غفر الله لنا ولك...ورزقنا حُسن الخاتمة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, إنه من يهده الله فلا مضلّ له, ومن يضلل فلن تجد له وليّاً مرشداً, أما بعد:
قال الله تعالى: "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ" {البقرة/151}.
الردود السابقة الخاصة بالعضوين (moiami) و (نجاد ميرنا) قد تثير الشكوك حولهما ولكن من باب حُسن الظن, فإننا نظن أنهما في حاجة إلى المزيد من الشرح لعلم الحديث.
أخي الكريم moiami, رغم أنه قد مرّ أكثر من شهر على التوقف عن كتابة الردود في هذا الموضوع, ولكني وجدتك قد نقلت رأيك هذا إلى إحدى المنتديات النصرانية وقد استهزؤا بك لأنهم وجدوا لأول مرة مسلم يُنكر أحاديث الرسول :salla: لمُجرد أنه رأي تناقضها مع القرآن الكريم, فما بالك بالمسلمين, ولهذا أرجو منك معذرة الأخوة هنا إن كانوا قد شددوا عليك...
أولاً لنلخص ما يدور في ذهنك في عدة نقاط حتى يسهُل تفنيدها:
1- الأصل لديك في تحري صدق الأحاديث الشريفة هي عرضها على القرآن الكريم, فإن وافقته كانت صحيحة وإن خالفته كانت (كان من المفرض تسميتها "لا أصل لها") (بينما أنت أسميتها شيطانية)!
2- احتمالية خطأ الإمام البخاري في كتابة صحيحه مما يؤدي إلى وجود أحاديث ضعيفة به, وبالتالي فجميع كتب الحديث كذلك.
3- لا مقارنة بين كتاب الله وكتاب البشر (المقصود كتب الحديث).
4- قولك: "بالنسبة للذي لديه علم وليس المعرفة فهو يعلم بأن الحديث غير صحيح أو صحيح أما بالنسبة للذي ليس له علم كما هو حالنا نحن فعلينا أن نستعمل عقولنا والقرآن الكريم وكذلك ما لدينا من معرفة".
أعتقد أن النقاط السابقة هي ملخص حوارك مع الأخوة الأفاضل, فإن كنت مُخطئاً فبين لي.
دعنا أولاً أخي الكريم نبني أساساً لنرفع عليه البنيان...
قال الله سبحانه وتعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" {الحجر/9}
وقال في سورة النجم: "وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى {1} مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى {2} وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى {3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {4} عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى {5}", إذ أقسم سبحانه عز وجلّ بأن الرسول :salla: لا ينطق عن الهوى, وعند الجمع بين هاتين الآيتين الكريمتين يتضح لنا مُعتقد أساسي لدى المسلم وهو أن الله كما تعهد بحفظ القرآن فلقد تعهد بحفظ سنة نبيه :salla: وإلا لما تحقق قوله في كتابه العزيز: "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" {آل عمران/31} إذ كيف نتبعه ولم تُحفظ سنته :salla:!
وعن حفظ الكتاب والسنة بأمر الله تعالى ننتقل إلى الأساس الثاني:
سخّر الله أناساً لحفظ هذا الدين, فتجد مؤمنين سُخروا للجهاد وأخرين للعلم وأخرين لحفظ كتاب الله وأخرين لحفظ الحديث, ولهذا قلما تجد مؤمناً جمع هذا كله, فعلماء القراءات كثير منهم ضعيف الحديث وهذا لا يقدح فيهم ولكنهم انشغلوا بعلوم القرآن حتى وصل إلينا متواتراً عن النبي :salla: مثل الأحاديث الصحيحة التي تواترت عن النبي :salla:, فكما آمنت أن القرآن برواياته نُقل من صدور الرجال بدون خطأ فكذلك وجب عليك الإيمان بأن سنة الحبيب المصطفى :salla: نُقلت إلينا كما هي.
لننتقل الآن إلى نقاطك السابقة:
1- قولك في النقطة الأولى المذكرة أعلاه يشوبها خطأ جسيم, وهي أن الشرط الوحيد لصحة الحديث هو توافقه مع القرآن الكريم, وهذا القول أخي الكريم يهدم علم الحديث بفروعه التى أفنى العلماء أعمارهم فيه ونعم ما أفنوه فيه, فقولك هذا قد يأتي بأحاديث قد تصل درجتها إلى البطلان ويصححها لظنه أنها تطابق في ظاهرها للقرآن, وقد يأتي بأحاديث في قمة الصحة وينكرها من يظن أنها مخالفة للقرآن الكريم. ودليل واحد لو فكرت فيه لزالت تلك الشبهة بإذن الله تعالى وهو عدد ركعات كل صلاة, فالصلاة مفروضة ومذكور فرضيتها في القرآن ولكن عدد ركعاتها ليس مذكوراً فكيف أطابقها؟!
فكما لكل علم من العلوم سواء الشرعية أو الدنوية مختصون, فكذلك علم الحديث جنّد الله فيه جهابذة العلماء ووضعوا شروطاً لصحة الحديث يُمكن إختصارها في النقاط التالية:
أ- عدالة جميع رواته .
ب- تمام ضبط رواته لما يروون .
ج- اتصال السند من أوله إلى منتهاه ، بحيث يكون كل راوٍ قد سمع الحديث ممن فوقه .
د- سلامة الحديث من الشذوذ في سنده ومتنه ، ومعنى الشذوذ : أن يخالف الراوي من هو أرجح منه .
هـ- سلامة الحديث من العلة في سنده ومتنه ، والعلة : سبب خفي يقدح في صحة الحديث ، يطّلع عليه الأئمة المتقنون .
وتحديد هذه الشروط جاء نتيجة استقراء الأئمة المتأخرين كلام أهل الحديث وعباراتهم مع تطبيقاتهم، ولذلك تجد في كلام المتقدمين ما يدل على هذه الشروط.
ويمكنك الإطلاع على موضوع كامل حول هذا الأمر من هنا.
وأعلم أيها الغالي أن التواتر والإسناد وعلم الرجال تميزت به تلك الأمة وتحسدها عليه أمم الكتب السابقة ولهذا حُرفت كتبهم وبُدلت.
2- ظنك بوجود احتمال لخطأ البخاري وإنكارك أنه أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل, هذه المقولة أخي الكريم لم تأت من فراغ, فالإمام البخاري نحسبه من جنود الله التي سخرها الله لحفظ حديث الرسول :salla:, وما كان يفعله هذا الإمام الفذ لا نجد أن هناك ولو احتمال واحد لوجود خطأ فيه ولتنظر معي بعقلك وبقلبك:
اقتباس:
عد العلماء كتاب الجامع الصحيح المعروف بـ"صحيح البخاري" أصح كتاب بعد كتاب الله، ويقول عنه علماء الحديث "هو أعلى الكتب الستة سندا إلى النبي :salla: في شيء كثير من الأحاديث وذلك لأن أبا عبد الله أسن الجماعة وأقدمهم لقيا للكبار أخذ عن جماعة يروي الأئمة الخمسة عنهم.
ويقول في قصة تأليفه "الجامع الصحيح ":" كنت عند إسحاق بن راهويه فقال بعض أصحابنا لو جمعتم كتابا مختصرا لسنن النبي فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع هذا الكتاب"
ويقول في بعض الروايات:
ـ أخرجت هذا الكتاب من زهاء ست مائة ألف حديث.
ـ ما وضعت في كتابي الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين.
ـ ما أدخلت في هذا الكتاب إلا ما صح وتركت من الصحاح كي لا يطول الكتاب.
ويروي البخاري أنه بدأ التأليف وعمره 18 سنة فيقول:
"في ثمان عشرة جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم وذلك أيام عبيد الله بن موسى، وصنفت كتاب التاريخ إذ ذاك عند قبر رسول الله :salla: في الليالي المقمرة وقل اسم في التاريخ إلا وله قصة إلا أني كرهت تطويل الكتاب، وكنت أختلف إلى الفقهاء بمرو وأنا صبي فإذا جئت أستحي أن أسلم عليهم فقال لي مؤدب من أهلها كم كتبت اليوم فقلت: اثنين وأردت بذلك حديثين فضحك من حضر المجلس فقال شيخ منهم لا تضحكوا فلعله يضحك منكم يوماً.
وقال أبو جعفر محمد بن أبي حاتم قلت لأبي عبد الله تحفظ جميع ما أدخلت في المصنف فقال لا يخفى علي جميع ما فيه، وسمعته يقول صنفت جميع كتبي ثلاث مرات."
اقتباس:
ظل البخاري ستة عشر عاما يجمع الأحاديث الصحاح في دقة متناهية، وعمل دؤوب، وصبر على البحث وتحري الصواب قلما توافرت لباحث قبله أو بعده حتى اليوم، وكان بعد كل هذا لا يدون الحديث إلا بعد أن يغتسل ويصلي ركعتين.
يروي أحد تلامذته أنه بات عنده ذات ليلة فأحصى عليه أنه قام وأسرج يستذكر أشياء يعلقها في ليلة ثمان عشرة مرة.
وقال محمد بن أبي حاتم الوراق كان أبو عبد الله إذا كنت معه في سفر يجمعنا بيت واحد إلا في القيظ أحيانا فكنت أراه يقوم في ليلة واحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة في كل ذلك يأخذ القداحة فيوري نارا ويسرج ثم يخرج أحاديث فيعلم عليها.
وروي عن البخاري أنه قال: لم تكن كتابتي للحديث كما كتب هؤلاء كنت إذا كتبت عن رجل سألته عن اسمه وكنيته ونسبته وحمله الحديث إن كان الرجل فهما، فإن لم يكن سألته أن يخرج إلي أصله ونسخته فأما الآخرون لا يبالون ما يكتبون وكيف يكتبون.
وكان العباس الدوري يقول: ما رأيت أحدا يحسن طلب الحديث مثل محمد بن إسماعيل كان لا يدع أصلا ولا فرعا إلا قلعه ثم قال لنا لا تدعوا من كلامه شيئا إلا كتبتموه.
وللمزيد من هنا
3- أما بخصوص النقطة الثالثة وهي ظنك بأن الأخوة يُقارنون بين كتاب الله وكتاب البشر فهذا لا يصح من أي جهة, فنحن نتحاور حول دين الله سبحانه وتعالى, وقد أرسله لنا في كتاب به كلامه, والتفصيل والتوضيح على شكل أحاديث تواترت عن النبي :salla:, إذا فكلاهما يقام به دين الله في الأرض مصداقاً لقول الرسول :salla:: " تركت فيكم شيئين، لن تضلوا بعدهما : كتاب الله، و سنتي، و لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض" صححه الألباني في صحيح الجامع.
4- قولك بالنقطة الرابعة هو قول في قمة الخطورة على الإنسان, ولنضرب مثلاً بإنسان يُعاني من مرض ما, فإذا لم يذهب إلى الطبيب وقرر علاج نفسه بلا علم فهو هالك بلا محالة, إذ كيف يقوم بالعلاج بلا علم عن طرق العلاج وأسباب المرض والأعراض الجانبية للدواء ... إلخ, وكذلك الأمر في الدين بل وهو الأولى, فعند الخلاف أو استصعاب فهم الأمور نلجأ إلى أولو العلم ومراجعة أقوالهم, فيجب على المؤمن أن يلجأ إلى من هو أعلم منه ولا نبالغ في تعظيم العقل, فقد أهلك الكثيرين بإلحادهم, فكما تعلمنا النقل مُقدم على العقل وتستحضرني المقولة المنسوبة إلى علي :radia-icon: "لو كان الدين بالعقل لكان المسح أسفل الخفين أولى من فوقهما".
الحمد لله الذي {علم الإنسان ما لم يعلم} ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله :salla:.