أريوس من البداية الى النهاية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بعد تصفحي لهذا المنتدى المبارك رايت ان اضيف له شيئ مهم جدا لنا جميعا الا وهو كيف تمت بلورة الفكر المسيحي وهذا يثري معرفتنا في الحوارات الدينية مع المسيحيين, وسابدا بعون الله الجزء الاول وعلى مراحل.
بلورة الفكر المسيحي:
في ايلول من العام 324, بعد ان تغلب قسطنطين على ليقينوس, أخر خصم له, بات الامبراطور الاوحد, جامعا تحت قيادته الشرق والغرب. لكن ما كادت أخر نزاعات الرئاسة الرباعية المنتهية تهدأ حتى اخذت الكنيسة, التي اعترفت بها الدولة الرومانية, تواجه اول اضطرابات لها, اضطرابات على درجة من الخطورة لم تعهدها حتى ذلك الحين.
لا ابالغ اذا قلت ان وضع الكنيسة الجديد في الامبراطورية الرومانية قد ساهم الى حد كبير في تفاقم الازمة التي بدات مع الآريوسية, وفي توسيع رقعتها الجغرافية. فالازمة التي فجرتها الحركة الدوناتية في افريقيا الشمالية عام 307 في اعقاب تشكك في صحة سيامة اسقف قرطاجة الجديد, قيقيليانس بسبب عدم أهلية فيلكس اسقف ابتونج الذي رسمه. وبالتالي رسم اسقف أخر على قرطاجة. ومن ثم سميت الكنيسة باسم خليفته دوناتس. وفي الواقع تسبب الانشقاق "الدوناتي" باضطراب دام فترة طويلة في كنيسة افريقيا الشمالية, اما قسطنطين, الذي تورط في تلك الازمة فقد تاثر موقفه بها قبل المجمع النيقاوي وبعده.
وعندما اندلعت الازمة الآريوسية وجد قسطنطين نفسه ازاء وضع مشابه للازمة الدوناتيه, فتصرف حيالها كما سبق له ان تصرف قبل بضع سنوات, زحين سادالسلام المدني مجمل الامبراطورية كان لا بد للسلام المدني ان يسيطر ايضا على الكنيسة بكليتها. لذا كان عليه ان يقضي على الازمة في مهدها قبل ان تندلع هنا وهناك.
الآريوسية قبل مجمع نيقية
ان المشكلة التي اثارها اريوس بعقيدته وتبشيره بها, تبدو قائمة على خلفية من الاضطراب في كنيسة مصر, واعني بذلك الانشقاق الذي سببه الاسقف ملاتيوس, اسقف ليكوبولس( حاليا مدينة اسيوط في صعيد مصر).
وفي جو متوتر عهد الكسندر اسقف الاسكندرية بمسؤولية كنيسة بوكالس(حي من احياء الاسكندرية) الى أريوس, كان أريوس ليبي المولد وكان ذو طبيعة ثائرة مدركا مقدرته تمام الادراك بسبب اطلاعه الواسع على الكتب المقدسة
بماذا كان أريوس يبشر؟
بما ان اريوس كان يريد صون وحدانية الله مهما كلف الامر(كلفه حياته لاحقا) فقد افضى في تعاليمه الى اخضاع الابن للآب, وهذا يعني ان الوهية الابن ليست حقيقية ولا كاملة. ذلك انه اذا كان الاب الها كاملا, فلا يمكن الابن ان يكون كذلك. ان الابن هو كلمة الله , بيد انه كلمة خلقها الله كما خلق الكون. اوجدت دعوة أريوس هذه خصوما له, فعقد الاسقف الكسندر اجتماعا تمكن في اثنائه الجانبان من طرح موقفهما. وبعد التردد وقف الكسندر ضد أريوس وطلب اليه ان يتراجع, لكن أريوس اصر على موقفه وراح يذيع دعوته وطلب تاييد زميله في الدراسة الاسقف اوسابيوس النيقوميدي, فكان رد الكسندر الدعوة الى عقد مجمع في 320 و 321 شارك فيه 100 اسقف من مصر ضد اريوس. وهكذا حرم أريوس وعزل اتباعه من مناصبهم, بينهم اسقفان من ليبيا, فغادر أريوس الاسكندرية ولجأ الى اوسابيوس اخر اسقف القيصرية, متروبوليت فلسطين.
ان مسالة أريوس التي لم يكن معني بها سوى مصر لم تلبث ان شملت القسم الشرقي من الامبراطورية , فقد وقف بعض الاساقفة الى جانب الكسندر وبعضهم الاخر الى جانب اريوس. وقف الى جانب الكسندر اساقفة القدس, وطرابلس, وانطاكية وانقيرة( انقرة حاليا). في حين وقف الى جانب أريوس زملاؤه في الدراسة مثل اوسابيوس النيقوميدي, ماريوس الخلقيدوني و ثيوغينس النيقاوي, انطونيوس الطرسوسي, فضلا عن اساقفة من سواحل البحر الابيض المتوسط الشرقية وهم : اوسابيوس القيصرية, اساقفة صور, واللاذقية في سوريا, وبيروت واللد في فلسطين. بيد ان قضية أريوس تجاوزت في هذه المرحلة حدود مصر ووضعت كامل الجبهة الشرقية من الامبراطورية في حالة هيجان فكان لا بد من تدخل قسطنطين.
لكن بما ان قسطنطين كان جاهلا في الامور الدينية المسيحية فقد ارسل الاسقف اوسيوس (اسقف قرطبة) ومستشاره في الشؤون الدينية ليحمل رسالة الى الكسندر والى أريوس وفيها يلومهما على زرع الاضطراب في كافة ارجاء المنطقة بسبب تاويل اية بسيطة من الكتاب المقدس**. ونظرا الى خطورة المشكلة التي طرحتها افكار اريوس وتعاليمه وازاء رفض اريوس التراجع عن عقيدته اضطر قسطنطين الى ان يعقد اجتماعا يضم كافة اساقفة المسكونة في مدينة نيقية في شهر ايار من سنة 325.
الاية هي في سفر الامثال 22:8 وهي في الترجمة السبعينية تقول : خلقني السيد الرب في بدء طرقه لاحقق اعماله . في نظر اريوس هذه الاية تقول ان يسوع هو كلمة الله المخلوقة وهذه الكلمة (خلقني) تبطل كليا الوهية الابن فليس هو الا كائنا مخلوق قد يكون له امتيازات لكن حتما هو ادنى من الله ولا يحق لنا عبادته (( وبامكانكم اخوتي ان تتخيلوا النتائج بالنسبة لفعالية الخلاص عند المسيحيين وعبادتهم للاله المتجسد))
في المرة القادمة ان شاء الله ساتكلم عن مجمع نيقية الاول وحرمان اريوس وجواب الكنيسة والتحديد الاول للعقيدة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أريوس من البداية الى النهاية
مجمع نيقية الاول
جلسة الافتتاح
في 20 ايار سنة 325 بدا قسطنطين بكامل ابهته, وأثر في جميع المشاركين, تراوح عدد اباء المجمع بحسب المصادر بين 250 و 300 مشارك ( اعتادت الكنيسة تقليديا تسمية هذا المجمع المسكوني الاول مجمع الثلاثمئة وثمانية عشر أبا, علما ان عدد الاباء في الحقيقة لا يؤكده القدامى ولا الجدد , والعدد المذكور مستوحى من اقوال هيلاريون اسقف بواتييه الذي لم يشارك اصلا, وهذا العدد 318 يساوي عدد خدام ابو الاباء ابراهيم في سفر التكوين 14:14 ).
تراس المجمع اوسيوس اسقف قرطبة , وحضر العديد من الاساقفة والشمامسة ومنهم اثناسيوس الذي اصبح فيما بعد اسقف الاسكندرية. القى اوسابيوس مطران القيصرية خطبة الافتتاح, واجاب قسطنطين باللاتينية مرحبا بالاباء المجمعيين, وبعد جلسة الافتتاح الاحتفالية باشر الاباء عقد جلسات العمل.
ادانة العقيدة الآريوسية والقول بانها هرطقة
اول ما تم البحث فيه هو اقرار صحة ايمان او عدم ايمان مذهب أريوس, اول بمعنى أخر هل عقيدة أريوس مطابقة لتعليم الكنيسة التقليدي؟
ان فكر الآريوسيين الاصليين لا يقبل ابدا ان يكون الابن من جوهر ابيه( حاليا يقال طبيعة) بما ان الاب قد استنفد طبيعة الالوهية كلها, ان تسمية الابن " الله" تعني تجزئة الطبيعة الالهية وجعلها الهين اثنين وايضا الكتاب المقدس بالمفهوم اللآريوسي يقول ان الابن مولود اذن له اصل وله بداية, الا ان الله ل يمكن ان يكون له اصل الا في ذاته وفي جميع الاحوال لو كان الاب والابن من الجوهر نفسه فان تجسد ابن الله يسيء الى جوهر الله بادخال الطبيعة البشرية الى اللاهوت.
كان على الاباء ان يحافظوا على التقليد الكنسي لايمانهم, وكان عليهم ان يحافضوا على غيرية جذرية بين الاب والابن, وتدل على ذلك الالفاظ المستعملة "وصنع" الابن من الاب, وبقولهم هذا يؤكد الآريوسيون انهم لم يخترعوا شيئا جديدا ما دامت هذه هي الالفاظ الواردة في الكتاب المقدس وبوجه خاص في سفر الامثال (22 و 8 ), فهل هناك اختلاف بين الابن ومخلوق آخر, علما ان الابن صنع بشبه كامل على صورة الله كما قال اوسابيوس؟ وايضا الكتاب المقدس يقول ان الانسان صنع على صورة الله ومثاله وبالتالي ( بحسب اوسابيوس) ان كان مصدر الابن لا يمكن وصفه فذلك لا يرفعه الى رتبة الله, وهكذا ينكر الموقف الآريوسي ولادة الابن ولادة حقيقية وهذا يتعارض مع ايمان الكنيسة الواحد وتعبيره التقليدي عند مختلف الكنائس المحلية.
الجواب الكنسي لمجمع نيقية
ما ان اقر بان العقيدة الاريوسية مخالفة للايمان الصحيح( اكيد بحسب رايهم), حتى ترتب على اباء المجمع ان يجدوا صيغة تستبعد وترد على كل ما يقوله اريوس عن ولادة الابن, "اله ولد من اله" في هذه المرحلة الثانية ادى المجمع عملا مبتكرا, فقد غدا بديهيا ان اعطاء اي براهين من الكتاب المقدس لا يمكن ان يحل المشكلة, فما ان يستشهد اباء الكنيسة باي اية من الكتاب المقدس حتى يجيبهم الاريوسيين باية اخرى , فكان لا بد من ايجاد مصطلحات تنقذ الاباء من هذا المازق وتعبر حقا عن الطبيعة المشتركة بين الاب والابن خارجة عن النص الكتابي.
ومن هنا كانت البداية, ان يتجه اللاهوت نحو اللغة الفلسفية ليجد التعبير الصحيح الذي يستبعد كل محاولة تفسيرية ذات معنى اريوسي( بداية الخطة النيقاوية لوأد مذهب اريوس), وهكذا ابتكر تعبيير مساو للاب في الجوهر, الا ان استعمال هذا التعبير لم يكن خال من الخطر , فقد استخدم هذا المصطلح سابقا في الخطاب المسيحي. ففي القرنيين الثاني والثالث استخدم الغنوصيون هذا المصطلح ليدلوا به على " تساوي جوهر " الانسان الروحاني مع العالم الالهي في "ملئه" فادين بولس السميساطي وعزل في اثناء انعقاد مجمع انطاكية عام 268 لانه كان يقول بان الابن مساو للاب في الجوهر مما يؤدي الى انكار كل فردية للابن (اعطاء الكلمة اليونانية اوسيا معنى الاقنوم او الشخص يصبح قولهم الاب والابن يعني حقيقة واحدة وهذا مخالف لمعنى الوحي المسيحي).
التحديد الاول للعقيدة
ان قانون ايمان النيقاوي كان نتيجة جهد مجموعة صغيرة من اللاهوتيين, جمعوه اثناء النفاش والاقتراحات المتنوعة وراؤا فيه شهادة لايمانهم.
وهذا القانون ايضا قد استتبع بسلسلة من الحرمانات تهدف اما الى ادانة الطروحات الآريوسية او الى التدقيق بمعنى التعابير الاقل شيوعا في التقليد والموجودة في دستور الايمان, وبالفعل فان ادانة تعابير مثل " كان وقت لم يكن فيه موجودا" او " خلق من عدم" او "لم يكن قبل ان يولد" كان هدفها ادانة التعاليم الاريوسية. اما ادانة تعبير مثل " ابن الله هو من جوهر آخر او ذات اخرى" يعني ادانة لكل من تسول له نفسه بها بل وادانة لكل من يقول ان الاب غير مساو للابن, كما يعني التدقيق في معنى المساوي في الجوهر. وهكذا استبعدت كل امكانية للربط ما بيت المساواة والتشابه في الجوهر.
وفي رسالة كتبها اوسابيوس القيصري الى اتباعه, شرح لهم شرحا وافيا الى اي مدى كان دور قسطنطين حاسما في دعوته الى قبول التعابير الجديدة التي لم تكن تقليدية ولا كتابية, بيد ان قسطنطين كان يريد ان يستتب الامن والسلام في الكنيسة( فلسفته الوثنية انقذت ********* مهما كلف الامر. بدون شك دفع موقف قسطنطين هذا بالاساقفة المترددين او المناوئين الى اقرار صيعة نيقية, واهتم فيلومينس شخصيا ( هو ممثل قسطنطين) بالعمل على توقيع النص ولكن رغم كل هذه الضغوط فان الاسقفين الليبيين الذين دعما آريوس منذ البدء رفضا التوقيع, فنفيا من الاسكندرية ومعهما آريوس واتباعه.
تاريخ الفصح
السبب الثانوي وراء الدعوة لانعقاد المجمع هو تاريخ الفصح, لم تكن كنائس بعض المناطق بخاصة في سوريا وبلاد ما بين النهرين, تحتفل بعيد الفصح في التاريخ نفسه الذي كانت كنائس اخرى ككنيستي روما والاسكندرية تحتفل به.
هذا السبب ادى الى جدل في اواخر القرن الثاني, ان نص مرسوم نيقية الذي اكتشف في القرن الماضي يطلب بعد وضع كل المسائل جانبا ان يحتفل المسيحيين في الشرق بعيد الفصح مثل الرومانيين كي يكون لهم صوت واحد.وهذا الاختلاف لم يستطع الكتاب المقدس ان يحله الى يومنا هذا.
اختتام المجمع
صادف اختتام المجمع احتفالات الذكرى العشرين لتولي قسطنطين العرش في 25 تموز سنة 325 . في اثناء المادبة المقامة لهذه المناسبة القى قسطنطين خطبة حث فيها الاساقفة على صون الكنيسة, اما هو- اي قسطنطين- فسوف يسهر بدوره على هذا السلام بصفته اسقفا لمن هم بالخارج ومشاركتهم في الخدمة ((هذا الكلام يفصح عن الكثير حول مفهوم اللاهوت السياسي لدي قسطنطين وسيطرته على الكنيسة وتسخيرها لخدمته)).
واعلنت قرارات المجمع واحكامه وبالفعل انتهى عام 325 بنفي صديقين لآريوس الى بلاد الغال هما اوسابيوس اسقف نيقوميديا, وثيوغنيس اسقف نيقية, حيث انهما اعتبرا مذنبين لايوائهما أريوسيين منقطعين عن الشركة , وعين مكانهما اسقفان أخران.
** صديقا أريوس وقعا على قانون الايمان لكنهما رفضا التوقيع على ادانة أريوس, علاوة على ذلك كانت هناك شكوك خطيرة من الناحية السياسية تقع على كاهل اوسابيوس, فقد كان صديق قونستانتيا شقيقة قسطنطين وزوجة ليقينوس عدو الامبراطور وتاليا كان يشك بانه يؤيد حزب ليقينوس
في المرة القادمة ان شاء الله ساتكلم من نيقية والتوثيق لمجمع القسطنطينية, وفاة قسطنطين, عودة أريوس