ذات الطابع الغربى ، فالأسس الموجهة لها هى كراهية الأقليات . من مبادئ القومية ، أن كل المواطنين يجب أن يكونوا من عنصر واحدا ولسانهم واحد ويسرى عليهم نفس القوانين ؛ لا يسمح بالإختلاف ، التشابه لابد أن يفرض بأى ثمن . وانتشرت هذه الأفكار فى كل أنحاء العالم بلا تدبر ، لقد شاهدنا هذا فى الإتحاد السوفيتى فى معاملة الدولة لغير الروس ، كما شاهدنا ذلك يحدث لليهود تحت حكم النازى ، وفى معاملة العرب بإسرائيل . والآن فهذه المأساة تحدث بالهند . أتعجب عما إذا كان نهرو قد تبنى نهج النازية والصهيونية فى معاملته للمسلمين بطردهم من ممتلكاتهم ، وتهجيرهم من بلادهم ، والأن يـُعـْمـِلُ فيهم القتل بأعداد كبيرة . وبمقارنة ذلك بالإسلام ، نجد العكس تماما ، فالإسلام يحمى الأقليات ويحمى حرية الإعتقاد للأديان والملل الأخرى ، ويسمح لهم بتطبيق ثقافتهم وقوانينهم دون إزعاج لهم .
تفسيرك لماذا الإسلام لا يبيح الصور كان منطقيا وواضحا جدا . فأن دائما أعتقد أن هناك علاقة حميمة بين الفن الجيد والإيمان . وبالنسبة لى ، فمسجد بن طولون بالقاهرة ، ومسجد قرطبة ، ومساجد استامبول وأشباه ذلك فى العالم الإسلامى ، وآيات القرآن الكريم التى تزين حوائطها ، والسجاجيد ، والنسيج ، والأوانى الفخارية ، والأعمل الزجاجية ، كلها تحمل تعابير ملموسة من القيم الإسلامية . ألم يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن الله جميل يحب الجمال ؟؟" . أيام انتعاش الحضارة الإسلامية ، لم يكن الفن يكنز بالمتاحف ، بل كان جزءا متكاملا حتى فى حياة المسلم البسيط . الفن لم يصبح الآن له مكان فى حياة الرجل الغربى . الملابس الغربية ، وحتى أحدث الأثاث ، هو من أكثر الأشياء إزعاجا رأيتها . مدعو "الموضوعية" أو "التجريد" فى الرسم ، صرعة أيامنا هذه ، يحاكون الصور الناتجة عن الإنفصام فى مستشفى الأمراض العقلية . ما تنطق به هذه الصور هو : "لا معتى للحياة ولا هدف . لا يوجد إله . كل شئ هو عبث وتافه" . لا أشك فى انحطاط الفن الحديث وتعلقه بما يسمى "فلسفة التغيير" . إذا استمر كل شئ على هذا المنوال ، فمن المنطق سيتبع ذلك عدم الإتزان فى أى شئ ؛ كل شئ سيصبح محددا بمكان واحد وزمن واحد ولن تكون هناك قيم ثابتة . الفن الراقى يجب أن يستند على الإيمان الضمنى فى مغراه الدائم وعلى الحقائق الجمالية . أعتقد أن الإنحراف فى الفن الحديث قد طال كل مجالات الثقافة الأخرى ، وذلك متفرع مباشرة من رفض القيم السامية . بدون مفهوم الحق المطلق ، ليس فى مقدور الإنسان تحقيق الفضيلة . كيف للمرء أن يحقق الكرامة والنبل فى الأخلاق إذا كان ما هو عزيز عليه اليوم ملغى غدا ؟؟؟
القليل الذى قرأته عن "شاه ولى الله" حيرنى كثيرا . من ناحية قرأت أن كثيرا من العلماء فى شبه القارة الهندية - الباكستانية يضعونه فى المرتبة الثانية بعد الإمام أبو حامد العزالى . ومن جهة أخرى يقال بأن رائعته "حجة الله البليغة" تغذى الإلهام للحركة الغربية الحديثة ، وذلك بحثه على سيادة العقلانية ، كما أنه يشجع على ترجمة القرآن الكريم للغات أجنبية ( لقد ترجم بنفسه القرآن الكريم إلى اللغة الفارسية ) ، كما أنه يرفض كل ما يسمى عناصر "عربية" عن الإسلام على أنها كانت صالحة فقط لوقت معين وزمن معين ، ولمجتمع بدائى أيام محمد "عليه الصلاة والسلام" ، كما يقال عنه أنه رفض أيضا المدارس الفقهية الأربعة المعروفة ، ويريد أن يؤسس فقها جديدا صالح لاحتياجات الهند . كما يتردد بأنه يذكر أن الأمور الروحية فى الكتاب والسنة هى فقط الملزمة أما بقية الأمور التى تغطى مظاهر الحياة الدنيا ، فهى تصلح فقط للعرب فى القرن السابع . والآن هذا الذى لم أستطع استيعابه : شاه ولى الله عاش قبل تسلط الإستعمار البريطانى . وبالنسبة للقليل الذى قرأته عنه ، كانت فلسفته تضع القواعد وتزود التبريرات لهؤلاء الذين يسمون المسلمون التبريريون "Apologetics" والذين أتوا بعده . هل هو الذى شكل أفكاره بشكل منفرد ، أم أن هناك تأثيرات خارجية عليه ؟؟؟ .. فى كتابه "الفكر الدينى" للسيد أحمد خان ، والذى نشر حديثا بواسطة معهد الثقافة الإسلامية بلاهور ، يقول بشير أحمد دار ، بأن السيد أحمد خان ، بصفة مستمرة كان يشير إلى مقتطفات من كلام شاه ولى الله مقرا بوجهات نظره .
تبريرات سير سيد أحمد خان ، بترت تعاليم الإسلام المتعارف عليها ، وكان لها تأثير حاد على "سيد أمير على" وكذلك مولانا "أبو الكلام آزاد" . حتى العلامة "إٌقبال" لم يهرب بالكلية من هذا التأثير ، والذى ظهر فى كتابه "تنقيح الفكر الدينى فى الإسلام" .
أعرف أن العلامة إقبال من أكبر الشعراء المسلمين فى القرن العشرين ، وقد ترجمت بعض أعماله للغة الإنجليزية ، وهى جد ملهمة ، ولكن ماذا بالضبط موقفه ؟؟؟ بعض العلماء يصرون على أنه كان من العصرانيين وندا لهم ، ولتدعيم هذا الرأى ، اقتبسوا بغزارة من كتابه "تنقيح الفكر الدينى فى الإسلام" ، والذى يحاول ترجمة العقيدة الإسلامية حسب المعايير المختلفة للفلاسفة الأوروبيين المعاصرين ، ويمدح بحماس التجارب الكيميائية بتركيا . بينما فى أشعاره باللغة الأوردية والفارسية ينتقد الثقافة الأوروبية ومؤسسيها بشدة قاسية ، ويعنف هؤلاء المسلمين الذين نبذو موروثاتهم وقلدوا الغرب . ليس شكا منى أو سخرية ، كيف يجب أن يكون المجدد ، فالعلامة إقبال يكتب فى المواضيع الإسلامية بالنقاء ونبل الشعور . وما لا أفهمه عنه ، هو لماذا هذا هو يتناقض مع نفسه فى مواضع كثيرة ؟؟؟ لا أعتقد أنه كان منافقا ؛ فنبرات صوته كانت شديدة الإخلاص فى هذا المجال . إذا ما هو تفسير ذلك ؟؟؟
كما أود أن تذكر لى شيئا عن مولانا "أبو الكلام آزاد" (1888-1958) ، حيث أنه يوجد فقط كتاب واحد عنه مترجم للغة الإنجليزية ، بقلم بروفيسير "همايون كبير Humayun Kabir" ، والذى عثرت عليه فى المكتبة العمومية بنيويورك ، لكنه ليس كافيا . كل ما أعرفه عنه أنه كان مكافحا للحرية مقرب من مهاتما غاندى ، ورئيسا لحزب المؤتمر لما يقرب من عقدين ، ثم بعد استقلال الهند ، وشغل منصب وزير التعليم حتى وفاته . كما أنى قرأت ايضا بانه كان عالما متمكنا فى النثر باللغة الاوردية ، وكتب تعليقات مثيرة للجدل عن القرآن الكريم . وللأسف ، لا شيء من كتاباته متوفرة في الترجمة الانكليزيه .
وسأكون ممتنة جدا لإلقاء الضوء على المواضيع التي أثيرت في هذه الرسالة .

أختك فى الإسلام
مريم جميلة



يتبع