بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

التفاضل في المرور على الصراط

والمؤمنون يتفاضلون في المرور على الصراط، وهم في ذلك ثلاثة أصناف كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: ((فناج مسلم, وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم)) (1) .
فهم في الجملة صنفان:
1- ناجون سالمون من السقوط في جهنم يجوزون الصراط.
2- مطروحون ساقطون في جهنم لا يتمون المرور على الصراط، فإذا عوقبوا على معاصيهم أخرجوا من النار إلى الجنة، وقد ورد إجمالهم في هذين الصنفين عن النبي صلى الله عليه وسلم في رواية إذ قال: ((فمنهم من يوبق بعمله, ومنهم من يخردل ثم ينجو)) (2) .
ثم الناجون في الجملة صنفان: سالمون من خدش الكلاليب التي على الصراط, ومخدوشون قد نالت منهم الكلاليب شيئاً بحسب أعمالهم.
ثم الناجون متفاضلون في صفة مرورهم على الصراط, فمنهم من يمر عليه كالطرف، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل, حتى يمر آخرهم يسحب سحباً، أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم (3) .
وأفضل المارين على الصراط وأكملهم مروراً الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل, وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم)) (4)
وأفضل أتباع الأنبياء مروراً أمة محمد صلى الله عليه وسلم, فهم أول من يجوز الصراط من الأمم، قال صلى الله عليه وسلم: ((فأكون أول من يجوز من الرسل بأمتي)) (5) .
وقد سئل صلى الله عليه وسلم: ((من أول الناس إجازة؟ قال: فقراء المهاجرين)) (6) وهذه فضيلة لفقراء المهاجرين. (7)

أول من يجيز الصراط


الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أمته أول من يجيز الصراط: يدل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه الذي فيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويضرب السراط بين ظهري جهنم, فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها)) (1) . (وهذا لفظ البخاري).
وكذلك رواية أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الآذان من صحيح البخاري وفيها يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته، ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل, وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم)) (2) .
قلت: ورواية أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم توضح مكان النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تمر أمته كلها – وهو على الصراط صلى الله عليه وسلم وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم فيها بعد أن ذكر صفات الذين يمرون على الصراط: ((ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلم سلم)) (3) .
وكذلك الأنبياء عليهم السلام كما في رواية أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والأنبياء بجنبتي الصراط وأكثر قولهم: اللهم سلم سلم))

الناجون والهالكون


بين الرسول صلى الله عليه وسلم مصير الناس بعد المرور على الصراط في أحاديث كثيرة، فقال في حديث رواه ابن أبي عاصم من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بعد أن ذكر كيف يمر الناس على الصراط: ((فناج مسلم, ومخدوش مكلم, ومكردس في النار)) (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري أيضاً عند ابن ماجة وغيره: ((فناج مسلم, ومخدوش به, ثم ناج ومحتبس به ومنكوس فيها)) (2) . و في رواية أبي سعيد عند البخاري قال صلى الله عليه وسلم: ((فناج مسلم, ومخدوش, ومكدوس في نار جهنم)) (3)
قال ابن أبي جمرة معلقاً على حديث البخاري: (يؤخذ منه أن المارين على الصراط ثلاثة أصناف: 1- ناج بلا خدش. 2- وهالك من أول وهلة. 3- ومتوسط بينهما يصاب ثم ينجو. وكل قسم منها ينقسم أقساماً تعرف بقوله: (بقدر أعمالهم)) اهـ (4) .
قلت: وهناك قسم رابع وهو المحتبس به كما في حديث أبي سعيد الخدري الذي تقدم. والله أعلم.
أما الصنف الأول الذي ذكره ابن أبي جمرة وهو:
1- الناج بلا خدش: فقد ذكره صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة بلفظ (ناج مسلم) كما في الأحاديث السابقة، والناس من هذا الصنف هم الذين يعطون نوراً عظيماً على الصراط على قدر أعمالهم, فينطلقون عليه بسرعة عظيمة كما بيَّنا في فصل (كيف يمر الناس على الصراط)(ص19).
وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر صفتهم بقوله: ((ثم ينجو المؤمنون، فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر، سبعون ألفاً لا يحاسبون، ثم الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء)) (5)
والصنف الثاني وهو: 2- الهالك من أول وهلة: ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة كقوله في الأحاديث السابقة: ((مكردس في النار)) و((منكوس فيها)) و ((مكدوس في نار جهنم)) وقوله في رواية أبي هريرة عند البخاري: ((الموبق بقي بعمله)) (6) .
والناس في هذا الصنف هم المنافقون الذين يعطيهم الله تعالى نوراً فينطلقون على الصراط ثم يطفأ نورهم فيسقطون في النار والعياذ بالله ...
وكذلك العصاة والفسقة من الموحدين والله أعلم.
وقوله: ((منكوس فيها)) قال الراغب في كتابه (المفردات في غريب القرآن) (ص505): (النكس قلب الشيء على رأسه). اهـ وقال الفيومي في (المصباح)(ص 625): (ومنه قيل ولد (منكوس) إذا خرج رجلاه قبل رأسه لأنه مخالف للعادة). اهـ.
قلت: مما سبق يتبين لنا أن قوله صلى الله عليه وسلم:((منكوس فيها)). أي مقلوب فيها على رأسه والله أعلم. وقوله:((مكدوس في نار جهنم)). قال ابن الأثير في (النهاية) (4/155): (أي مدفوع، وتكدس الإنسان إذا دفع من ورائه فسقط، ويروى بالشين المعجمة، من الكدش، وهو السوق الشديد. اهـ. وقوله: (الموبق بقي بعمله) قال العيني: الموبق: من وبق: أي هلك، أوبقته ذنوبه: أهلكته). اهـ (7) .
قلت: كما في حديث: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) أي المهلكات.
أما الصنف الثالث وهو: 3- المتوسط بينهما يصاب ثم ينجو: فقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة كقوله في الأحاديث السابقة: ((مخدوش مكلم)) و ((مخدوج به)) وكقوله في رواية أبي هريرة عند البخاري ((ومنهم المخردل ثم ينجو)) (8) . وقوله في رواية أبي هريرة عند مسلم: ((ومنهم المجازى حتى يُنجَّى)) (9) .
والناس من هذا الصنف هم الذين اجترحوا السيئات واكتسبوا الخطايا، فتخطفهم الكلاليب, فتجرح أجسادهم, ثم ينجون بفضل رحمة الله ثم بما قدموه من طاعات في الحياة الدنيا، والله أعلم.
وقوله: ((مخدوش مكلم)) قال ابن الأثير في (النهاية) (2/14): (خدش الجلد: قشره بعود أو نحوه). اهـ. وقال الكرماني: (مخدوش: أي مخموش ممزوق. وهو من الخمش وهو تمزيق الوجه بالأظافير) (10) . وقوله ((مكلم)) من الكلم وهو الجرح. وقوله ((مخدوج به)) من الخداج وهو النقصان كما قال ابن الأثير في (النهاية) (2/12). قلت: والمعنى أن كلاليب الصراط تجرحه فتنقص من جسده، والله أعلم.
وقوله: ((ومنهم المخردل ثم ينجو)) قال ابن الأثير في (النهاية)(3/20): (هو المرمي المصروع، وقيل: المقطع، تقطعه كلاليب الصراط، يقال: خردلت اللحم: أي فصلت أعضاءه وقطعته ومنها قصيدة كعب بن زهير:
يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما لحم من القوم معفور خراديل

أي مقطع قطعاً). اهـ.
قلت: والمعنى الثاني أنسب لسياق الخبر، والله أعلم. وقوله: ((المجازي حتى ينجى)) المجازى: من الجزاء. والمعنى والله أعلم أن ما يحدث له على الصراط من تقطيع وترويع عظيمين إنما هو جزاء له على أعماله الفاسدة, وعلى تقصيره في حق ربه في حياته الدنيا.
كلام الناجين بعد المرور على الصراط: بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود الطويل الذي تقدم ماذا يقول الناجون بعد الانتهاء من المرور على الصراط ونجاتهم من السقوط في النار بقوله بعد أن ذكر مرور الناس على الصراط: ((فيخلصون فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك بعد أن أراناك, لقد أعطانا الله ما لم يعط أحد)) (11) .
نسأل الله تعالى الرحمن الرحيم، أن نكون من الناجين في ذلك اليوم العظيم العصيب، فالنجاة في ذلك اليوم لا تكون إلا بفضل مشيئة الله تعالى ورحمته ثم بما قدمه المرء من أعمال صالحة في هذه الحياة الفانية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويوضع الصراط مثل حد الموسى، فتقول الملائكة: من يجيز على هذا؟ فيقول: من شئت من خلقي، فيقولون: ما عبدناك حق عبادتك))
موقع درر