بسم الله الرحمن الرحيم

سأحاول إبداء ملاحظات حول قضية كبرى كتب حولها الكثير، لأنها أثارت صراعات وجدلا شائكا، بل أسهمت في حدوث مواجهات واندلاع حروب، وتنامى البغض بين معتنقي عقائد مختلفة، إنها قضية فصل الدين عن السياسة، أو ما يسمونه بفصل الدين عن الدولة، باعتبار >الدولة< تجسم مكونات المجال السياسي، وكل ما يرتبط به تأثرا وتأثيرا، بل هو المشروع السياسي والأيديولوجي الكبير للقوى العظمى، التي تجد في تطبيقه في الدول الإسلامية، وخاصة التي مازالت آثار بعض التعاليم الإسلامية تتخلل بعض قوانينها وتشريعاتها·
جرت العادة على تقسيم القانون بصفة عامة إلى قانون سماوي وقانون وضعي، مما جعل النظرة إلى طريقة تطبيقها والحدود التي تفصل بينهما، تختلف تبعا لا ختلاف مصدر كل منهما، ذلك أن من القوانين الوضعية ما يستلهم بعض القواعد التشريعية من القانون السماوي، سواء كان الكتاب السماوي صحيحا، أو انتابه التحريف عبر الأزمنة التي تعاقبت عليه، وقد تكتفي بعض التشريعات باستلهامه في مجالات جد ضيقة من الحياة العامة، مستأنسة فقط بما ورد في ذلك الكتاب السماوي من أمور الزواج أو الطلاق، أو الإرث أحيانا، أو تنظيم العلاقة بين الناس وبين أماكن العبادة، وضمان حقهم في ممارسة شعائرهم الدينية، مادامت لا تتدخل في الشؤون السياسية والقرارات الإدارية وغيرها، ولكنها لا تعير أي اهتمام لقضية الحلال والحرام، والمعاملات الاقتصادية والتجارية، والنظام القضائي والجبائي وأسلوب توزيع ثروات البلاد على أهلها، ومناهج التعليم والسلوكات الأخلاقية، وطريقة التعامل مع الدول الأخرى، أي لا يهمها أوامر الدين ونواهيه في تلك المجالات التي تحكم حياة الإنسان، وتوجه سلوكه، وذلك تحت ذريعة مصطلح سياسي خطير هو >فصل الدين عن الدولة<·
لقد قررت تلك القوى العظمى منع تدخل تشريعات الدين في تدبير الشأن العام للدولة، لأن السلطة العليا بمعية ممثلي الشعب المنتخبين وفق قانون وضعته السلطة العليا مستعينة أحيانا بنخبة معينة، هما اللذان يخول لهما القانون الذي شرعاه تدبير الشأن العام، وقد استمد هذا الفهم للعلاقة بين الدين والسياسية من استقلالية الكنيسة بالشؤون الدينية مع بعض التوجيهات المحدودة في مجال سن القوانين، وترك كافة شؤون الناس لتشريعات المشرع الوضعي، فبدا هذا الأمر طبيعيا مقبولا في عالم الديانات غير الإسلامية، فإذن فصل الدين عن الدولة في عالم تسود فيه تلك الطقوس الدينية، أمر يسهل معه فرض ما سمى بالدولة العلمانية التي لا نريد أن نخوض في دلالتها الأيديولوجية والسياسية، لنكتفي بالقول بأن الذين أنشأوا الدولة العلمانية، أو الذين يسعون إلى فرضها بالقوة تحت شعارات براقة، على الدول الإسلامية خاصة، لا ينبغي لهم أن ينكروا أنهم يفرضون بنهجهم هذا >الديانة العلمانية< أو >العقيدة العلمانية< لأنها تحمل كامل مكونات >العقيدة< وعليه فإنهم يسعون إلى إرغام الدولة الإسلامية خاصة على تبني عقيدة جديدة نسج الغرب خيوطها حسب مصالحه وأهوائه، وإصراره على تقويض دعائم الإسلام وإضعافها في نفوس معتنقيه، أو القضاء عليها لتحقيق أغراض سياسية اتضحت لكل من يراقب ما يجرى في العالم اليوم، منها استغلال كل تلك المعطيات لهدف اقتصادي واستراتيجي هام، هو استغلال ثروات الدول الإسلامية ولا سيما ثروات الدول العربية، والتحكم في النقط الاستراتيجية عسكريا لضبط كل ما يهدد مصالحها ومصالح إسرائيل·
لكن المعضلة الكبرى التي واجهها الفكر الإسلامي في تطبيق الإسلام، هي أن السلطة الإسلامية الحاكمة مغلوبة على أمرها، حتى وإن كان الكثير منها يؤمن في قرارة نفسه بأن الإسلامي الصافي من الشوائب التي الصقت به عبر العصور، صالح لكل زمان ومكان، كما يؤمن بأن اتباع المنهج الإسلامي الصحيح المتجنب لكل ما يشتبه في كونه مخالفا لجوهر الإسلام، ولا سيما ثوابته التي ورد فيها النص ورودا بينا، المنهج الذي يدعو إلى تطبيق الإسلام تطبيقا مرنا، يحرم كافة أشكال الاعتداءات (ومنها المصطلح الذي أقام الدنيا ولم يقعدها الإرهاب والتطرف، النص القرآني والأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة مليئة بالتحذير من الظلم بكافة صوره ومسوغاته الإيديولوجية والسياسية) ذلك المنهج الإسلامي المراعي لظروف كل عصر وكل شعب إسلامي، تميزه خصائص وتقاليد عن شعب إسلامي آخر، حسب الجنس، والرقعة الجغرافية، واللغة··· مراعاة تسعى إلى احترام الثوابت، والتصرف في المتغيرات بما لا يتعارض مع جوهر النصوص الدينية، ويتناسب مع خصائص هذا الشعب الإسلامي أو ذلك، تيسيرا لتلاؤم الثوابت والمتغيرات في التشريع الإسلامي مع طبيعة كل شعب مسلم، له خصائصه وتقاليده التي ينبغي ان يتعامل معها هذا التشريع الإسلامي بمرونة لا تحل حراما ولا تحرم حلالا، ولا تحمل الناس ما لا يطيقون، لقول النبي [: >يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا< >1<، ولا تتناقض طبعا مع فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها مع مراعاة طبائع الأطراف غير المسلمة التي تفرض طبيعة الحياة التعامل معها، وما أكثر مجالات الاجتهاد والقياس والإجماع·· التي بإمكانها تحقيق تلك المرونة، المبلغة لليسر إذ >خير دينكم أيسره<·
لكن ما هي اتجاهات التفكير >السياسي< في العالم الإسلامي عند المنظرين السياسيين، والممتهنين للعمل السياسي بأي أسلوب أو أي منهج، مؤيدين للسلطة الحاكمة، أو معارضين لها لبلوغ غاية سياسية معينة، الموضع معقد تعقيدا يتحكم فيه توجيه الفكر السياسي، بل جميع أنماط الحياة من قوة عظمى تصارع على الاستحواذ على عقل الشعوب وتسييرها حسب مصالحها ومعتقداتها ومزاجها، ومن المؤسف أن فكر هذه القوى معاد للإسلام باعتباره الدين الوحيد الذي لم يدنسه أي تحريف أو تشويه في منبعه الصافي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، إنه المنبع النقي الذي يقض مضجع جميع أعداء الإسلام، حيث اشتعلت نار حسدهم فأكلت قلوبهم، لما رأوا باقي الديانات مزقها التحريف والتشويه، كما تبين لهم أن العقائد الأخرى التي فرضوها تحت شعارات مختلفة مثل العلمانية والليبرالية لم تنتج لهم إلا التخبط في مشاكل عويصة كالجرائم ومختلف أساليب العنف والانحرافات التي تجلب أمراضا خطيرة جسيمة ونفسية، وشيوع أسلحة الدمار، التي عجز عن السيطرة عليها صانعوها والمتحكمون في تسويقها، وتفكك الأسرة، واليأس القاتل المتمثل في الانتحار، والبحث عن بصيص من الطمأنينة الوهمية في المخدرات···إلى غير ذلك من مكونات المشاهد المفزعة والمؤلمة التي يشهدها العالم وذلك لانعدام الموجه المنبث من تلك الديانات قبل أن تحرف أو على الأقل من الضمير الأخلاقي، وتهميش القاعدة الأساسية التي يبنى عليها صلاح المجتمع واطمأنان أفراده، ألا إنها الأخلاق الفاضلة الكابحة لجماح النفس لتي أطلق لها العنان فكانت الطامة حيث اتسع الخرق على الراقع رغم عبقريته، في حين بقى الموجه النابع من تعاليم الإسلام الحنيف الذي قال فيه تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له الحافظون} >الحجر-9<، يقول الزمخشري: >رد لأنكارهم واستهزائهم في قولهم: {يا أيها الذين نزل عليه الذكر إنك لمجنون} >الحجر - 6<، ولذلك قال: إنا نحن، فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع والبتات، وأنه هو الذي بعث به جبريل إلى محمد [ وبين يديه ومن خلفه رصد، حتى نزل وبلغ محفوظا من الشياطين، وهو حافظه في كل وقت من كل زيادة ونقصان، وتحريف وتبديل، بخلاف الكتب المتقدمة، فإنه لم يتول حفظها، وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغيا، فكان التحريف ولم يكل القرآن إلى غير حفظه) >2<·
ومن دواعي انكارهم نزول القرآن الكريم من الله عز وجل على نبيه محمد [ ما ورد في قوله تعالى:{ والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم} >محمد-9<، وعن ابن عباس ]، يريد في الدنيا القتل، وفي الآخرة التردي في النار >كرهوا< القرآن وما أنزل الله فيه من التكاليف والأحكام، لأنهم قد ألفوا الإهمال وإطلاق العنان في الشهوات والملاذ فشق عليهم ذلك وتعاظمهم >3<·
وعليه فإنه يمكن اختصار أسباب رفض الكفار لتعاليم كتب الله المنزلة، عبر العصور، ولاسيما ا لقرآن الكريم الذي ختمها ونسخها {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن قبل منه} >آل عمران - 87< في كون الرافضين لأوامر الله تعالى ونواهيه يخشون فقدان امتيازاتهم، وحرمانهم من التمتع بجميع ملذات الحياة دون تمييز الطيب من الخبيث أي بين الحلال والحرام ، وكذا الحد من بطش القوى واستغلاله للضعيف، وإطلاق العنان لنزواته، والانقياد وراء الرذائل بعد ذبح الفضائل، والتذرع باحترام ما وجدوا عليه آباءهم من الضلال، ويضيف فكر القوة العظمى حاليا حقدها على الإسلام والمسلمين - وضمنهم العرب -فكرهت تلك القوى العظمى الحالية ومن يدور في فلكها الدين الإسلامي وحسدت معتنقيه على ما يربيهم عليه من أخلاق فاضلة أصبحت مفقودة في المجتمع الغربي >المتحضر<، مما كلفهم - مثلا- إنفاق أموال باهظة على أمراض سببتها حضارتهم التي تعتبر سلاحاً ذا حدين، فهم الآن يؤدون أثمنة باهظة على مختلف الأصعدة، على الرغم من امتلاكهم وسائل القوى والتحكم، لذلك دابت هذه القوى العظمى واذيالها على إكراه المسلمين على الانسلاخ من تعاليم دينهم الحنيف ترغيبا وترهيبا وإغراء فغرسوا في تفكيرهم وتفكير شبابهم خاصة الباطل والانحلال الخلقي والإحباط النفسي، والوعود البراقة، بدعوى الخروج من نفق التأخر إلى فضاء التقدم والحرية، والتمتع بما تدره عليهم >حقوق الإنسان والديمقراطية >شعارهم البراق، من أمن وعيش كريم···، وما أسهل دفع ضعاف الإيمان وكل شاب مازال غراً طرياً عديم التجربة والرؤية الواضحة قضى الفقر والظلم على آماله، إلى الانسلاخ عما يقيد عقله وعاطفته بقيود مصدرها حكمة الله تعالى التي افعمتها بالخير والنعم التي لا تعد ولا تحصى ولا يدرك من أطاع ربه ورسوله الكريم ما وراء تلك القيود التي أتت بها تعاليم الإسلام، من خير عميم ونعم ربانية وطمأنينة لا تحققها مغريات الدنيا التي لا تساوي أمام المؤمن المتقى ربه المطمئن جناح بعوضة·
إن كل مطلع على المقاصد العامة للشريعة الإسلامية والمنهج العام للقرآن الكريم والسنة النبوية في توجيه الفرد والجماعة على المستوى الروحي والمادي سيستغرب ما ينادي به بعض المنتسبين للإسلام المغلوبين على أمرهم، بتنفيذ خطة أعداء الإسلام في ما يرجع لفصل الدين عن الدولة، بدعوى أن المسلمين أحرار في طريقة عبادتهم لربهم، ولكن تسيير شأنهم العام ينبغي أن لا يتدخل فيه التشريع الإسلامي، غريب تلك الفئة المنتسبة للإسلام حين وضعت تفكيرها في إطار تفكير أصحاب معتقدات ليس لها وازع ديني فأرادت تقليدها، انسياقا مع أطروحة أعداء الإسلام الذين يقيسون الإسلام بما ينسب إليه حاليا من تشجيعه على >التطرف والإرهاب< ومن المفارقات أن بعضهم يصرح في بعض المحافل السياسية، حسب مقتضى ذلك الحال، بأن الإسلام متاسمح، ولكن قلة من المسلمين هي التي اتسم سلوكها بالتطرف والإرهاب، لذلك جردته من شقه الثاني في تطبيقه، إنه المعاملات وتسيير الشأن العام بصفة عامة، على المستوى السياسي والتشريعي والقضائي والتنفيذي ، وفي المجال الاقتصادي والتعليمي والتربوي والاجتماعي والفكري··· مع أن المنهج الإسلامي لا يقبل بالمرة أن تفصل فيه العبادات عن المعاملات أو التعبير المذكور >فصل الدين عن الدولة< يقول تعالى: {ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الظالمون} >المائدة- 459<، ويقول تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} >النساء- 65<·
ويقول عز وجل: {إنا انزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما اراك الله} >النساء- 105<، والمقصود بما عرفك الله وأوحى به إليك، أما غير النبي [ فعليه أن يجتهد رأيه، ذلك أن استحالة فصل الدين الإسلامي عن الدولة يبينه بكل بساطة كون المسلم يوجه سلوكه العام إيمانه وتقواه وخوفه من ربه، أي ارتباط العبادات بالمعاملات ارتباطا عضويا، والمثل الجامع البليغ قوله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} >العنكبوت - 45<، إن الفحشاء والمنكر هما اللذان يتخللان جوهر سلوكات الإنسان وضمنها السلوكات السياسية والاقتصادية والتربوية وغيرها، فلم يستطع أولئك المفكرون ان يتصوروا انه يمكن تطبيق الإسلام تطبيقا مرنا يراعي ثوابته، ويراعي ربط علاقة تبادل المصالح في إطار السلم والاحترام المتبادل مع غير المسلمين كيفما كانت معتقداتهم، وانه يدعو إلى الابتكار والتصنيع، والبحث عن كل ما يسعد البشرية، ولا يضرها، أو ما يسمى بالتقدم العلمي، لكن بمراقبة الأخلاق الإسلامية لكل ذلك - والمطلوب طبعا هو على الأقل تطبيق العدل النسبي- الذي يقلل من الظلم واثاره الخطيرة، التي تضافرت مع تنفيذ مخطط الحاقدين على الإسلام ومعتنقيه·


< الهوامش
1- صحيح البخاري
2- تفسير الكشاف 550/2، رتبه وضبطه وصححه محمد عبدالسلام شاهين، ط·الأولى 1995، دار الكتب العلمية·
____________________________________________
المصدر : مجلة الوعي الإسلامي