إن افتقار العبد إلى عبادة ربه وحاجته إليه لا يعدلها حاجة، ونعيمه بها لا يعدلها نعيم، ولما كان الإنسان لا يستطيع جلب ما ينفعه ودفع ما يضره إلا بالاستعانة بالله سبحانه والتوكل عليه، ولما كانت العبادة هي أم المنافع وغايتها، جاء الإرشاد منه سبحانه إلى ضرورة الاستعانة به عز وجل، والتوكل عليه في تحقيق الغاية العظيمة والثبات عليها.

ومن أجمع الأدعية وأنفعها في هذا المقام: ما ورد في سورة الفاتحة من الجمع بين العبادة والاستعانة في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة، الآية: 5]، حيث فرض سبحانه علينا أن نناجيه وندعوه في كل صلاة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقوله تعالى في الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وعلم القرآن جمع في الفاتحة وعلم الفاتحة في هذين الأصلين عبادة الله والتوكل عليه، وإذا أفرد لفظ العبادة دخل فيه التوكل فإنه من عبادة الله تعالى كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} [سورة البقرة، الآية: 21]، وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات، الآية: 56]، وإذا قرن به التوكل كان مأمورا به بخصوصه" [1].

ويقول ابن القيم: "وسر الخلق والأمر، والكتب والشرائع، والثواب والعقاب انتهى إلى هاتين الكلمتين، وعليهما مدار العبودية والتوحيد، حتى قيل: أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب، جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن، وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن، وجمع معاني القرآن في المفصل، وجمع معاني المفصل في الفاتحة، ومعاني الفاتحة في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وهما الكلمتان المقسومتان بين الرب وبين عبده نصفين، فنصفهما له تعالى، وهو {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ونصفهما لعبده وهو {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}" [2].

ولقد تكلم أئمة السلف وكتبوا عن هذه الآية العظيمة، والكتابة مني حول هذه الآية إنما هو جمع لما كتبه الأئمة الأعلام من فوائد ولطائف ولمسات حول هذه الآية العظيمة.

وسأكتفي بذكر الفوائد البيانية حول هذه الآية، ومن هذه اللمسات ما يلي:
أولاً: تقديم مفعولي نعبد ونستعين:
قدم مفعولي (نعبد) و(نستعين) لقصد الاختصاص [3]:
فـ إيَّاكَ: في الجملة الأولى مفعول به مقدّم على فعله وهو: {نَعْبُدُ}.

وإيَّاكَ: في الجملة الثانية مفعول به مقدّم على فعله وهو: {نَسْتَعِينُ}.

وقد أفاد هذا التقديم تخصيصَ وحَصْر العبادة لله وحده دون سواه، فلا يعبد بحق ويستحق العبادة إلا الله وحده، ولا يستعان، وليس أهلاً للاستعانة إلا الله تعالى وحده.

والمعنى: نخصك بالعبادة، ونخصك بالاستعانة، فلا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك؛ إذ لا تصح العبادة إلا لله، ولا يجوز الاستعانة إلا به.

وتأمل قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [سورة البقرة، الآية: 40]، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [سورة البقرة، الآية: 41]، كيف تجده في قوة لا ترهبوا غيري لا تتقوا سواي، وكذلك {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} هو في قوة لا نعبد غيرك ولا نستعين بسواك.

وهذا نظير قوله سبحانه: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر، الآية: 66]، وقوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [سورة الزمر، الآية: 64].
وقوله: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} [سورة الممتحنة، الآية: 4].
وقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [سورة التوبة، الآية: 129].
ولو قيل: نعبدك ونستعينك، لم يفد نفي عبادتهم لغيره [4].

ثانيًا: تكرار ضمير الفصل إياك:
وسر تكرار إياك للتنصيص على طلب العون منه تعالى، فإنه لو قال سبحانه: إياك نعبد ونستعين لاحتمل أن يكون إخبارًا بطلب المعونة من غير أن يعين ممن يطلب، وقيل: أنه لو اقتصر على واحد، ربما توهم أنه لا يتقرب إلى الله تعالى إلا بالجمع بينهما والواقع خلافه [5].

يقول ابن القيم: "وفي إعادة إياك مرة أخرى دلالة على تعلق هذه الأمور بكل واحد من الفعلين ففي إعادة الضمير من قوة الاقتضاء لذلك ما ليس في حذفه فإذا قلت لملك مثلاً إياك أحب وإياك أخاف كان فيه من اختصاص الحب والخوف بذاته والاهتمام بذكره ما ليس في قولك إياك أحب وأخاف" [6].

ثالثاً: التعبير بالعبادة والاستعانة بلفظ الجمع لا الإفراد:
إشارة إلى أهمية الجماعة في الإسلام، المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد والمصلي فرد منهم، ولا سيما إن كان في جماعة أو إمامهم، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه [7].

إياك أعبد لكان ذلك تكبراً ومعناه أني أنا العابد أما لما قال إياك نعبد كان معناه أني واحد من عبيدك، فالأول تكبر، والثاني تواضع، ومن تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله [8].

قال الشوكاني في فتح القدير: "والمجيء بالنون في الفعلين لقصد الإخبار من الداعي عن نفسه وعن جنسه من العباد وقيل: إن المقام لما كان عظيمًا لم يستقل به الواحد استقصارًا لنفسه واستصغارًا لها فالمجيء بالنون لقصد التواضع لا لتعظيم النفس" [9].

رابعًا: قرن العبادة بالاستعانة:
قرنت العبادة بالاستعانة ليدل على أن العبد لا يستطيع أن يقوم بأي عبادة إلا بإعانة الله وتوفيقه، فهو إقرار بالعجز عن حمل هذه العبادة.

فالاستعانة بالله علاج الغرور العبد وكبريائه، و"يجمع بين ما يتقرب به العباد إلى ربهم، وبين ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته" [10].

خامسًا: إطلاق الاستعانة:
يقول الشوكاني: "وإطلاق الاستعانة لقصد التعميم" [11].

وفي روح المعاني ما نصه: "في سر إطلاق الاستعانة ليتناول كل مستعان فيه، فالحذف هنا مثله في قولهم فلان يعطي في الدلالة على العموم. وأيضًا لو كان المراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة يبقى حكم الاستعانة في غيرها غير معلوم في أم الكتاب" [12].

سادسًا: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب:
وسر هذا الالتفات أن الحامد لما حمد الله تعالى ووصفه بعظيم الصفات، بلغت به الفكرة منتهاها فتخيل نفسه في حضرة الربوبية فخاطب ربه بالإقبال، ولذلك تخلص الكلام من الثناء إلى الدعاء، والدعاء يقتضي الخطاب.

فالثناء يحْسُنُ فيه الإِعلانُ العامّ، وهذا يلائمه أسلوبُ الحديث عن الغائب، والعبادةُ الدّعَاءُ يَحْسُنُ فيهما مواجهة المعبود الْمَدْعُوّ بالخطاب.

يقول البيضاوى: "ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد، ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر الذوات، وتعلق العلم بمعلوم معين، خوطب بذلك أي يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة؛ ليكون أدل على الاختصاص وللترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود، فكأن المعلوم صار عيانا والمعقول مشاهدًا والغيبة حضورًا" [13].

سابعًا: تقديم العبادة على الاستعانة:
يقول ابن القيم رحمه الله: "وتقديم العبادة على الاستعانة في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل؛ إذ العبادة غاية العباد التي خلقوا لها، والاستعانة وسيلة إليها.

ولأن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} متعلق بألوهيته واسمه الله، {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} متعلق بربوبيته، واسمه الرب، فقدم إياك نعبد على إياك نستعين، كما قدم اسم الله على الرب في أول السورة.

ولأن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} قسم الرب، فكان من الشطر الأول الذي هو ثناء على الله تعالى، لكونه أولى به {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قسم العبد فكان من الشطر الذي له وهو {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} إلى آخر السورة.

ولأن العبادة المطلقة تتضمن الاستعانة، من غير عكس، فكل عابد لله عبودية تامة مستعين به، ولا ينعكس؛ لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به على شهواته، فكانت العبادة أكمل وأتم، ولهذا كانت قسم الرب.

ولأن الاستعانة جزء من العبادة من غير عكس؛ ولأن الاستعانة طلب منه والعبادة طلب له.

ولأن العبادة لا تكون إلا من مخلص، والاستعانة تكون من مخلص ومن غير مخلص.

ولأن العبادة حقه الذي أوجبه عليك، والاستعانة طلب العون على العبادة، وهو بيان صدقته التي تصدق بها عليك، وأداء حقه أهم من التعرض لصدقته.

ولأن العبادة شكر نعمته عليك، والله يحب أن يشكر، والإعانة فعله بك وتوفيقه لك، فإذا التزمت عبوديته، ودخلت تحت رقها، أعانك عليها، فكان التزامها والدخول تحت رقها سببا لنيل الإعانة، وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة من الله له أعظم، والعبودية محفوفة بإعانتين إعانة قبلها على التزامها والقيام بها وإعانة بعدها على عبودية أخرى وهكذا أبدا حتى يقضي العبد نحببه.

ولأن إياك نعبد له وإياك نستعين به وماله مقدم على ما به؛ لأن ماله متعلق بمحبته، ورضاه وما به متعلق بمشيئته، وما تعلق بمحبته أكمل مما تعلق بمجرد مشيئته، فإن الكون كله متعلق بمشيئته، والملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار والطاعات، والمعاصي والمتعلق بمحبته طاعاتهم وإيمانهم، فالكفار أهل مشيئته، والمؤمنون أهل محبته، ولهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدا وكل ما فيها فإنه به تعالى وبمشيئته.

فهذه الأسرار يتبين بها حكمة تقديم إياك نعبد على إياك نستعين" [14].


[1] جامع الرسائل لابن تيمية - رشاد سالم (1/ 91).
[2] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/95).
[3] تفسير الزمخشري (1/ 3).
[4] تفسير الرازي (1/247).
[5] روح المعاني (1/90).
[6] مدارج السالكين (1/78).
[7] تفسير ابن كثير (1/135).
[8] تفسير الرازي 150).
[9] فتح القدير (1/35).
[10] تفسير الكشاف (1/57).
[11] فتح القدير للشوكاني (1/ 27).
[12] روح المعاني (1/90- 91).
[13] تفسير البيضاوى (1/63).
[14] مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 75- 77).

المصدر: باحثي مركز تفسير