ثانياً: عقوبة المرتد ومرجعتيها:
§ إن دخول الفرد الى الإسلام ثم خروجه منه يعتبر جريمة اسمها " الردة " ... وهي جريمة حرمها القرآن الكريم ولكنه لم يضع لها عقوبة دنيوية ... قال تعالى " وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ "البقرة 217
§ ولكن لماذا لم يضع الله للردة عقوبة في قرآنه ؟؟؟ الجواب: لأن الأحكام في الإسلام نوعان:
1. أحكام التبليغ: هي تلك الاحكام التي أوحى الله بها لنبيه محمد وأراد ان يبلغها للناس حرفيا مثل (الربا / شرب الخمر/ القصاص / القذف / البيع والشراء ...) ...
2. أحكام الامامة والسياسة الشرعية: وهى أمور وضع الله لنبيه الخط العريض لها ... واوحى اليه بالتصرف فيها ضمن هذا الخط وحسب ما يناسب مصلحة الأمة ... مثل توقيت اعلان الحرب على المعتدين والاستمرار فيها او التوقف عنها ... وعقوبة جريمة الردة هي من ضمن تلك الأحكام ... فالقاضي عندما يجدا فرداً من الناس يعلن ردته فله الحق (حسب ما يتناسب ويحقق مصلحة الأمة) أن يحبسه أو يتركه أو يفصله من عمله ... أو يحاوره في مدة طويلة او قصيرة ... بل ويعطيه الفرصة ليراجع نفسه لتزول عنه الشبهة فيتوب ... حتى ولو كانت توبته ظاهرية فللناس الظاهر والله يتولى السرائر ... وذلك كله بهدف درء العقوبة عنه ... وهكذا ... هذا اذا كانت الردة بدافع من القناعة الذاتية ... أما إذا كانت الردة بدافع من اعلان الحرابة والتمرد والحاق الضرر بالأمة أو العمل لحساب آخرين أو ما شابه ذلك فحينئذ يجب قتال مثل هؤلاء ...
§ ولكن ما الذي قاله الرسول في شأن المرتد ؟؟؟ ... لقد قال " من بدَّلَ دينَه فاقتُلوهُ " المحدث: الألباني المصدر: صحيح النسائي الصفحة أو الرقم: 4073... وقال أيضاً " لا يحل دم أمرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال ... زان محصن يرجم ... أو رجل قتل رجلا متعمدا فيقتل ... أو رجل يخرج من الإسلام يحارب الله عز وجل ورسوله فيقتل ... أو يصلب أو ينفى من الأرض " المحدث: الألباني | المصدر: صحيح النسائي الصفحة أو الرقم: 4059 ... وقال أيضاً " لا يَحِلُّ دمُ امرئٍ مسلمٍ، يشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأنِّي رسولُ اللهِ، إلا بإحدى ثلاثٍ: الثَّيِّبُ الزان ... والنَّفُسُ بالنَّفْسِ ... والتاركُ لدِينِهِ ... المفارِقُ للجماعةِ " المحدث: مسلم | المصدر: صحيح مسلم الصفحة أو الرقم: 1676 | خلاصة حكم المحدث: صحيح
§ ولذلك يفهم من نص حديث " من بدَّلَ دينَه فاقتُلوهُ " ... أنه نص مُجْمَل ... يُحْمَل (أي نرجعه) على النصوص المفسرة له في حديث " رجل يخرج من الإسلام يحارب الله عز وجل ورسوله فيُقتل ... أو يصلب أو ينفى من الأرض " ... بمعنى إذا خرج رجل من الإسلام وحارب الله عز وجل ورسوله فيُقتل ... أي إذا بدل دينه فقاتلكم فاقتلوه ... وحديث ... " والتاركُ لدِينِهِ ... المفارِقُ للجماعةِ " ... أي من ترك الإسلام وعمل على تفريق وهدم دولة المسلمين فيجب قتله لحماية الدولة ومواطنيها ... ولكن هذا القرار يرجع للقاضي الذي يصدر حكمه بذلك ... ليقوم بتنفيذه ولي الأمر الشرعي وليس غيره ...
§ إذن فالقتل لمن يخرج من الامة الاسلامية وينضم الى اعدائها ويقاتل المسلمين أو يلحق بهم ضرراً ... أي يرتكب جريمة يسمونها حديثاً جريمة الخيانة العظمى والخروج والتمرد على نظام الدولة والثورة المضادة وما شابه ذلك ... وهي جرائم جميعها عقوبتها عالمياً الإعدام ...
§ فإذا كتم المرتد ردته بعد ايمانه في نفسه فهي مسألة لن يعلم بها أحد بالطبع ... أما إذا جاهر بها وكانت ردته ردة سلمية وشخصية فردته لنفسه ولا يقتل ... ولكنه يعاقب عقوبة تعزيرية يقدرها القاضي بحسب الظروف والاحوال وحسبما يقتضى الأمر ذلك ... هذا طالما لم يُحدث فتنه ... أما إذا أحدث فتنه فيعزر على قدر الفتنة ... وإذا ارتد ولم يقاتل ولكنه دعي الى دينه الجديد فهذا يعاقب عقوبة تعزيرية ... لأنه يخالف النظام العام بالدولة الاسلامية وحتى لا يفتن المسلمين في دينهم لأن ... " وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ " البقرة 191
§ ومن الإنصاف أن نعلم أنه وعلى مدار ألف سنة الأخيرة منذ دخول الإسلام في مصر وكانت في أيام قوة المسلمين في العالم ... لم تحكم أي محكمة في مصر تطبق الشريعة بقتل من ترك الإسلام وذهب الى ديانة أخرى ...
ثالثاً: الرد على تباكى الناقد على المرتدين الذين حاربهم ابو بكر الصديق رضى الله عنه واعتبرهم مظلومين معتدى عليهم فقال: أين حرية العقيدة والدين ؟؟؟ إنها وصمة عار أن يُقتل الذي يرى في الإسلام غير ما يرونه ... ألم يلطخ أبو بكر الصدّيق يديه بدماء ألوف المرتدّين ؟؟؟
§ إن أبا بكر الصديق ومن حاربهم من المرتدين المعتدين ... ينامون الآن تحت التراب منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان ... فلقد حارب أبو بكر الصديق آنذاك المرتدين المعتدين على الدولة التي كانت وليدة في مهدها ... والتي تأسست على المبادئ التي حددتها آخر رسالة من السماء لأهل الأرض ... أما المرتدون فقد حاربوا هذه الدولة لأهداف دنيوية وقتية (وكما سنفصل لاحقاً) ... فماذا كان حصاد ذلك كله حالياً ؟؟؟ وأي مبادئ الفريقين المتحاربين عاشت واستمرت وانتشرت بل ورسخ الدهر بقائها ؟؟؟ وهل يرتد المسلمون اليوم كما أرتد من ارتد بالأمس ؟؟؟
§ لقد امتدت رقعة دولة الإسلام الوليدة هذه في غضون بضع عشرات من السنين من وفاة أبى بكر الصديق من الصين شرقاً الى باريس غرباً ... وحالياً يؤمن بالمبادئ التي دافع عنها أبو بكر ما يقرب من ربع سكان كوكب الأرض ... بل والإسلام هو أسرع الأديان انتشاراً حالياً في البلاد الصليبية (أي في أوربا وأمريكا) ... http://www.ebnmaryam.com/vb/t20719.html
§ ولذلك رحم الله أمير الشعراء فقد قال: الحربُ في حقٍ لديك شريعة ... ومن السمومِ الناقعاتِ دواءُ
§ لقد قاتل أبو بكر المرتدين المعتدين لأنهم ارتدوا بصفة جماعية لإحداث فتنة والانقضاض على الدولة الإسلامية ... واعلنوا ذلك قبل اعلانهم عن ردتهم عن الإسلام ... بمعنى أنهم اعلنوا الخروج على المسلمين والحرب عليهم قبل أن يعلنوا عن المعتقد الجديد الذى يمارسونه ... فكانت ردتهم غطاء للعمل الحربى الذى أعلنوه ... إذن فالأمر هنا ليس حرية اختيار لمعتقد ولكن كان قتالهم دفاعي لوقف الفتنة وليس قتال ردة ... ولو لم يفعل أبو بكر ذلك لانتهت الدولة الإسلامية في مهدها ... ولكن لم يحدث ذلك القتال مع افراداً دخلوا الإسلام ثم خرجوا منه واختاروا غير الإسلام ديناً ... ولم يقتل أحد منهم بوصف الردة ...
§ إن أسباب حدوث الرِّدَّة تتمثل في جهل بعض العرب بحقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم وحقيقة الرسالة ... إذ دخل أعداد كبيرة من العرب في العامين الأخيرين من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم انبهاراً بسيطرة المسلمين على الجزيرة العربية ... فمنهم من جاء رغباً في المال ... ومنهم من جاء رهباً من قوة المسلمين ... ومنهم من جاء لا رغباً ولا رهباً ... ولكن اتباعاً لزعمائهم وقادتهم ... ولذلك لم يأخذوا الفرصة الكاملة والوقت المناسب لفقه حقيقة الإيمان ... فدخلوا في الإسلام ولما يفقهوا حقيقته بعد ...
§ وبجانب عدم التعمق في فهم الإسلام ... كانت هناك العصبية القبلية التي حاربها الإسلام الذى دعا لتكوين أسرة واحدة هي أسرة الإسلام ... ولكن كانت هذه العصبية تتجدد من حين لآخر، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم عدواً للعصبية يهجم عليها بعنف كلما ظهرت ... ومع ذلك لم تمت العصبية ... بل ظلت تظهر كلما أتيحت لها فرصة ... وكان كثيرون من العرب يرون في الإسلام وسيلة فرضت عليهم سلطان قريش ... فلما مات الرسول صلى الله عليه وسلم ... وتوهم للعرب أن قريشا أخذت السلطة ولن تدعها ... قويت حركات التمرد واشتدت ... فظهر في كثير من القبائل من ادعى النبوة وأيده قومه باسم العصبية ... مع أنه كان واضحا لهم كذبه وبهتانه ... وهناك فريق ثالث أساء تأويل بعض آيات القرآن وبخاصة تلك المرتبطة بالزكاة أو أساء فهمها ... فضل واتبع طريقا غير طريق المسلمين.
§ ولما مات الرسول صلى الله عليه وسلم اعتقد البعض أن الدولة الإسلامية انهارت بموت من أسَّسَها كما تنهار الكثير من الأعمال المعتمدة على شخص بعينه إذا غاب هذه الشخص ... ولم تكن المشكلة في هذا الاعتقاد في عوامِّ الأعراب فقط ... ولكن كانت أيضًا في زعمائهم ... فالقبائل العربية ما تعودَّتْ مطلقًا على القيادة الجماعية ... بل كان كل زعيم قبيلة زعيماً في مكانه وقبيلته، يأمر فيُطَاع، ويُشير فلا رادَّ لكلمته، وفجأة ضاعت زعاماتهم، وذابت في الدولة الإسلامية، ولم يقبل غالبهم بذلك ... فلما مات رسول صلى الله عليه وسلم بحث كل منهم عن زعامته المفقودة ... وباعت الأعراب كل شيء في سبيل القبيلة ... ومن ثَمَّ كانت القبليَّة هي القناع الذي وقف وراءه أعداء الإسلام في ذلك الوقت لحرب الإسلام ذاته ... ودليل ذلك أن المرتدِّين قتلوا المسلمين في قبائلهم نفسها ...
§ وما إن علمت الجزيرة العربية بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ارتدت !!! ولم يبقَ على الإسلام إلا المدينة المنورة ومكة والطائف وقرية جُواثَى بالبحرين ... ولكنَّ الله عز وجل مَنَّ على هذه الأمة بالصِّدِّيق أبي بكر رضى الله عنه ... الذي استطاع أن يقمع فتنة المتمردين والانفصالين المعتدين ...
§ ويقول د. هاشم عبد الراضي: "ومما هو جدير بالذكر أن حركة الردة جاءت على ثلاث صور ... الأولى الذين ادعوا النبوة ومن أشهر هؤلاء مسيلمة الحنفي الكذَّاب، والأسود العنسي ... والثانية: المرتدون أي: الذين تركوا الإسلام وعادوا لأديان الجاهلية إلى عبادة الأصنام ... والثالثة: مانعو الزكاة، وهم الذين توقفوا عن دفع الزكاة، وهذه الأسماء وإن كانت مختلفة، إلا أنها يجمعها جميعا هدف واحد، وهو التمرد والعداوة للإسلام، ومحاولة القضاء على نفوذه ...
§ إن دوافع الردة كانت عصبية قبلية متمكنة من نفوس غضة الدين هشة الإيمان تعودت الاستقلالية وعدم الخضوع لسلطة مركزية وحكومة عادلة ... فليس الأمر إذن أمر كفاح من أجل نيل حرية سلبت أو كرامة اغتصبت ... فلم تكن الحكومة الإسلامية زمن النبي صلى الله عليه وسلم سلطة احتلال واستعمار جاثمة على صدور البلاد ... والعباد يتحينون الفرصة لنيل حريتهم من استعبادها لهم ويضحون في سبيربهم ابو بكر الصديق رضى الله عنه واعتبرهم مظلومين معتدى عليهم فقال: أين حرية العقيدة والدين ؟؟؟ إنها وصمة عار أن يُقتل الذي يرى في الإسلام غير ما يرونه ... ألم يلطخ أبو بكر الصدّيق يديه بدماء ألوف المرتدّين ؟؟؟
§ إن أبا بكر الصديق ومن حاربهم من المرتدين المعتدين ... ينامون الآن تحت التراب منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان ... فلقد حارب أبو بكر الصديق آنذاك المرتدين المعتدين على الدولة التي كانت وليدة في مهدها ... والتي تأسست على المبادئ التي حددتها آخر رسالة من السماء لأهل الأرض ... أما المرتدون فقد حاربوا هذه الدولة لأهداف دنيوية وقتية (وكما سنفصل لاحقاً) ... فماذا كان حصاد ذلك كله حالياً ؟؟؟ وأي مبادئ الفريقين المتحاربين عاشت واستمرت وانتشرت بل ورسخ الدهر بقائها ؟؟؟ وهل يرتد المسلمون اليوم كما أرتد من ارتد بالأمس ؟؟؟
§ لقد امتدت رقعة دولة الإسلام الوليدة هذه
ل ذلك.
§ ولذلك لم تكن حركة الردة محاولة للحصول على الحرية ... فالإسلام لم يجبر أحداً على اعتناقه ... قال تعالى: " لا إكراه في الدين " البقرة 256 ... وقال تعالى: " )فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر( الكهف 29... هذا ولم يقيد الإسلام حرية أحد حتى يبحث عن حريته وينتهز الفرصة للحصول عليها ... ولذلك فقد كانت هذه الحركات لها دوافع أخرى كما ذكرنا ... وكلها تمثلت في الخروج المسلح والاعتداء على الدولة والطعن في الإسلام ... وهو ما يعد خيانة عظمى تستوجب العقوبة ... فدولة المسلمين حينئذ كانت دولة عقيدة بالأساس أقامت ملكاً دنيويا لتمكين نشر رسالة السماء الأخيرة للأرض ... فكل خطر على هذه الدولة وكيانها فيه زعزعة لسلطان الدين وتفريق لكلمة أهله ...
§ ومن الجدير بالذكر أن أهل الردة من مانعي الزكاة كانوا هم البادئين بالعدوان على المدينة ... وأيضاً تم العدوان وقتل المسلمين الذين ظلوا على إسلامهم من قبائلهم المرتدة ... هذا فضلا عن الامتناع المسلح عن طاعة الخليفة ... ولذلك فهم يعدون في التشريع الإسلامي بغاة ... أي الجماعة التي تنصب القتال لولي الأمر ... وقد قال بعض علمائنا: إن من جحد شيئا مما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعي إليه فامتنع ونصب القتال يجب قتاله وقتله إذا أصر للحفاظ على أمن وسلامة الدولة ومواطنيها وممتلكاتها ... وإن أبا بكر رضي الله عنه إنما قاتلهم ولم يعذرهم بالجهل ... لأنهم نصبوا القتال فجهز إليهم من دعاهم إلى الرجوع ... فلما أصروا قاتلهم ... وفي زماننا المعاصر يعد الخروج على سلطان الدولة خرقا لدستورها وتهديدا للنظام الذي قامت عليه ... ويستوجب ذلك أقصى واشد العقاب ؟؟؟
§ وهذا يعني أنَّ حُرُوْبُ الرِّدَّة لا يعدو كونها إلا مُجرَّد حملات شنَّها المُسلمون على حركاتٌ سياسيَّةٍ انفصاليَّة وعدوانية مسلحة على دولة المدينة المُنوَّرة التي أسَّسها الرسول مُحمَّد ... وعلى قُريش التي تسلَّمت زعامة هذه الدولة بِمُبايعة أبي بكرٍ الصدِّيقبِخلافة المُسلمين ... فضلاً على قتل المسلمين داخل القبائل المرتدة ... هذا وكانت تلك الحركات الانفصالية تسعى للعودةٌ إلى نظام العصبيَّات القبليَّة الذي كان سائدًا في الجاهليَّة ... وإلى استرجاع مُلكٍ أو سُلطانٍ فقده البعض ... هذا وقد اتخذت هذه الحركة قناعًا زائفًا من الدين لِتستقل عن سُلطة المدينة المُنوَّرة ... فكان لا بُدَّ من الصِّدام المُسلَّح بينها وبين الإسلام ... وبانتهاء حُرُوبِ الرِّدَّة توحَّدت كامل شبه الجزيرة العربيَّة وحتى يومنا هذا تحت راية الإسلام ... ولا نرى ولا نسمع اليوم عن جماعات ترتد عن الإسلام الذى هو اسرع الأديان انتشاراً في ربوع كوكبنا هذا ...
§ رابعاً: الرد على الموقف مع آخر ملوك الغساسنة جبلة بن الأيهم الذى دخل في الإسلام بعد فتح بلاد الشام ولم يكن اسلامه عن قناعة ... فلما حُكِم بالقصاص منه لاعتدائه ولطمه لأعرابي بدون وجه حق ... اعتبرها هذا الملك اهانة له فهرب من المدينة الى بلاد الروم مرتداً عن الاسلام عائداً الى النصرانية ... بعد أن هدده عمر بن الخطاب بضرب عنقه إذا ارتد إلى النصرانية ...
§ بداية سنذكر نص ما قاله الناقد في ذلك:
هدد عمر بن الخطاب " جبلة بن الأيهم " بضرب عنقه إذا ارتد إلى دين النصرانية ... وجبلة بن الأيهم آخر ملوك بني غسان النصارى في الشام (الذين كانوا متحالفين مع الروم قبل الإسلام) ... وكان قد أسلم في عهد إمارة عمر بن الخطاب ... والظاهر أن ذلك كان عن غير اقتناع منه بصحة الدين الإسلامي وأفضليته على دينه ... بل كان عن رهبة أو رغبة ... وحجّ الملك بعد إسلامه إلى مكة بموكب فخم وأبهة الملك ... فأكرمه الإمام عمر وأحسن وفادته ... ولما كان في الطواف يطوف في الكعبة حسب عادة الحجاج وهو مُحْرم ... داس بدوي فقير (من بنى فزازة) على طرف إزار الملك فانحلّ عنه وبدت عريته (أي فأصبح الملك عرياناً) ... فغضب الملك ولكم البدوي لكمة هشمت أنفه ... فقال له الرجل: أتلطمني يا هذا في بيت الله ... وبيني وبينك شرع الله ؟؟؟ فتحاكما إلى عمر ... فحكم عمر للأعرابي أن يلطم الملك كما لطمه أو يعوضه بالمال ... فأجاب الملك: أعندكم السوقة بمقام ملك ؟؟؟ فأجاب عمر: الكل عندنا في الحق سواء ... قال: إذاً أرجع إلى ديني ... قال عمر: لئن ارتددت ضربت عنقك ... قال الملك: تمهلني إلى الغد ... ولما كان الليل ارتحل الملك برجاله وجاء إلى ملك الروم في القسطنطينية.
§ حمداً لله الذي أجرى على لسان الناقد دون أن يدري ... ما يبرهن على عظمة الإسلام ... وأنه دين الحق والعدل والمساواة بين البشر جميعاً ... فالكبير عنده صغير حتى يُؤخذ الحق منه ... والصغير عنده كبير حتى يُعْطى الحق له ... وصدق رسول الله حين قال ... " يا أيُّها النَّاسُ: إنَّ ربَّكمْ واحدٌ ... وإنَّ أباكمْ واحدٌ ... ألا لا فَضلَ لعربيٍّ على عَجميٍّ ... ولا لعَجميٍّ على عَربيٍّ ... ولا لأحمرَ على أسوَدَ ... ولا لأسوَدَ على أحمرَ ... إلَّا بالتَّقوَى ... إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقاكُمْ " المحدث: الألباني | المصدر : صحيح الترغيب - الصفحة أو الرقم: 2964
§ لقد أصدر عمر حكمه العادل والحاسم بالقصاص من الملك الظالم المعتدى على الفقير الضعيف وبنفس الأسلوب ... أو بتعويض المظلوم مادياً ... وذلك استنادا الى شرع الله " وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ " المائدة 45 ... ولولا ذلك لضاع الحق ... وأتبع الناس فيما بعد مبدأ الظلم ... وأكل القوى الضعيف ... والغنى الفقير ... واستحلت الدولة العظمى الدول المستضعفة والنامية ...
§ وفى دولة العدل لا أحد يعتدى على أحد ... سواء في بيت الله أو في خارجه ... حتى لو كان ملكاً أو أميراً أو عظيماً ... فهناك دولة ولها نظامها ... فلا كبر ولا عنجهية ولا أحد فوق الدولة والقانون ... والناس فيها أمام الحق سواء ... أحراراً كانوا أو وعبيداً ... سوقة كانوا أو ملوكاً ... ولا أحد يهدد الدولة التي تحكم شرع الله الذي فيه العدل والمساواة
§ ان هذا الملك وكما قال الناقد لم يدخل في الاسلام عن قناعة ... ولقد كان من سلالة من تحالفوا مع الروم ضد المسلمين سابقا ... وان اسلامه لم يكن عن اقتناع بصحة الدين الإسلامي وأفضليته على دينه بل عن رهبة أو رغبة ... ولكن بالرغم من ذلك كله أكرم عمر هذا الملك وأحسن وفادته كما ذكر الناقد ...
§ وبعد صدور الحكم العادل ورفض الملك للحكم وتهديده بالردة ... أعطى عمر للملك فرصة ليراجع نفسه وينصاع للحق والعدل الذي لا يعترض عليه أي منصف ... ولكن الملك رفض ... فقال عمر: لئن ارتددت ضربت عنقك ... قال الملك: تمهلني إلى الغد ... فأمهله عمر ... ولما كان الليل ارتحل الملك برجاله وذهب إلى ملك الروم في القسطنطينية ...
§ فهل كان المطلوب من عمر أن يكافئ هذا المعتدى ويعطيه جائزة الدولة التشجيعية للاعتداء على الغير !!! أم يطلب من المُعتدى عليه أن يحول للملك خده الآخر ليلطمه عليه !!! أم يهدر هيبة الدولة في عدم المحافظة على حقوق رعاياها !!! أم يعفو عن المعتدى ليعطي نموذجاً للأمة يحتذى به في العدوان على الضعيف !!! أم يقوم بتحطيم كل المبادئ السامية للعدل والمساواة التي ذكرناها والتي تنتظر نتائجها البشرية كلها حتى قيام الساعة !!! أم يشعل حرب دامية بين أنصار وقوم الفقير وأنصار الملك !!! أم ماذا ؟؟؟
§ لقد دخل الملك في الاسلام طواعية دون إجبار من أحد ... وهو يعلم أن من يرتد منه بعد ذلك ويحارب تطبيق شرع الله بهذا الأسلوب وهذا التهديد ليزلزل اركان الدولة ويحدث مثل تلك الفتنة التي ممكن كانت ان تحدث لو كان عمر حَكَمَ بغير ذلك ... فتُهدم كل المبادئ العادلة التي شرعها الاسلام ... هذا وعلينا الا نغفل أن من يهدد بالارتداد ملك ... يتطلع الكافة اليه والى ضرورة تنفيذ الحكم العادل الذى صدر بحقه ... ولذلك كان لزاما على عمر ان يهدده بتطبيق ما قرره ... ولكن بعد اعطاءه مهلة ليراجع فيها نفسه ... ولكن الملك آثر الهروب خشية تطبيق قواعد العدل عليه ... لكبْره وصلفه وغروره وعدم دخوله في الإسلام عن قناعة منذ البداية ... ولكن كان دخوله بهدف دنيوي ...
§ لقد هرب الملك ولم يبالِ عمر ولا الصحابة بهروبه وتركوه ... لأن ارتداد رجل عن الإسلام أهونُ بكثير من التهاون في تطبيق مبدأ عظيم من مبادئه ... وخسارة فرد لا تقاس بخسارة مبدأ.
السؤال رقم 25 للسيد الناقد:
§ ورد في سفر التكوين 32/24-30 قصة اسطورية غريبة تتحدث عن مصارعة يعقوب عليه السلام مع الله رب العالمين خالق السماوات والأرض وما بينهما !!! بل وتحكى القصة أيضاً تفوق يعقوب في تلك المصارعة ... فكيف كان ذلك!!
§ هذا ولم يذكر لنا الكتاب المقدس لماذا كان " الله " يتجول على سطح كوكب الأرض ليلا !!! ولماذا بدأت هذه المصارعة ؟؟؟ ومن الذي بدأ التحرش بالآخر !!! وماذا كان سبب هذه المعركة بالضبط !!! ولكن الكتاب المقدس يذكر لنا أن هذا الصراع قد استمر بين يعقوب و" الله " ليلة كاملة حتى جاوز الفجر على الطلوع ... " فَبَقِيَ يَعْقُوبُ وَحْدَهُ ... وَصَارَعَهُ إِنْسَانٌ (سنعرف لاحقاً انه الله في صورة انسان) حَتَّى طُلُوعِ الْفَجْرِ ... ثم ماذا؟؟؟ " وَلَمَّا رَأَى (أي الله) أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ (أي على يعقوب) ... ضَرَبَ حُقَّ فَخْذِهِ فَانْخَلَعَ حُقُّ فَخْذِ يَعْقُوبَ فِي مُصَارَعَتِهِ مَعَهُ (أي ضرب الله مفصل فخذ يعقوب فخلعه أثناء هذه المصارعة) سفر التكوين 32/24-25
§ ثم ماذا ؟؟؟ طلب الله من يعقوب صراحة أن يطلق سراحه لأن الصبح قد اقترب ... وعليه أن يعود إلى السماء !!! فرفض يعقوب ذلك الا بشرط وهو أن يباركه الله ... وكيف ؟؟؟ ... " وَقَالَ (أي الله ليعقوب): «أَطْلِقْنِي، لأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ». فَقَالَ (أي يعقوب لله): «لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي» " سفر التكوين 32/26... هذا ولم يذكر لنا الكتاب المقدس لماذا كان " الله " حريصا على أن يطلق يعقوب سراحه قبل طلوع الشمس !!!
§ ثم ماذا ؟؟؟ " فَقَالَ لَهُ (أي الله): «مَا اسْمُكَ؟» فَقَالَ: «يَعْقُوبُ» ... فَقَالَ: «لاَ يُدْعَى اسْمُكَ فِي مَا بَعْدُ يَعْقُوبَ بَلْ إِسْرَائِيلَ " سفر التكوين 32/27 ... فما سبب تغيير الله لاسم يعقوب ؟؟؟ " لأَنَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ وَقَدَرْتَ». سفر التكوين 32/28... ثم ماذا ؟؟؟؟؟؟ " وَسَأَلَ يَعْقُوبُ (أي سأل يعقوب الله) وَقَالَ: «أَخْبِرْنِي بِاسْمِكَ». فَقَالَ: «لِمَاذَا تَسْأَلُ عَنِ اسْمِي؟» وَبَارَكَهُ هُنَاكَ. " سفر التكوين 32/29
§ فماذا بعد ؟؟؟ " فَدَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ «فَنِيئِيلَ» قَائِلاً: «لأَنِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهًا لِوَجْهٍ، وَنُجِّيَتْ نَفْسِي». سفر التكوين 32/30
§ إن كلمة " إنسان " في هذا النص هنا تعود على الصورة التي ظهر بها الله ليعقوب ولا تعني مجرد إنسانا عاديا ... ولماذا ؟؟؟ لأن هذا المعنى يتضح جليا من النص " لأَنَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ وَقَدَرْتَ " سفر التكوين 32/28 ... " وقدرت " بمعنى أنك تغلبت على " الله " !!! بل ويتضح هذا المعنى أيضاً من النص " فَدَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ «فَنِيئِيلَ» (أي وجه الله) قَائِلاً: «لأَنِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهًا لِوَجْهٍ» ... " سفر التكوين 32/30
§ وعلى الرغم من وضوح هذه المعاني في النصوص والتي لا تحتمل التفسير بغير هذا المعنى ... إلا أننى والحق وقفت طويلا متأملا هذا النص ... مترددا في قبول فكرة صراع يعقوب مع " الله " ... ولكن لم يمهلني الله ـ سبحانه وتعالى ـ وقتا طويلا في هذه الحيرة ... فقد ساق إليّ تفسير هذا النص على لسان قداسة البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية ...
§ يقول قداسة البابا شنودة الثالث: أراد الله أن يرفع معنويات هذا الخائف (أي يعقوب) ... بأن يريه أنه يمكن أن يصارع ويغلب ... فظهر له (أي الله) في هيئة إنسان ... يمكن ليعقوب أن يصارعه ويغلبه تمامًا كأب يداعب طفله ... ويُظهر لهذا الطفل أنه يستطيع أن يغلبه فيفرح !!! وبدأ أن يعقوب كان قويًا في مصارعته ... وطلب منه صاحب الرؤيا (أي الله) أن يطلقه، ويعقوب يجيب: لا أُطلقك حتى تباركني ... فباركه ... ولكن ضربه على حق فخذه (وحق الفخذ هو مفصل الفخذ فانخلع الفخذ) ... فصار يخمع (أي يعرج) عليه.
§ كأن الله يريده أن يفرح بانتصاره ... ولكن لا يكون انتصاره سبب كبرياء له ... لقد سمح له أن ينتصر ... وغير اسمه إلى إسرائيل قائلًا له: " لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت" سفر التكوين 32/28 ... كم مرة ظهر الله لهذا الضعيف ليقويه ... وينقذه من خوفه ... انتهى كلام قداسة البابا شنودة الثالث ... ارجع الى تأملات في حياة القديسين يعقوب ويوسف ص 55، 56. http://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/517.html
§ وعندما سأل واحد من شعب الكنيسة قداسة البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية: قرأت في أحد الكتب أن الذي صارعه يعقوب هو ملاك وليس الله ... فما هي الإجابة السليمة ؟؟؟ فكان رد قداسته الذي صارع يعقوب هو الله للأسباب الآتية:
1. غير الله اسمه من يعقوب إلى إسرائيل ... ولا يملك الملاك الحق في أن يغير اسم إنسان.
2. قال له الله في تغيير اسمه: " لأَنَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ وَقَدَرْتَ». سفر التكوين 32/28 ... قال له هذا بعد أن صارعه ... فما معنى " مع الله ... وغلبت "
3. يقول الكتاب: " فَدَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ «فَنِيئِيلَ» قَائِلاً: «لأَنِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهًا لِوَجْهٍ، وَنُجِّيَتْ نَفْسِي». سفر التكوين 32/30
4. إصرار يعقوب أنه لا يتركه حتى يباركه ... أمر خاص بالله لأنه لم يحدث في التاريخ أن إنسانا صارع ملاكا لكي يباركه ... وفعلا نال البركة وتحققت.
5. كون أن الذي ظهر له ضرب حق فخذه، فانخلع فخذه، وصار يخمع عليه ... سفر التكوين 32/25&31 ... فإن هذا لا يحدث مع ملاك ... فالملاك لا يضرب إلا إذا أخذ أمرا صريحا بذلك من الله ... وبخاصة لو كان يضرب أحد الآباء أو الأنبياء ... أما عبارة " وَصَارَعَهُ إِنْسَانٌ حَتَّى طُلُوعِ الْفَجْرِ" سفر التكوين 32/24 ... فمعناها أن الله ظهر له في هذه الهيئة ... انتهى رد قداسة البابا شنودة الثالث ... (المرجع: سنوات مع أسئلة الناس ـ الجزء السابع ... ص 33 – 34 / كاتدرائية العباسية ... رقم الإيداع بدار الكتب: 4456/1993م ـ الترقيم الدولي:I.S.B.N: 977-5345 – 07 – 3).
§ وإذا ذهبنا الى تفسير القس أنطونيوس فكري لسفر التكوين 32/30 ... " فَدَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ «فَنِيئِيلَ» قَائِلاً: «لأَنِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهًا لِوَجْهٍ، وَنُجِّيَتْ نَفْسِي» " ... فنيئيل = وجه الله ... وسُمي المكان هكذا لأنه رأي الله وجهًا لوجه ولم يمت ... ولم يسمي باسم يحمل معني أنه غلب الله بل هو سعيد بأنه رأي الله ولم يمت = ونجيت نفسي.
واللـــــــــــــه أعلم وأعظم
يتبع بإذن اللــــــــــــه وفضـــــله