الدال على الخير كفاعله



الخميس 23 سبتمبر 2010

ها هو الشاب قد خرج من رمضان بعد أن زاد إيمانه حتى ملأ قلبه، يحدوه الشوق للدعوة إلى الله جل في علاه، يشتاق أن يذيق الناس برد الإيمان وحلاوة الطاعة التي ذاقها، فمع أول أيام كليته أخذ يدعوا هذا لحفظ القرآن، وهذا يدعوه لحضور الدروس العلمية، ومع هذه الحياة السعيدة في كنف الله، واجه صاحبنا بعض السخريات من قبل أصدقائه لما يبدو عليه من مظاهر الالتزام بطريق الله عز وجل، ومع تزايد السخرية أصاب صديقنا بعض الإحباط وبعض الخجل، وتبدل حاله من الرغبة المشتعلة في الدعوة إلى الله، إلى الانكماش والركون، وأصبح يجلس في بيته خوفًا من سخرية الناس واستهزائهم.

سبب خجل بعض الدعاة:

إننا حينما نتكلم عن سبب خجل بعض الدعاة من نصيحة الناس ودعوتهم مثلًا إلى حفظ القرآن وغيره من الأعمال الخيرية، هو عدم وجود شعور بالمسئولية الفردية تجاه الناس، (فيمثل الشعور بالمسئولية نقطة الانطلاق في النشاط والعمل الدعوي، إذ هو الذي يدفع الداعية للعمل والبذل وتحمل أعباء الدعوة ومشاقها، فإننا بحاجة اليوم إلى غرس هذا المفهوم في نفوس الناشئة، وأن يشعروا أن المسئولية تجاه الدعوة) [تربية الشباب، محمد الدويش، ص(124)].

المعادلة الربعية:

أريدك أيها الشاب أن تسمع إلى هذه الكلمات (الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام) [تاريخ الطبري، (3/34)، والبداية والنهاية، ابن كثير، (7/46-47)].

بهذه الكلمات الرِّبْعِية النورانية، التي امتلأت عن آخرها فخرًا واعتزازًا بالانتساب لهذا الدين، يَخُطُّ ذلك الصحابي الجليل معالم المنبع الثاني من منابع النور، ويرسمه أمامك يا طالب حياة النور، فلقد قال رضي الله عنه تلك الكلمات التي تنبض بما في قلب صاحبها من إيمان ويقين، ومن عزة الانتساب لهذا الدين.

قالها وهو يواجه قائد الفرس في معسكرهم يوم القادسية، فاه بها ربعي رضي الله عنه، وعليه حُلَّته المتواضعة، وهو يرى أمامه بهرج الذهب والحرير، وزينة الحياة الدنيا، مما حاول من خلاله الفرس أن يبهروه، وأن يشعروه بالضآلة والصغر، في محاولة يائسة لإيقاع الهون والضعف بالمسلمين.

ولكن النفوس الأبية، التي تخلل النور شغافها، كانت قد ارتوت عن آخرها بماء الإيمان، فامتلأت عزًا وفخارًا بالانتساب لحياة النور، فما عاد يرهبها أو يُغرِيها متاع زائل، أو زخرف زائف، ومن ثَمَّ؛ فقد لقَّن ربعي الفُرس، بل ولقَّننا معهم من خلال هذه الكلمات درسًا في فن استعلاء الإيمان.

إنه ذلك النبع العظيم، الذي طالب الله تعالى المؤمنين بأن يتضلعوا من معينه، يوم أن أصابتهم هزيمة غزوة أحد، إنه استعلاء الإيمان، الذي جعله الله تبارك وتعالى واجبًا على كل مؤمن لابس الإيمان قلبه، فقال عز وجل: {لَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: ١٣٩].

ولقد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة ونحن نقرأ هذه الآية، أن هذا التوجيه الإلهي إنما هو خاص بحالة الهزيمة في أثناء الجهاد في سبيل الله، ولكن الحقيقة هي أن الشعور باستعلاء الإيمان إنما يُمَثِّل الحالة الدائمة المستقرة، التي ينبغي أن يكون عليها شعور المؤمن أمام كل ما يخالف شرع الله تعالى.

الاستعلاء على قيود الشهوات، وأغلال المحرمات، الاستعلاء على كل قوى في الأرض حادت عن منهج النور، وعلى كل قيمة في الأرض لم تنبثق من أصل النور، وعلى كل تقاليد في الأرض لم يُصِغْها النور، وعلى كل أوضاع في الأرض لم يُنْشِئها النور، الاستعلاء الذي لا يتهاوى أمام ضغط أو فتنة، أو عُرْف اجتماعي أو وضع مقبول عند الناس، ولا سند له من حياة النور.

أبي الإسلام:

وإنما نعني بالاستعلاء ذلك الشعور بالعزة والفخر، الذي يمتلئ به قلب المؤمن، لا لشيء إلا لأنه يعلم قيمة ما معه من الحق المبين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ذلك أن الذي يعيش حياة النور إنما يعيش في الدنيا وهو يعمل بطاعة الله، على نور من الله، يرجو ثواب الله، ويترك ما يسخط الله، على نور من الله، يخشى عقاب الله، ومن ثَمَّ؛ فإن حياته تلك لا تُقارَن بحياة من عاش في الدنيا على مراد نفسه، أسيرًا لشهواته، ومكبلًا بهواه.

ولئن افتخر الغافلون بأموالهم وشهواتهم، ووظائفهم وأوضاعهم الاجتماعية، فإن المؤمن لا يعرف غير دينه مصدرًا لفخره وعزته، وهو يردد مع سلمان الفارسي رضي الله عنه، عندما افتخروا عليه بأنسابهم وأحسابهم، فقال يعلمنا درس الاستعلاء:

أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم

ولأجل ذلك؛ فإن سالك طريق النور، إذا انغمس حقًا بكليته في حياة الأنوار؛ فإنه لا يطيق أن يستخفي بالتزامه، ولا يخالجه أدنى شعور بالخجل من مواجهة المجتمع بحياته الجديدة على الإطلاق، إذ كيف يخجل مَن يمشي على درب محمد صلى الله عليه وسلم؟! كيف يخجل وهو يحمل بين جنباته طرفًا من النور، الذي أضاءه الله تعالى للعالمين رحمة بهم؟!

ولقد يرى طالب النور أغلب الناس من حوله قد تنكبوا عن الصراط المستقيم؛ فيشعر بوحشة الغربة من حوله، وهو يرى نفسه ومن معه من سالكي طريق الأنوار قلة قليلة، لا يُقارَن عددها بمن لا يزالون يعيشون في ظلمات الغفلة، ويتخبَّطون في تيه الأهواء واللذات، يذهب إلى أي مكان.

يشعر بأن المجتمع بأسره يستغرب ما آلت إليه حاله، كيف استبدل سماع الأغنيات بسماع الآيات؛ كيف هجر شغفه الزائد بحضور المباريات، وأدمن بدلًا منه رياض الذكر في بيوت الله تعالى، كيف فقد اهتمامه بمصادقة الفتيات، وتَطَلَّع بدلًا من ذلك إلى رؤية الحور الحسان في فراديس الجنان، كيف تَبدَّلت اهتماماته التافهة على هذا النحو، كيف انتقل تلك النقلة البعيدة؛ فلم يعد يشغله في الدنيا إلا هدف واحد: كيف يرضى الله تبارك وتعالى عنه؟

ولكن سرعان ما يتبدل ذلك الشعور الوهمي بالغربة والوحشة، حينما يغمر قلبه نور الاستعلاء بالإيمان، بل يَمضِي إلى أبعد من ذلك؛ فيخاطب من يرونه غريبًا بما معه حق ويقين؛ فيُصَحِّح لهم المفاهيم، مرددًا خلف عبد الوهاب عزام رحمه الله يوم أن قال:

قال لي صاحب أراك غريبًا بين هذا الأنام دون خليل
قلت كلا بل الأنام غريب أنا في عالمي وهي سبيلي

نعم، فهذا الأنام هو الغريب حقًا، لا أنت يا طالب الأنوار، فلقد غدا غريبًا يوم أدار ظهره لشرع الله تعالى، وسقط في غياهب الغفلة وغيابات جب الأهواء، حينما خدعته الأماني الكاذبة، وانبرى يسعى وراء سراب الشهوات، غريبًا عن الوجود بأسره الذي يردد نشيد العبودية لله تعالى ليل نهار، بما فيه من أفلاك وكائنات، لا يعلم مداها إلا الذي خلقها وسواها: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:٤٤].

صبرًا آل ياسر:

وهذا عمار وأمه سمية، وأبوه ياسر رضي الله عنهم جميعًا، قد تحمَّلوا في سبيل إسلامهم ما لم يتحمَّله بشر، وما أن علم بنو مخزوم بإسلامهم، حتى انقضوا عليهم، يذيقونهم أشد العذاب ليفتنوهم عن دينهم، ويرجعوهم كفارًا بعد أن هداهم الله إلى الإسلام.

وفي بطحاء مكة، حيث ترسل الشمس شواظًا من لهب، قضى آل ياسر أيامًا في عذاب مقيم، ومرَّ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يُعذَّبون، وسمع ياسرًا يئن في قيوده، وهو يقول: الدهر هكذا، فنظر الرسول صلوات الله وسلامه عليه إلى السماء، ونادى: (أبشروا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة).

وسمع آل ياسر النداء؛ فهدأت نفوسهم، وسكنت قلوبهم، فلما أتاهم أبو جهل لعنه الله، كان استهزاؤهم بالموت وعلوُّهم على الحياة، أعظم درس في فن استعلاء الإيمان، لقد استشهدت سمية رضي الله عنها، وكانت أول شهيدة في الإسلام، ثم تبعها ياسر، وكان أول من استشهد من الرجال.

وبقي عمار يغالب العذاب، ويصابر الألم، حتى بلغ به الجهد كل مبلغ، واضطر أن تلفظ ظاهرًا بكلمة الكفر، حتى يكفُّوا عنه ويُطلِقوه، ولكن قلبه الطاهر بقي عامرًا باليقين والإيمان، ونزل في حقه قوله سبحانه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}[النحل: ١٠٦][سيرة ابن هشام، (1/319)، والسيرة النبوية، ابن كثير، (1/494)، وصفة الصفوة، ابن الجوزي، (1/77)].

أحد أحد:

وكان بلال رضي الله عنه مولى أمية بن خلف الجمحي، فكان أمية يضع في عنقه حبلًا، ثم يُسَلِّمه إلى الصبيان يطوفون به في جبال مكة ويَجرُّونه، حتى كان الحبل يُؤَثِّر في عنقه، وهو يقول: أحد أحد.

وكان أمية يَشدُّه شدًا، ثم يضربه بالعصا، ويُلْجِؤه إلى الجلوس في حَرِّ الشمس، كما كان يُكرِهه على الجوع، وأشد من ذلك كله، أنه كان يُخرِجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في الرمضاء، في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله، لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول بلال وهو في ذلك: أحد أحد، ويقول: لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم لقلتها [حلية الأولياء، أبو نعيم، (1/76)، وسيرة ابن هشام، (1/317)، وتاريخ دمشق، ابن عساكر، (10/442)].

من الدعة والترف إلى ذروة الشرف:

وهذا مصعب بن عمير رضي الله عنه، نشأ في الترف، ورُبِّيَ في الرفاهية والنعمة، وكان فتى مكة شبابًا وجمالًا، وكان أبواه يحبانه حبًا شديدًا، وكانت أمه مليئة، كثيرة المال، تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وأرقَّها، وكان أعطر أهل مكة، يلبس الحضرمي من النعال.

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فدخل عليه، وأسلم وصدَّق به، وخرج فكتم إسلامه، خوفًا من أمه وقومه، ولما كشفوا أمره؛ أخذوه فحبسوه، فلم يزل محبوسًا حتى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى. [صفة الصفوة، ابن الجوزي، (1/67)].

ثم رجع مع المسلمين حين رجعوا، يقول خباب بن الأرت: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه الله، فوجب أمرنا على الله، فمنا من مضى ولم يأكل من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير، قُتِلَ يوم أحد، فلم يوجد له شيء يُكَفَّن فيه إلا بردة.
قال: فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه خرجت رأسه، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر) [رواه البخاري].

ولقد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الفتى وهو مقتول مسجَّى في بردة، فقال له والدموع تزدحم في عينه: (لقد رأيتك بمكة، وما بها أحد أرق حلة، ولا أحسن لمة منك، ثم أنت شعث الرأس في بردة)، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: ٢٣] [سبل الهدى والرشاد، الصالحي الشامي، (4/226)].

ماذا بعد الكلام؟

ـ اقرأ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتأمل في تضحيته من أجل هذا الدين، وكيف تحمل الأذى.
ـ تذكر حال المسلمين المستضعفين في كل مكان، وأن واجبك هو التضحية وتحمل شيئًا من أجل الله تعالى.

المصادر:
ـ حلية الأولياء، أبو نعيم.
ـ سيرة ابن هشام.
ـ تاريخ دمشق، ابن عساكر.
ـ صفة الصفوة، ابن الجوزي.
ـ السيرة النبوية، ابن كثير.
ـ تاريخ الطبري.
ـ البداية والنهاية، ابن كثير.
ـ تربية الشباب، محمد الدويش.
ـ سبل الهدى والرشاد، الصالحي الشامي.



مفكرة الإسلام