التفسير العقدي لجزء عم

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات


مـواقـع شـقــيـقـة
شبكة الفرقان الإسلامية شبكة سبيل الإسلام شبكة كلمة سواء الدعوية منتديات حراس العقيدة
البشارة الإسلامية منتديات طريق الإيمان منتدى التوحيد مكتبة المهتدون
موقع الشيخ احمد ديدات تليفزيون الحقيقة شبكة برسوميات شبكة المسيح كلمة الله
غرفة الحوار الإسلامي المسيحي مكافح الشبهات شبكة الحقيقة الإسلامية موقع بشارة المسيح
شبكة البهائية فى الميزان شبكة الأحمدية فى الميزان مركز براهين شبكة ضد الإلحاد

يرجى عدم تناول موضوعات سياسية حتى لا تتعرض العضوية للحظر

 

       

         

 

 

 

    

 

التفسير العقدي لجزء عم

صفحة 5 من 6 الأولىالأولى ... 4 5 6 الأخيرةالأخيرة
النتائج 41 إلى 50 من 58

الموضوع: التفسير العقدي لجزء عم

  1. #41
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    سورة الانفطار
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
    بسم الله الرحمن الرحيم
    (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19))
    سورة الانفطار تشابه سورتي التكوير قبلها، وسورة الانشقاق بعدها, وقد ورد فيها حديث : (من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انشقت، وإذا السماء انفطرت )رواه الترمذي، وأحمد، وصححه الألباني .
    ومن مقاصد هذه السورة :
    المقصد الأول : الإيمان باليوم الآخر، وبيان أهوال القيامة.
    المقصد الثاني : بيان ربوبية الله، وعظيم منته على الإنسان .
    المقصد الثالث : الرد على منكري البعث .
    المقصد الرابع : إثبات الحساب والجزاء .
    المقصد الخامس : الإيمان بالملائكة .
    المقصد السادس : الإيمان بالجنة والنار .
    (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ) : (إذا) شرطية, ومعنى (انْفَطَرَتْ) أي انشقت، وتصدعت, كما قال الله عز وجل : (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ),(إذا السماء انشقت) .
    (وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ) : (الكواكب) هي النجوم, ومعنى (انتثرت) أي تساقطت، وتفرقت, يعني كأنها تساقطت متفرقة .
    (وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ) : أي امتلأت، وفاضت، وانفتح بعضها على بعض, بأن يطغى الماء، فيدخل ماء البحر على ماء النهر. وقيل في معنى (فجرت) ما تقدم من المعاني في سورة التكوير؛ أنها بمعنى (سجرت) أي تسجر، وتشتعل، فيكون هذا بمنزلة التفجير. ويقول بعض المعاصرين، إنه يمكن أن يكون هذا التفجير يرجع إلى الطبيعة الذرية لمكونات الماء , فالماء عند أهل الفيزياء مكون من ذرتي هيدروجين،وذرة أكسجين، وأنه يقع اختلال في النظام النووي لهذا التكوين، فيقع انفجارات هائلة بسبب ذلك, كانفجار القنابل الذرية .
    (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ): (القبور) هي مدافن الموتى، ومعنى (بعثرت) أي نبشت, وقلبت, وأثيرت, وبعث من فيها .
    (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) : (نفس) يعني كل نفس , (ما قدمت وأخرت) اختلف المفسرون في التقديم والتأخير، مع اتفاقهم على أن ذلك متعلق بالعمل. فذهب بعضهم إلى أن المقصود بقوله (ما قدمت) أي ما قدمت من عمل صالح، وبقوله (وأخرت) أي ما أخرته من عمل صالح بعد موتها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم. يعني ما قدمت من عمل صالح، أو أخرته، وأجرته بعد موتها، كالأوقاف، والوصايا، وما أشبه. وقال بعضهم: (ما قدمت) يعني ما أدت من الواجبات، والفرائض، (وأخرت) ما تركت، وأهملت من الواجبات، والفرائض, وذهب فريق ثالث إلى العموم، وأن المراد ما قدمت من خير أو شر، وأخرت من خير أو شر, وعلى أي حال، فالآية تدل على علم الإنسان يقيناً يوم القيامة بحصيلة عمله من خير أو شر. والعموم أولى بالأخذ، لقول الله تعالى يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) , وقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ). وجواب الشرط: قوله (علمت نفس) .
    (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ): هذا الأسلوب فيه عتاب مؤثر للغاية. (الإنسان) ذكر بعض المفسرين أن لمراد بالإنسان، في القرآن المكي، الإنسان الكافر، لا جنس الإنسان. (ما غرك) "ما" استفهامية، والمعنى: ما الذي زين لك، وسول لك, فهذا استفهام إنكاري، ينكر على هذا الإنسان المنفلت، تركه لعبادة الله عز وجل. (بربك الكريم) هو رب بمعنى خالق , ورازق, ومدبر, وفوق ذلك هو كريم عليه, ولطيف به، فأي شيء يغرك به، ويسول لك ترك عبادته، ويزين لك معصيته ؟!
    (الذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ): معنى (خلقك) أي أنشأك، وأوجدك من العدم, فقد أوجد أبانا آدم، عليه السلام، من العدم. ومعنى (فسواك): أي من أي عَدّل خلقك, وكملك، فصرت مستقيم القامة , لست كهيئة الحيوانات التي تمشي على أربع, بل أنت معتدل مستقيم. ومعنى (فعدلك) : أي جعلك على أحسن هيئة .
    (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) أي أنه لو شاء ركبك في أي صورة , فلو شاء لجعلك مسخاً, لكنه جعلك في صورة كريمة، وهي هذه الصورة التي خلقك عليها، إما أن تنزع بشبهك إلى أمك، أو إلى أبيك، أو إلى عمك، أو إلى خالك, وهذا من بديع خلق الله, فلا تجد بشرين متطابقين تمام المطابقة, وهذه سعة لا يملكها أحد إلا الله, لكل إنسان صورة مستقلة، متفردة، حتى التوائم المتشابهة، التي تخرج من انفلاق بويضة مخصبة واحدة، لا يمكن أن تتطابق, بل تجد بينهما فروقاً. لكن هذه الصور، منها صور متباينة، ومنها صور متقاربة في الأطوال، والألوان، والسمات, حتى إن بصمة الإنسان لا يشابهها بصمة! من ذا الذي يقدر على هذا أن يوجد من الاحتمالات، من أول مخلوق إلى آخره، ما لا ينطبق على غيره؟ هذا شيء عجيب !
    وهذا الخلق الذي أجمل الله ذكره، يستطيع أن يتأمله كل مخاطب وإن كان بسيطاً؛ فالأعرابي في باديته , والأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، حينما يُسَرِّح طرفه، ويفكر بعقله، يجد عجباً، وينبهر، ويندهش من سعة خلق الله، وبديع صنعه، وتدبيره, حتى أنك تسمع من بعض العوام الذين لا يقرؤون، ولا يكتبون، استنباطات، ومعاني ما تسمعها من بعض العلماء. ثم إن العلم الحديث أتى بالعجائب، فيما يسمى بعلم وظائف الأعضاء، مما يزيد هذه المعاني وضوحاً، ويزيد الإيمان قوة إلى قوته. في بدنك جهاز هضمي، وجهاز دموي، وجهاز عصبي، وجهاز عضلي، وجهاز عظمي، وجهاز تناسلي، وتركيبة نفسية معينة, فهذا الخليط، والمزيج، في بنية واحدة، من ركَّبه ؟ من سوَّاه ؟ من عدَّله ؟ الله سبحانه وتعالى. وتبدو محاولات البشر فيما يسمي بالإنسان الآلي، الذي يحاولون أن يدخلوا فيه بعض حركات الإنسان وتصرفاته, محاولات عبثية، يضاهئون خلق الله وأنى لهم. فهذا آية تطأطئ لها الرقاب، وتخضع لها الأعناق. ووقع هذه الآيات على النفس وقع قوي, فمن كان به خير، وأراد الله به خيراً، فإنها تهزه من الأعماق؛ لأنها تذكره بأصل نشأته، وتمرحله، وتطوره منذ أن كان جنيناً، إلى أن خرج طفلاً رضيعاً، إلى أن شب، واستوى، واستقام. هذه المؤثرات هي التي تنصع الإيمان في القلب. ولهذا ينبغي للدعاة إلى الله عز وجل، أن يتذرعوا بها، وأن يحركوا بها كوامن النفوس، وأوتار القلوب .
    (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ): (كلا) كلمة ردع، وزجر. ومعناها: ليس الأمر كما تظنون , ومعنى (بل) : أي لكن,(تكذبون بالدين) يعني: ألا يعظكم، ألا يزجركم إقراركم بربوبية الله، فيحملكم على عبادته ؟ فالله تعالى يسوق آيات الربوبية، ليبين استحقاقه للعبادة سبحانه وبحمده. ومعنى (الدين) أي الجزاء , من دنته فدان، أي: ذل، وخضع , فالله تعالى هو الذي يدين العباد.
    (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ): هذه الجملة مؤكدة بأنواع المؤكدات "إن","عليكم","لحافظين" , (لحافظين) هم الملائكة. وتأمل في لفظ (عليكم)، لم يقل "عندكم" أو "معكم" بل قال (عليكم) ليفيد التسلط والرقابة, وهو يشعر بالخشية، والرهبة, (لَحَافِظِينَ) إذاً هم حفظة, ومؤتمنون , وضابطون لعملهم، لا يفرط منهم شيء، كما قال في آية أخرى : (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ), وقال: (بلى ورسلنا لديهم يكتبون) .
    (كِرَامًا كَاتِبِينَ): أي شرفاء، أمناء، حفظة، ضابطين، كاتبين؛ لأن الكتابة توثيق. ولهذا أمر الله تعالى بها فقال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) .
    (يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ): جعل الله ملائكته يحصون على العباد, ويسجلون ما يبدر منهم، من خير أو شر، لأنهم يباشرون ذلك, فإذا أوصد الإنسان الأبواب, وأرخى الستور, وظن أنه قد غاب عن الأعين, فليذكر أن معه كراماً كاتبين. فلو شعرت أنه يطلع عليك فلان، الذي تُجِلُّه، وتقدره، ستخجل، وترعوي، وتستحي من مقارفة هذا الفعل المشين أمامه , فكيف إذا ذكرت أن معك كراماً كاتبين؟ وكيف إذا ذكرت أن الذي يراك رب العالمين؟
    (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ): (الأبرار) جمع بر, والبر هو كثير الخير؛ ولذلك سمي البر براً، لسعته. ومعنى (نعيم) النعيم: هو الجنة، وما فيها من أنواع المتع. وأتى بحرف "في" (لَفِي نَعِيمٍ), ولم يقل "إن الأبرار لهم نعيم" ليعطي معنى الانغماس والانغمار، كأنهم غمسوا في النعيم غمساً، واصطبغوا به، وغمرهم من كل جانب .
    (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ): (الفجار) جمع فاجر, من الفجر، وهو هتك ستر الدين , فكأنه لما هتك ستر الدين ، وتقحم الحرمات، سمي فاجراً. (جحيم) : اسم من أسماء النار، والعياذ بالله, ونقول في (في) ما قلنا في قوله (لَفِي نَعِيمٍ) أنهم منغمسون فيها .
    (يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ): (يصلونها) أي يصطلون بنارها، ووهجها، وحرها, فتحرقهم، وتشويهم، والعياذ بالله , حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر عن قوم من عصاة الموحدين، يدخلون النار( حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا، أُذِنَ بِالشَّفَاعَةِ، فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ، ضَبَائِرَ، فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ قِيلَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ! أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ، فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ) متفق عليه، فكيف بأهل النار الذين هم أهلها؟
    (يَوْمَ الدِّينِ) هو أحد أسماء القيامة، لأنه يوم الجزاء والحساب , وتقدم أن ليوم القيامة أسماء عدة، بلغ بها بعض العلماء ثمانين اسماً, وأن أسماء القيامة أعلام، وأوصاف، كما أسماء الله الحسنى, وكما أسماء نبيه صلى الله عليه وسلم , وكما أسماء القرآن.
    (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ): يعني أنهم لا يغيبون عن العذاب طرفة عين, كلما فرغوا من عذاب انتقلوا إلى آخر، عياذاً بالله, وكلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم، أعيدوا فيها، عياذاً بالله. شيء تقشعر له الأبدان، لمجرد ذكره فكيف بمن اصطلى بناره ؟ وفي هذه الآية ما يدل على بقاء النار، وأنها لا تفنى, وأن أهلها لا يخرجون منها .
    (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ): هذا الاستفهام، وهذا التكرار، يراد به التفخيم, والتعظيم, والتهويل. (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ): كأنما يقال: ذلك الإنسان لم يقدر الأمر حق قدره، "أتدري ما يوم الدين ؟ أتعرف ما يوم الدين ؟" كما قال: (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ) .
    ثم أجاب الله تعالى على هذا السؤال , وهذا من تفسير القرآن بالقرآن، فقال :
    (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ): ولهذا نظير، كقوله: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ). أي لا تملك أي نفس، لأي نفس أخرى نفعاً، ولا ضراً, (شيئاً) نكرة في سياق النفي، فتدل على العموم. (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) كقوله: (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) .
    الفوائد المستنبطة
    الفائدة الأولى :بيان أهوال يوم القيامة.
    الفائدة الثانية :إثبات البعث من قوله (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ).
    الفائدة الثالثة :إقرار الإنسان بعمله يوم القيامة (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) .
    الفائدة الرابعة :وقوع الكافر في الغرور (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) .
    الفائدة الخامسة :أن العبادة هي مقتضى الربوبية.
    الفائدة السادسة: بديع صنع الله في الإنسان .
    الفائدة السابعة :ذم منكري البعث لقوله: (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ).
    الفائدة الثامنة: الإشارة إلى أحد دلائل البعث، وهو الدينونة، لأنه يحصل بها إحقاق الحق، وإبطال الباطل, والله تعالى قد خلق السموات والأرض بالحق، فليس من الحق أن يموت الظالم على ظلمه ، والمظلوم على مظلمته ، والمحسن على إحسانه دون ثواب ، والمسيء على إساءته دون عقاب, فلهذا كان الجزاء من دلائل البعث .
    الفائدة التاسعة :الإيمان بالملائكة الكرام , وهو أصل من أصول الإيمان.
    الفائدة العاشرة:خلود النار، ودوام العذاب على أهلها، من قوله (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ).
    الفائدة الحادية عشر:بطلان الشرك، وكل تعلق بغير الله, وهذا يؤخذ من الجملة الأخيرة من قول الله عز وجل: (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ), ومن تعلق بغير الله وكل إليه, فكل من تعلق بسبب فإنه ينقطع, إلا ما كان سبباً إلى الله عز وجل؛ من خوف , أو رجاء , أو محبة , أو توكل , أو نحو ذلك .
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  2. #42
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    سورة التكوير
    (المقطع الأول)
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . بسم الله الرحمن الرحيم.
    ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29))
    هذه السورة العظيمة تهدف إلى ثلاثة أمور :
    الأمر الأول : تقرير عقيدة اليوم الآخر .
    الأمر الثاني : تقرير أن القرآن كلام الله .
    الأمر الثالث : تقرير المسؤولية البشرية .

    يسمي العلماء هذه السورة (سورة التكوير) , وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم، بأول جملة فيها ( إذا الشمس كورت ), فقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي : } من سره أن ينظر إلى القيامة رأي العين فليقرأ : (إذا الشمس كورت ) ، و ( إذا السماء انفطرت ) ، و ( إذا السماء انشقت) { . وهذه السور الثلاث متشابهة في مقاصدها، وفي نظمها .
    ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) : استهلّ الله سبحانه وتعالى هذه السورة بأداة الشرط (إذا)، واتبعها بعدة جمل للوصول إلى جواب الشرط. وقد لفت الله تعالى انتباه المخاطبين، من المشركين، الذين يعانون من بلادة التفكير، وعدم الاعتبار بالآيات الكونية، إلى آية باهرة، يرونها كل يوم؛ وهي الشمس التي تطلع عليهم كل صباح، وتغيب عنهم كل مساء. لقد بات هذا المشهد العظيم في حس كثير من الناس منظراً مألوفاً, ولكن الله سبحانه وتعالى يبين أن هذه الصورة المتكررة، وهذا المنظر المألوف، لن يدوم، وأنه سيأتي عليه وقت يختلف عما هو عليه! ولا ريب أن هذا من دواعي هز النفس من أركانها؛ أن يقال إن هذه الشمس، التي تراها صبيحة كل يوم، يطلع قرنها من جهة المشرق، ثم تراها عشية كل يوم، يسقط قرنها في المغرب، أنها في يوم من الأيام تكور! فقال : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) . ومعنى (كورت) : لهذه اللفظة أربعة معاني عند المفسرين: فمنهم من قال: " كورت " ذهبت، وزالت. فهذه الشمس المرئية التي لا تخطئها العين، والتي يحال عليها في تحقيق الخبر، كما في الأثر: } على مثلها فاشهد أو دع { , ويقول الناس : " كالشمس في رابعة النهار "، هذه الشمس التي يضرب بها المثل في الوضوح، والتحقق، تذهب. وقيل في معنى " كورت ": أي ذهب ضوئها، يعني خُطف بريقها، وأظلمت، بعد أن كانت نيرة مشعة. وقيل : رميت، وألقيت. ويشهد لهذا المعنى ما جاء في الحديث : } أن الشمس والقمر ثوران عقيران مكوران في النار { فهي تلقى في النار يوم القيامة. وقيل : جمعت، ولفت، كما تكور العمامة.
    وهذه المعاني الأربعة لا تعارض بينها ؛ وذلك أن الشمس مخلوق عظيم، كالجبال، والسماء، والأرض، يعتريها يوم القيامة من الحوادث أحوال عديدة, فمثلاً: يبتدئ الحال بأن تجمع هذه الشمس بعضها على بعض، وتلف, وبعد لفها يذهب ضوئها, وينقبض، وينحسر، ثم بعد ذلك، يذهب بها، فتزال عن موضعها, ثم يرمى بها، فيكون مستقرها أن تلقى في النار، إذ أنها من طبيعة النار؛ فإن الشمس، كما هو معروف عند علماء الفلك، جسم ناري، ملتهب، حتى إن الفلكين يقولون إنه يجري على سطح الشمس من الانفجارات الهائلة، ما يعادل ملايين الانفجارات النووية. فهي جسم ملتهب، متقد، ولذلك يصلنا القدر الذي يكفينا من ضوئها، ودفئها. وبهذا تجتمع المعاني الأربعة للفظ النكوير، دون تعارض.
    هذا هو المشهد الأول، يسرح الفكر في تصور هذا المخلوق العظيم، وما يطرأ عليه يوم القيامة من التغيرات الهائلة ! ولا شك أن تحول المناظر المألوفة، مما يبعث على الفزع, فإن الشيء المستقر الراتب إذا تغير يبعث على الفزع، ويحرك القلوب الراكدة.
    ( وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ) : النجوم هي هذه النقاط التي نراها في قبة السماء، ليلاً، تبعث الضوء، وتبدو لنا صغيرة, وإن كان أهل الفلك يقولون إنها شموس كبيرة، جبارة، ولكن لبعد مسافاتها، التي تقاس بالسنين الضوئية، تبدو لنا كالنقط. وللمفسرين في معنى ( انكدرت ) أقوال: فمنهم من قال: إن معنى ( انكدرت ) تناثرت، وتساقطت، وتهافتت, شذر مذر، وتقع على الأرض من عليائها. وهذا أيضاً أمر يدعو للفزع؛ فإن الإنسان إذا رأى الشهب، والنيازك، تتقاذف في السماء أصابه روع, ولو وقع شيء منها على شيء من الأرض، أحرقه، أوترك فيها أثراً، وحفراً، يجده الناس في الصحاري، أحياناً , فكيف إذا كانت هذه النجوم، التي تعد بالملايين، يجري لها هذا الأمر ؟! ويشهد لهذا المعنى قول الله تعالى في السورة التالية : ( إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ , وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ) فهذا من الانتثار. وقيل في معنى (انكدرت): تغير لونها , فإن الكدرة هي تغير اللون، بحيث يخبو البريق، ويذهب الوهج. وهذا أيضاً حاصل؛ فإنها تسلب لمعانها، وبريقها الذي هي عليه في الدنيا. إذاً هذا مظهر آخر من مظاهر القيامة.
    ( وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ) : هذه الجبال الرواسي، الشامخات، التي يضرب بها المثل في الثبات، تزول عن أماكنها، ويسيُّرها الله عز وجل، كما قال في الآية الأخرى : ( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ). وهذا هو أحد أحوال الجبال يوم القيامة، وهو حال التسيير؛ بأن تزول من أماكنها، التي كانت قد ثبتت، وأرسيت فيها، فتسير سيراً عجيباً. ثم يتلو هذا التسيير مرحلة النسف، كما قال الله تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ). ويتلو هذا الحال مرحلة البس، والدق، حتى تعود هباءً منبثاً، كما قال الله عز وجل : ( وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا . فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ). وهكذا ينبغي أن تجمع الآيات في القضية الواحدة، ليكتمل فهمها , فلا يقال إن هذا يعارض هذا , بل يقال: إن يوم القيامة يوم طويل، تحصل فيه هذه الأحداث المتنوعة، وتتوالى.
    ( وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ) : والعشار هي النوق العشراء، أي التي بلغت الشهر العاشر في حملها، وصارت على وشك الوضع. والنوق كانت، ولا تزال، أنفس أموال العرب, فكيف إذا كانت هذه النوق على وشك الولادة ؟ لا شك أن ثمنها يعلو؛ لأن الذي يملكها يطمع في الاستيلاد، والنتاج. ومعنى ( عطلت ) : أهملت، وتركت بلا راعٍ يرعاها، ولا موالٍ يواليها. دفع إلى ذلك هول الموقف .
    ( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) : الوحش هو الحيوان غير المستأنس، الذي يعيش في الفلوات. قيل في معنى ( حشرت ): ماتت ، وقيل، وهو الأقرب، أي جمعت؛ لأن الحشر هو الجمع الذي يصاحبه ضيق، واكتظاظ، وازدحام، كما قال الله عز وجل : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ), فهذه الوحوش التي عاشت على وجه الأرض، مما نرى، ومما لا نرى، ومما انقرض، كلها يوم القيامة تحشر، وتجمع. ويمكن الجمع بين القولين بأنها تجمع أولاً، ثم تموت، بعد ذلك؛ فإنه يقال لها: كوني تراباً .
    ( وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ) : البحار تشمل ما نسميه الآن البحار، والمحيطات، والأنهار, فإن هذا كله يشمله اسم البحر, قال الله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ), فالبحر يطلق على مجتمع الماء الكثير. وقد وردت قراءة بالتشديد، يعني بالتضعيف ( سُجِّرت ), ووردت بالتخفيف( سُجِرَت ). والتسجير له عدة معاني , فقيل إن معنى ( سجرت ) أي أوقدت، وأشعلت , وقيل : امتلأت، وفاضت , وقيل : يبست .
    وكما قلنا في أمر الجبال، وفي أمر الشمس، نقول أيضاً في أمر البحار : إن هذه البحار يعتريها أحوال يوم القيامة, فلعل أول ما يعتريها أنها تفجر، كما في السورة التالية : ( وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ) أي فاضت، وامتلأت، فاختلط الماء العذب، بالماء الحلو، وفاضت عن حدها، ووعائها الذي كان يحفظها, فإن الله سبحانه وتعالى قال : ( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) فهذا البرزخ يكسر يوم القيامة، ويقع امتلاء وفيضان. ثم يقع بعد ذلك التسجير، بمعنى الإيقاد، والإشعال، كما قال في السورة الأخرى: ( وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ) يعني: الموقد المضطرم ناراً, فيجري إيقاد، وينشأ عن هذا الإيقاد أن يتبخر هذا الماء، فتيبس البحار. فتكون هذه المعاني محمولةً على أحوال مختلفة، فلا يكون هذا من باب التعارض والتناقض, وإنما من باب التنوع. فهذه الألفاظ ألفاظ مشتركة تستعملها العرب على معانٍ متعددة. ومن بلاغة القرآن أن المعنى يحمل هذه الألفاظ على وجه لا تعارض فيه.
    هذه الأمور الستة، روي عن أبي ابن كعب، رضي الله عنه، أنها تقع يوم القيامة، قبل البعث، مقارنة لنفخة الصعق, وأما ما بعدها، مما سيأتي، فيقع بعد البعث. وإذا أطلق (يوم القيامة) فقد يراد به ما يصاحب نفخة الصعق، وقد يراد به ما يتلو نفخة البعث؛ لأن النفخ نفختان، كما قال الله عز وجل ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى), نفخة للصعق، ونفخة للبعث. وأضاف بعض العلماء نفخة ثالثة، وهى نفخة الفزع ! لكن الذي تدل عليه الأدلة أنهما نفختان. فهذه الأمور الستة التي ذكر الله تعالى في مطلع السورة ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ) تكون مصاحبة لنفخة الصعق، بين يديها، فيبصرها الناس، ويقع من جراء ذلك فزع عظيم لهذا التغير الكوني.
    ( وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ) : هذا يكون بعد البعث. ومعنى ( زُوِّجَتْ ) أي : قرنت النفوس بالأبدان، أو بالأجساد التي كانت تعمرها في الدنيا. وقيل : أي قرن الأشباه، والنظائر، بعضها ببعض؛ فاليهودي مع اليهودي، والنصراني مع النصراني، كما قال الله تعالى : ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ) يعني أشكالهم وأشباههم , فيكون معنى "زوجت" يعني قرنت بأشباهها، وأشكالها. ولعل هذا المعنى أرجح؛ وذلك أن الله، سبحانه وتعالى، دوماً ينبه على هذا، كما في قوله : ( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ), وقال : ( فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ . وَأَصْحَابُ الْمَشَْمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ . وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ), فهذا التصنيف، والتوزيع، والقرن، هو التزويج المراد بقوله: ( وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ) .
    ( وَإِذَا الْمَوْؤدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) : الموؤدة : البنت التي يقتلها أبوها في صغرها، إما خشية العار، وإما خشية الحاجة، أو خشية الأمرين معاً. فقد كان أهل الجاهلية، والعياذ بالله، يئدون البنات, قال تعالى : (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيم ,ٌ يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب) , روى الإمام الدارمي رحمه الله في مطلع سننه أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ، صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ وَعِبَادَةِ أَوْثَانٍ ، فَكُنَّا نَقْتُلُ الأَوْلاَدَ ، وَكَانَتْ عِنْدِى بِنْتٌ لِى ، فَلَمَّا أَجَابَتْ عِبَادَةَ الأَوْثَانِ ، وَكَانَتْ مَسْرُورَةً بِدُعَائِى إِذَا دَعَوْتُهَا ، فَدَعَوْتُهَا يَوْماً فَاتَّبَعَتْنِى ، فَمَرَرْتُ حَتَّى أَتَيْتُ بِئْراً مِنْ أَهْلِى غَيْرَ بَعِيدٍ ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا فَرَدَّيْتُ بِهَا فِى الْبِئْرِ ، وَكَانَ آخِرَ عَهْدِى بِهَا أَنْ تَقُولَ : يَا أَبَتَاهُ يَا أَبَتَاهُ. فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى وَكَفَ دَمْعُ عَيْنَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : أَحْزَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ :« كُفَّ ، فَإِنَّهُ يَسْأَلُ عَمَّا أَهَمَّهُ ». ثُمَّ قَالَ لَهُ :« أَعِدْ عَلَىَّ حَدِيثَكَ ». فَأَعَادَهُ ، فَبَكَى حَتَّى وَكَفَ الدَّمْعُ مِنْ عَيْنَيْهِ عَلَى لِحْيَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ :« إِنَّ اللَّهَ قَدْ وَضَعَ عَنِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا عَمِلُوا ، فَاسْتَأْنِفْ عَمَلَكَ ».
    كان هذا حالهم، والعياذ بالله، يئدون البنات؛ لأنهم يخشون العار؛ لما يقع بينهم من الغزو، والسلب، والنهب، فيخشون أن تؤسر، فتقع في يد عدوه، فيكون عاراً عليه, أو يفعلون ذلك بسبب الفقر، أو الخوف منه. ولهذا نهاهم الله عز وجل : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) , (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ).
    ( بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ): هذا السؤال من الله عز وجل في ذلك اليوم، ما أثقله، وما أعظمه على ذلك الوائد ! وماذا يكون جواب هذه الموءودة ؟ وقد جاء في قراءة ( بأي ذنب قُتِلْتِ ) على سبيل الخطاب. ولا شك أنه لا ذنب لها, وإنما الذنب يتحمله هذا الوائد، القاطع. وهذا مما أكرم الله تعالى به المرأة في هذه الشريعة العظيمة، أن حفظها من هذا الهوان وهذا القتل .
    ( وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ) : المراد بالصحف: صحائف الأعمال، التي يقيد بها الكرام الكاتبون ما يخرج من الإنسان من خير، أو شر. ومعنى ( نشرت ): أي فتحت، وأبرزت, فلا خفاء، ولا سر , بل عدل ظاهر, وحق بين. وهذا من كمال عدل الله عز وجل, واعتبار الشارع بالتوثيق, فكل إنسان يقيد عليه ما طار منه من عمل، كما قال الله عز وجل : ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ) يعني ما طار منه من عمل, لأن ما يبدر منك من فعل، أو قول، كالطائر الذي فر منك، لا سبيل إلى رده, فلذلك سمي طائراً, ومعنى ( منشوراً ) : أي مفتوحاً .
    ( وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ) : هذا مظهر عجيب ! هذه السماء التي يُسَرِّح الإنسان فيها طرفه، ويجول في أرجائها، ويبحث عن موضع ثقب، ولو كجب الإبرة، فلا يجده ! كما قال الله تعالى : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) , فهي سماء محكمة، مسمتة , لا يوجد فيها أدنى خلل, في يوم القيامة تكشط، أي: تسلخ كما يسلخ الجلد من الذبيحة, حين يضع الجزار عليها قدمه، أو فيها يده، ويكشط الجلد ! هكذا تكشط السماء. قال الله تعالى في الآية الأخرى : ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) السجل: هو ما تحفظ فيه الكتب، والمواثيق، يدار، فتسل فيه الورقة. فهذه السماء تطوى طياً، وعبر هاهنا بالكشط وهو الإزالة . ومن شواهد ذلك، أن الله تعالى عبر بالتشقق، حيث قال: ( وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ ) فكل سماء تنفرج وتنشق عن السماء التي فوقها.
    ولا ريب أن هذه الأمور أمور غيبية، نفهم منها المعنى العام، المشترك، الذي دلت عليه اللغة, لكننا لا نحيط بالكيفية. فما دل عليه القرآن من أحوال يوم القيامة، ومن صفات الرب سبحانه وتعالى، وسط بين طرفين؛ لا هو كلام أعجمي غير مفهوم، ولا هو حكاية كيفية تتخيلها الأذهان, بل هو إدراك للمعنى، دون إدراك للكيفية. فنحن إذا قرأنا هذه الآيات المتعلقة باليوم الآخر , أو الآيات المتعلقة بصفات الرب سبحانه وتعالى، ندرك منها بمقتضى الوضع العربي معاني معينة, لكننا لا ندرك الحقائق، والكنه، والكيفيات, ولا شك أن إدراكنا للمعاني كافٍ في حصول الموعظة، والعبرة، والتأثير.
    ( وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ) : الجحيم: اسم من أسماء النار, وهي تدل على الجهامة، والظلمة, فهي سوداء، مظلمة، يحطم بعضها بعضاً. ومعنى قوله : ( سُعِّرَتْ ) أي: زيد في إيقادها، وتسعيرها, وإلا فإنها مخلوقة، موجودة، وهذا هو الذي دلت عليه النصوص, لكنها يوم القيامة تَهيُئ لأضيافها، وبئس الأضياف، وبئس النزل .
    ( وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ) : روي عن بعض السلف أن الآيتين ( وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ) ، هما مجرى الخطاب، يعني أن كل ما سبق، ذكر للوصول إلى هذا الأمر، أي إلى جحيم تسعر، أو جنة تزلف. ومعنى ( أزلفت): أي: قربت، وأدنيت. ولهذا كان من شأن الجنة، أنها تفتح أبوابها تلقائياً, وأن النار، والعياذ بالله، تفتح فجأة, كما ذكر الله ذلك في آخر سورة الزمر ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) وفي هذا صدمة وهول, بينما قال في الجنة: ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) كأنما هناك تهيؤٌ، واستقبال، وحفاوة مسبقة. نسأل الله من واسع فضله .
    ( عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ ) : هذا جواب الشرط, ذكر بعد ثلاثة عشر جملة من قوله : ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) إلى قوله : ( وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ), و(نَفْسٌ): اسم جنس، يعني نفس من النفوس, كما قال الله تعالى: ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ). ولا ريب أن من مرت به هذه المواقف المقارنة لقيام الساعة, والمواقف والأحوال التي تتلو البعث، يدرك يقيناً ما هو عليه. وهذا الشوط من الآيات شوط مهول, شوط يهز القلب من أركانه ، وترتجف له النفوس الحية. وتأمل وقع هذه الآيات على قوم ينكرون البعث ! فإذا كان المؤمن الذي علم مسبقاً بهذا الأمر، وتلا السورة، وأمثالها، مراراً، يتأثر قلبه لتكرارها, فما بالك بهذا الذي قد أعفى نفسه من التفكير في هذه الأمور، وقيل له سيقع كذا وكذا. فلا ريب أن هذا يهزه هزاً عظيماً، ويجعله أمام مفترق طرق, فإما أن يتبع هذا النبي الذي جاء بهذا الحق, وإما أن يختار الأخرى. وهذه مجازفة، ومغامرة، تجعله أمام خيار صعب.

    الفوائد المستنبطة
    الفائدة الأولى : بيان هول يوم القيامة.
    الفائدة الثانية : بيان عظيم قدرة الله تعالى؛ فهذا الكون المنتظم، الرتيب، بأفلاكه العلوية، ومخلوقاته السفلية، يخلفه الله عز وجل، ويغير نمطه.
    الفائدة الثالثة : شناعة جريمة الوئد، حيث خصها الله بالذكر في هذا السياق المليء بالآيات الكونية، والأحداث الكبرى.
    الفائدة الرابعة : بيان كمال عدل الله .
    الفائدة الخامسة : إثبات الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان .
    الفائدة السادسة : إقرار المرء بعمله يوم القيامة .
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  3. #43
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    سورة التكوير
    (المقطع الأول)
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . بسم الله الرحمن الرحيم.
    ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29))
    هذه السورة العظيمة تهدف إلى ثلاثة أمور :
    الأمر الأول : تقرير عقيدة اليوم الآخر .
    الأمر الثاني : تقرير أن القرآن كلام الله .
    الأمر الثالث : تقرير المسؤولية البشرية .

    يسمي العلماء هذه السورة (سورة التكوير) , وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم، بأول جملة فيها ( إذا الشمس كورت ), فقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي : } من سره أن ينظر إلى القيامة رأي العين فليقرأ : (إذا الشمس كورت ) ، و ( إذا السماء انفطرت ) ، و ( إذا السماء انشقت) { . وهذه السور الثلاث متشابهة في مقاصدها، وفي نظمها .
    ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) : استهلّ الله سبحانه وتعالى هذه السورة بأداة الشرط (إذا)، واتبعها بعدة جمل للوصول إلى جواب الشرط. وقد لفت الله تعالى انتباه المخاطبين، من المشركين، الذين يعانون من بلادة التفكير، وعدم الاعتبار بالآيات الكونية، إلى آية باهرة، يرونها كل يوم؛ وهي الشمس التي تطلع عليهم كل صباح، وتغيب عنهم كل مساء. لقد بات هذا المشهد العظيم في حس كثير من الناس منظراً مألوفاً, ولكن الله سبحانه وتعالى يبين أن هذه الصورة المتكررة، وهذا المنظر المألوف، لن يدوم، وأنه سيأتي عليه وقت يختلف عما هو عليه! ولا ريب أن هذا من دواعي هز النفس من أركانها؛ أن يقال إن هذه الشمس، التي تراها صبيحة كل يوم، يطلع قرنها من جهة المشرق، ثم تراها عشية كل يوم، يسقط قرنها في المغرب، أنها في يوم من الأيام تكور! فقال : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) . ومعنى (كورت) : لهذه اللفظة أربعة معاني عند المفسرين: فمنهم من قال: " كورت " ذهبت، وزالت. فهذه الشمس المرئية التي لا تخطئها العين، والتي يحال عليها في تحقيق الخبر، كما في الأثر: } على مثلها فاشهد أو دع { , ويقول الناس : " كالشمس في رابعة النهار "، هذه الشمس التي يضرب بها المثل في الوضوح، والتحقق، تذهب. وقيل في معنى " كورت ": أي ذهب ضوئها، يعني خُطف بريقها، وأظلمت، بعد أن كانت نيرة مشعة. وقيل : رميت، وألقيت. ويشهد لهذا المعنى ما جاء في الحديث : } أن الشمس والقمر ثوران عقيران مكوران في النار { فهي تلقى في النار يوم القيامة. وقيل : جمعت، ولفت، كما تكور العمامة.
    وهذه المعاني الأربعة لا تعارض بينها ؛ وذلك أن الشمس مخلوق عظيم، كالجبال، والسماء، والأرض، يعتريها يوم القيامة من الحوادث أحوال عديدة, فمثلاً: يبتدئ الحال بأن تجمع هذه الشمس بعضها على بعض، وتلف, وبعد لفها يذهب ضوئها, وينقبض، وينحسر، ثم بعد ذلك، يذهب بها، فتزال عن موضعها, ثم يرمى بها، فيكون مستقرها أن تلقى في النار، إذ أنها من طبيعة النار؛ فإن الشمس، كما هو معروف عند علماء الفلك، جسم ناري، ملتهب، حتى إن الفلكين يقولون إنه يجري على سطح الشمس من الانفجارات الهائلة، ما يعادل ملايين الانفجارات النووية. فهي جسم ملتهب، متقد، ولذلك يصلنا القدر الذي يكفينا من ضوئها، ودفئها. وبهذا تجتمع المعاني الأربعة للفظ النكوير، دون تعارض.
    هذا هو المشهد الأول، يسرح الفكر في تصور هذا المخلوق العظيم، وما يطرأ عليه يوم القيامة من التغيرات الهائلة ! ولا شك أن تحول المناظر المألوفة، مما يبعث على الفزع, فإن الشيء المستقر الراتب إذا تغير يبعث على الفزع، ويحرك القلوب الراكدة.
    ( وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ) : النجوم هي هذه النقاط التي نراها في قبة السماء، ليلاً، تبعث الضوء، وتبدو لنا صغيرة, وإن كان أهل الفلك يقولون إنها شموس كبيرة، جبارة، ولكن لبعد مسافاتها، التي تقاس بالسنين الضوئية، تبدو لنا كالنقط. وللمفسرين في معنى ( انكدرت ) أقوال: فمنهم من قال: إن معنى ( انكدرت ) تناثرت، وتساقطت، وتهافتت, شذر مذر، وتقع على الأرض من عليائها. وهذا أيضاً أمر يدعو للفزع؛ فإن الإنسان إذا رأى الشهب، والنيازك، تتقاذف في السماء أصابه روع, ولو وقع شيء منها على شيء من الأرض، أحرقه، أوترك فيها أثراً، وحفراً، يجده الناس في الصحاري، أحياناً , فكيف إذا كانت هذه النجوم، التي تعد بالملايين، يجري لها هذا الأمر ؟! ويشهد لهذا المعنى قول الله تعالى في السورة التالية : ( إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ , وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ) فهذا من الانتثار. وقيل في معنى (انكدرت): تغير لونها , فإن الكدرة هي تغير اللون، بحيث يخبو البريق، ويذهب الوهج. وهذا أيضاً حاصل؛ فإنها تسلب لمعانها، وبريقها الذي هي عليه في الدنيا. إذاً هذا مظهر آخر من مظاهر القيامة.
    ( وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ) : هذه الجبال الرواسي، الشامخات، التي يضرب بها المثل في الثبات، تزول عن أماكنها، ويسيُّرها الله عز وجل، كما قال في الآية الأخرى : ( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ). وهذا هو أحد أحوال الجبال يوم القيامة، وهو حال التسيير؛ بأن تزول من أماكنها، التي كانت قد ثبتت، وأرسيت فيها، فتسير سيراً عجيباً. ثم يتلو هذا التسيير مرحلة النسف، كما قال الله تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ). ويتلو هذا الحال مرحلة البس، والدق، حتى تعود هباءً منبثاً، كما قال الله عز وجل : ( وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا . فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ). وهكذا ينبغي أن تجمع الآيات في القضية الواحدة، ليكتمل فهمها , فلا يقال إن هذا يعارض هذا , بل يقال: إن يوم القيامة يوم طويل، تحصل فيه هذه الأحداث المتنوعة، وتتوالى.
    ( وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ) : والعشار هي النوق العشراء، أي التي بلغت الشهر العاشر في حملها، وصارت على وشك الوضع. والنوق كانت، ولا تزال، أنفس أموال العرب, فكيف إذا كانت هذه النوق على وشك الولادة ؟ لا شك أن ثمنها يعلو؛ لأن الذي يملكها يطمع في الاستيلاد، والنتاج. ومعنى ( عطلت ) : أهملت، وتركت بلا راعٍ يرعاها، ولا موالٍ يواليها. دفع إلى ذلك هول الموقف .
    ( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) : الوحش هو الحيوان غير المستأنس، الذي يعيش في الفلوات. قيل في معنى ( حشرت ): ماتت ، وقيل، وهو الأقرب، أي جمعت؛ لأن الحشر هو الجمع الذي يصاحبه ضيق، واكتظاظ، وازدحام، كما قال الله عز وجل : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ), فهذه الوحوش التي عاشت على وجه الأرض، مما نرى، ومما لا نرى، ومما انقرض، كلها يوم القيامة تحشر، وتجمع. ويمكن الجمع بين القولين بأنها تجمع أولاً، ثم تموت، بعد ذلك؛ فإنه يقال لها: كوني تراباً .
    ( وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ) : البحار تشمل ما نسميه الآن البحار، والمحيطات، والأنهار, فإن هذا كله يشمله اسم البحر, قال الله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ), فالبحر يطلق على مجتمع الماء الكثير. وقد وردت قراءة بالتشديد، يعني بالتضعيف ( سُجِّرت ), ووردت بالتخفيف( سُجِرَت ). والتسجير له عدة معاني , فقيل إن معنى ( سجرت ) أي أوقدت، وأشعلت , وقيل : امتلأت، وفاضت , وقيل : يبست .
    وكما قلنا في أمر الجبال، وفي أمر الشمس، نقول أيضاً في أمر البحار : إن هذه البحار يعتريها أحوال يوم القيامة, فلعل أول ما يعتريها أنها تفجر، كما في السورة التالية : ( وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ) أي فاضت، وامتلأت، فاختلط الماء العذب، بالماء الحلو، وفاضت عن حدها، ووعائها الذي كان يحفظها, فإن الله سبحانه وتعالى قال : ( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) فهذا البرزخ يكسر يوم القيامة، ويقع امتلاء وفيضان. ثم يقع بعد ذلك التسجير، بمعنى الإيقاد، والإشعال، كما قال في السورة الأخرى: ( وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ) يعني: الموقد المضطرم ناراً, فيجري إيقاد، وينشأ عن هذا الإيقاد أن يتبخر هذا الماء، فتيبس البحار. فتكون هذه المعاني محمولةً على أحوال مختلفة، فلا يكون هذا من باب التعارض والتناقض, وإنما من باب التنوع. فهذه الألفاظ ألفاظ مشتركة تستعملها العرب على معانٍ متعددة. ومن بلاغة القرآن أن المعنى يحمل هذه الألفاظ على وجه لا تعارض فيه.
    هذه الأمور الستة، روي عن أبي ابن كعب، رضي الله عنه، أنها تقع يوم القيامة، قبل البعث، مقارنة لنفخة الصعق, وأما ما بعدها، مما سيأتي، فيقع بعد البعث. وإذا أطلق (يوم القيامة) فقد يراد به ما يصاحب نفخة الصعق، وقد يراد به ما يتلو نفخة البعث؛ لأن النفخ نفختان، كما قال الله عز وجل ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى), نفخة للصعق، ونفخة للبعث. وأضاف بعض العلماء نفخة ثالثة، وهى نفخة الفزع ! لكن الذي تدل عليه الأدلة أنهما نفختان. فهذه الأمور الستة التي ذكر الله تعالى في مطلع السورة ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ) تكون مصاحبة لنفخة الصعق، بين يديها، فيبصرها الناس، ويقع من جراء ذلك فزع عظيم لهذا التغير الكوني.
    ( وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ) : هذا يكون بعد البعث. ومعنى ( زُوِّجَتْ ) أي : قرنت النفوس بالأبدان، أو بالأجساد التي كانت تعمرها في الدنيا. وقيل : أي قرن الأشباه، والنظائر، بعضها ببعض؛ فاليهودي مع اليهودي، والنصراني مع النصراني، كما قال الله تعالى : ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ) يعني أشكالهم وأشباههم , فيكون معنى "زوجت" يعني قرنت بأشباهها، وأشكالها. ولعل هذا المعنى أرجح؛ وذلك أن الله، سبحانه وتعالى، دوماً ينبه على هذا، كما في قوله : ( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ), وقال : ( فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ . وَأَصْحَابُ الْمَشَْمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ . وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ), فهذا التصنيف، والتوزيع، والقرن، هو التزويج المراد بقوله: ( وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ) .
    ( وَإِذَا الْمَوْؤدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) : الموؤدة : البنت التي يقتلها أبوها في صغرها، إما خشية العار، وإما خشية الحاجة، أو خشية الأمرين معاً. فقد كان أهل الجاهلية، والعياذ بالله، يئدون البنات, قال تعالى : (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيم ,ٌ يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب) , روى الإمام الدارمي رحمه الله في مطلع سننه أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ، صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ وَعِبَادَةِ أَوْثَانٍ ، فَكُنَّا نَقْتُلُ الأَوْلاَدَ ، وَكَانَتْ عِنْدِى بِنْتٌ لِى ، فَلَمَّا أَجَابَتْ عِبَادَةَ الأَوْثَانِ ، وَكَانَتْ مَسْرُورَةً بِدُعَائِى إِذَا دَعَوْتُهَا ، فَدَعَوْتُهَا يَوْماً فَاتَّبَعَتْنِى ، فَمَرَرْتُ حَتَّى أَتَيْتُ بِئْراً مِنْ أَهْلِى غَيْرَ بَعِيدٍ ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا فَرَدَّيْتُ بِهَا فِى الْبِئْرِ ، وَكَانَ آخِرَ عَهْدِى بِهَا أَنْ تَقُولَ : يَا أَبَتَاهُ يَا أَبَتَاهُ. فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى وَكَفَ دَمْعُ عَيْنَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : أَحْزَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ :« كُفَّ ، فَإِنَّهُ يَسْأَلُ عَمَّا أَهَمَّهُ ». ثُمَّ قَالَ لَهُ :« أَعِدْ عَلَىَّ حَدِيثَكَ ». فَأَعَادَهُ ، فَبَكَى حَتَّى وَكَفَ الدَّمْعُ مِنْ عَيْنَيْهِ عَلَى لِحْيَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ :« إِنَّ اللَّهَ قَدْ وَضَعَ عَنِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا عَمِلُوا ، فَاسْتَأْنِفْ عَمَلَكَ ».
    كان هذا حالهم، والعياذ بالله، يئدون البنات؛ لأنهم يخشون العار؛ لما يقع بينهم من الغزو، والسلب، والنهب، فيخشون أن تؤسر، فتقع في يد عدوه، فيكون عاراً عليه, أو يفعلون ذلك بسبب الفقر، أو الخوف منه. ولهذا نهاهم الله عز وجل : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) , (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ).
    ( بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ): هذا السؤال من الله عز وجل في ذلك اليوم، ما أثقله، وما أعظمه على ذلك الوائد ! وماذا يكون جواب هذه الموءودة ؟ وقد جاء في قراءة ( بأي ذنب قُتِلْتِ ) على سبيل الخطاب. ولا شك أنه لا ذنب لها, وإنما الذنب يتحمله هذا الوائد، القاطع. وهذا مما أكرم الله تعالى به المرأة في هذه الشريعة العظيمة، أن حفظها من هذا الهوان وهذا القتل .
    ( وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ) : المراد بالصحف: صحائف الأعمال، التي يقيد بها الكرام الكاتبون ما يخرج من الإنسان من خير، أو شر. ومعنى ( نشرت ): أي فتحت، وأبرزت, فلا خفاء، ولا سر , بل عدل ظاهر, وحق بين. وهذا من كمال عدل الله عز وجل, واعتبار الشارع بالتوثيق, فكل إنسان يقيد عليه ما طار منه من عمل، كما قال الله عز وجل : ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ) يعني ما طار منه من عمل, لأن ما يبدر منك من فعل، أو قول، كالطائر الذي فر منك، لا سبيل إلى رده, فلذلك سمي طائراً, ومعنى ( منشوراً ) : أي مفتوحاً .
    ( وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ) : هذا مظهر عجيب ! هذه السماء التي يُسَرِّح الإنسان فيها طرفه، ويجول في أرجائها، ويبحث عن موضع ثقب، ولو كجب الإبرة، فلا يجده ! كما قال الله تعالى : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) , فهي سماء محكمة، مسمتة , لا يوجد فيها أدنى خلل, في يوم القيامة تكشط، أي: تسلخ كما يسلخ الجلد من الذبيحة, حين يضع الجزار عليها قدمه، أو فيها يده، ويكشط الجلد ! هكذا تكشط السماء. قال الله تعالى في الآية الأخرى : ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) السجل: هو ما تحفظ فيه الكتب، والمواثيق، يدار، فتسل فيه الورقة. فهذه السماء تطوى طياً، وعبر هاهنا بالكشط وهو الإزالة . ومن شواهد ذلك، أن الله تعالى عبر بالتشقق، حيث قال: ( وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ ) فكل سماء تنفرج وتنشق عن السماء التي فوقها.
    ولا ريب أن هذه الأمور أمور غيبية، نفهم منها المعنى العام، المشترك، الذي دلت عليه اللغة, لكننا لا نحيط بالكيفية. فما دل عليه القرآن من أحوال يوم القيامة، ومن صفات الرب سبحانه وتعالى، وسط بين طرفين؛ لا هو كلام أعجمي غير مفهوم، ولا هو حكاية كيفية تتخيلها الأذهان, بل هو إدراك للمعنى، دون إدراك للكيفية. فنحن إذا قرأنا هذه الآيات المتعلقة باليوم الآخر , أو الآيات المتعلقة بصفات الرب سبحانه وتعالى، ندرك منها بمقتضى الوضع العربي معاني معينة, لكننا لا ندرك الحقائق، والكنه، والكيفيات, ولا شك أن إدراكنا للمعاني كافٍ في حصول الموعظة، والعبرة، والتأثير.
    ( وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ) : الجحيم: اسم من أسماء النار, وهي تدل على الجهامة، والظلمة, فهي سوداء، مظلمة، يحطم بعضها بعضاً. ومعنى قوله : ( سُعِّرَتْ ) أي: زيد في إيقادها، وتسعيرها, وإلا فإنها مخلوقة، موجودة، وهذا هو الذي دلت عليه النصوص, لكنها يوم القيامة تَهيُئ لأضيافها، وبئس الأضياف، وبئس النزل .
    ( وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ) : روي عن بعض السلف أن الآيتين ( وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ) ، هما مجرى الخطاب، يعني أن كل ما سبق، ذكر للوصول إلى هذا الأمر، أي إلى جحيم تسعر، أو جنة تزلف. ومعنى ( أزلفت): أي: قربت، وأدنيت. ولهذا كان من شأن الجنة، أنها تفتح أبوابها تلقائياً, وأن النار، والعياذ بالله، تفتح فجأة, كما ذكر الله ذلك في آخر سورة الزمر ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) وفي هذا صدمة وهول, بينما قال في الجنة: ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) كأنما هناك تهيؤٌ، واستقبال، وحفاوة مسبقة. نسأل الله من واسع فضله .
    ( عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ ) : هذا جواب الشرط, ذكر بعد ثلاثة عشر جملة من قوله : ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) إلى قوله : ( وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ), و(نَفْسٌ): اسم جنس، يعني نفس من النفوس, كما قال الله تعالى: ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ). ولا ريب أن من مرت به هذه المواقف المقارنة لقيام الساعة, والمواقف والأحوال التي تتلو البعث، يدرك يقيناً ما هو عليه. وهذا الشوط من الآيات شوط مهول, شوط يهز القلب من أركانه ، وترتجف له النفوس الحية. وتأمل وقع هذه الآيات على قوم ينكرون البعث ! فإذا كان المؤمن الذي علم مسبقاً بهذا الأمر، وتلا السورة، وأمثالها، مراراً، يتأثر قلبه لتكرارها, فما بالك بهذا الذي قد أعفى نفسه من التفكير في هذه الأمور، وقيل له سيقع كذا وكذا. فلا ريب أن هذا يهزه هزاً عظيماً، ويجعله أمام مفترق طرق, فإما أن يتبع هذا النبي الذي جاء بهذا الحق, وإما أن يختار الأخرى. وهذه مجازفة، ومغامرة، تجعله أمام خيار صعب.

    الفوائد المستنبطة
    الفائدة الأولى : بيان هول يوم القيامة.
    الفائدة الثانية : بيان عظيم قدرة الله تعالى؛ فهذا الكون المنتظم، الرتيب، بأفلاكه العلوية، ومخلوقاته السفلية، يخلفه الله عز وجل، ويغير نمطه.
    الفائدة الثالثة : شناعة جريمة الوئد، حيث خصها الله بالذكر في هذا السياق المليء بالآيات الكونية، والأحداث الكبرى.
    الفائدة الرابعة : بيان كمال عدل الله .
    الفائدة الخامسة : إثبات الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان .
    الفائدة السادسة : إقرار المرء بعمله يوم القيامة
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  4. #44
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    سورة التكوير
    (المقطع الثاني)
    فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29))
    (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) فلا أقسم) هذا التعبير كثير في كتاب الله عز وجل , كقول الله تعالى : ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) , ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ) , وقد اختلف المفسرون في توجيهه , فقال بعضهم إن " لا " زائدة , والمراد : " أقسم " , وإنما نفى القسم، لكون الأمر من الوضوح والبيان، لدرجة لا يحتاج فيها إلى القسم. وهذا أبلغ. وقال بعضهم: إن معنى قوله ( لَا أُقْسِمُ ) أو( فَلَا أُقْسِم ُ) على تقدير محذوف, أي: ليس الأمر كما تظنون، ( أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ) , ولا الأمر كما تظنون ( أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ). فالمنفي هو ذلك الباطل الذي يعتقدون. وبعضهم قال إن "لا" زائدة لفظاً لا معنىً ؛ يعني أنه لا يراد بها حقيقة النفي، وإنما يراد بها التأكيد.
    واختلف العلماء في المرادبـ (الخنس الجوار الكنس )على ثلاثة أقوال: فقيل: المراد بها النجوم السيارة, وقيل الكواكب المعروفة,وقيل: الظباء، أو بقر الوحش. ومعنى(الخنس) التي تغيب وتطلع. ومعنى(الْجَوَار) النجوم التي تجري في فلكها، أو الظباء في فلاواتها. ومعنى(الْكُنَّسِ) : المكان الذي تختفي فيه الظباء والوحوش، أي المكانس، وهي الحجر التي تأوي إليها. وأرجح هذه الأقوال الثلاثة النجوم, وإن كان ابن جرير، رحمه الله، رجح بأن المراد كل ما يخنس، ويجري، ويدخل في كناسه، وأن كل ذلك يصلح محلاً للقسم. لكن يؤيد كونها النجوم أن النجوم أبين، وأظهر؛ يراها الناس جميعاً، وتؤيدها آية الواقعة (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) .
    (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)إنه) أي القرآن,(رسول كريم) المراد به جبريل عليه السلام. وهذا لا يعني أن القرآن من كلام جبريل, وإنما المراد أنه مبلغ عن مرسله، فوظيفته في هذا الأمر النقل، والتبليغ. ولهذا عرفه بأنه رسول
    (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ): (ذي العرش) هو الله سبحانه وتعالى, (مَكِينٍ) يعني: ذي مكانة، ومنزلة .
    (مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (مطاع) يعني أن جبريل، عليه السلام، تطيعه الملائكة, (ثَمَّ أَمِينٍ) يعني أنه مؤتمن على الوحي. وكل هذا توثيق للرسالة.
    (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ): المراد بالصاحب محمد صلى الله عليه وسلم. وإنما نفى عنه الجنون، لأنهم كانوا ينبزونه به، فبرأه الله من ذلك.
    (وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ):أي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام، بالأفق المبين، وهو مطلع الشمس، أو مغربها، مكان التقاء الأرض بالسماء.
    ( وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ)ضنين) أي لا يبخل بالوحي، ولا يأخذ عليه أجراً. وفي قراءة أخرى(ظنين) يعني من الظِّنة، أي ليس محلاً للتهمة، والظنة. فليس بمتهم في تبليغ رسالات ربه، وفي هذا أعظم التزكية.
    (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ) : مما برأ الله تعالى به كلامه، أنه ليس بقول شيطان رجيم. فقد فكان من مزاعم كفار مكة أن الشياطين هي التي تلقي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، وأن له رئي من الجن، يعني صاحب من الجن. والحملة الإعلامية التي كانوا يشوهون بها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يزعمون أن للنبي صلى الله عليه وسلم رئي من الجن يلقنه هذه الكلمات، كما يلقن الجن السجع للكهان. فكلام الله بريء من ذلك. وكلمة " شيطان " مشتقة من الشطن، وهو البعد وذلك، لإبعاد الله تعالى له , ومعنى (رجيم) : أي مرجوم، وملعون، ومطرود عن رحمة الله. وفي هذا أيضاً تبرئة، وتوثيق للقرآن العظيم، من أن يكون التبس به شيء، أو خالطه شيء من إلقاء الشياطين. يقول ربنا عز وجل : ( وَمَاأَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) يعني أن الشياطين تحاول التلبيس على الوحي، والتأثير على النبي، بأن تدخل فيه ما ليس منه. ووجه دلالة الآية , من قوله : ( تمنى ) يعني تلا, وليس المراد تمنى من الأماني , وإنما من الأمنية وهي، التلاوة، كما قال الشاعر :
    تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر
    ومعنى ( أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ): يعني أدخل الشيطان لفظاً في تلاوته. لكن الله عز وجل قد تكفل بعصمة الوحي، قال فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ). وقد روي في سبب نزولها عن سعيد بن جُبَيْر، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة "النجم" فلما بلغ هذا الموضع: ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى . وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى ) قال: فألقى الشيطان على لسانه: "تلك الغَرَانيق العلى. وإن شفاعتهن ترتجى". قالوا: ما ذكر آلهَتنا بخير قبل اليوم. فسجَدَ وسجدوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير. وقال ابن كثير ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم)
    وقد صنف فيها الشيخ ناصر الدين الألباني، رحمه الله، رسالة بعنوان " نصب المجانيق في نسف قصة الغرانيق " والمجانيق: جمع منجنيق : هو آلة حربية، يوضع في كفتها ثقل، ويرمى به القلاع، والحصون، فتهدم الجدران. والرسالة المذكورة، اسم على مسمى، فقد نسف هذه القصة من الناحية الحديثية. وعلى أي حال، لو قدرنا أن شيئاً مثل هذا قد وقع، بدلالة آية الحج ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ) فنقول: لو قدر أن وقع شيء من ذلك، وأدخل الشيطان في الآيات ما ليس منها، فإن الله سبحانه وتعالى يبطل هذا الدخيل، ويبقي كلامه الأصيل، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فلم يبق محذور .
    (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ): هذا ردٌّ على القدرية الذين ينكرون القدر السابق. ورد على الجبرية الذين ينكرون مشيئة العبد. فقد أثبت الله للعباد مشيئة حقيقية، داخلة تحت مشيئته، خاضعة لإرادته.
    وبهذا كانت هذه السورة العظيمة قد حققت مقاصدها الجليلة. ومن هذه المقاصد :
    1. الإيمان بالساعة واليوم الآخر .
    2. الإيمان بالقرآن وأنه كلام الله المنزل من عنده .
    3. الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
    4. إثبات مشيئة العباد وأفعالهم التي يتعلق بها الثواب والعقاب .
    وهذه المقاصد العظيمة أسس الاعتقاد , تحفر في عقول المخاطبين، وتقر في قلوبهم، أن يؤمنوا بالبعث وما يجري يوم القيامة, وأن يؤمنوا بهذا القرآن الذي يتلى عليهم، وأنه ليس كلاماً كسائر الكلام, ليس من سجع الكهان، وليس من شعر الشعراء، ولا غير ذلك من كلام البشر, بل هو كلام كريم، من رب العالمين. كذلك هذا الشخص المبلغ له مزية, فهو وإن كان بشراً، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق, لكنه يوحى إليه. ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يوحى إلي) . هذه كلها مفاصل الاعتقاد , ثم ما يترتب على هذه الجمل الإيمانية، والأصول العقدية، من الأثر البالغ، وهو تعليقهم بمسئوليتهم، التي مكنهم الله تعالى فيها؛ من الأدوات، والآلات، فأثبت لهم مشيئة ، وفعلاً ، وقدرة ، واختياراً , على أساسه يترتب الثواب، والعقاب. فيا للعجب هذه السورة على قصر آياتها، كيف احتوت هذه الأصول العقدية العظيمة !

    الفوائد المستنبطة :
    الفائدة الأولى : بلاغة القرآن، وقوة تأثيره, تأمل قول الله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوَارِ الْكُنَّسِ . وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ . وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ), لا تفي العبارات لتصوير الأثر الذي ينقدح بالنفس، من هذه الجمل الرصينة المؤثرة , فهذا مظهر لبلاغة القرآن وجزالته، لاسيما القرآن المكي .
    الفائدة الثانية : إقسام الله بما شاء من مخلوقاته, فلله عز وجل أن يقسم بما شاء من مخلوقاته , لكن ليس للمخلوق أن يقسم إلا بالله عز وجل , فمن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك .
    الفائدة الثالثة: التنبيه على أن مهمة جبريل، عليه السلام، هي البلاغ ، أخذاً من قوله : ( رسول ) .
    الفائدة الرابعة : شرف جبريل، عليه السلام، وفضله على سائر الملائكة, حيث وصفه الله بأنه " كريم " وأنه " مطاع " وأنه " أمين " .
    الفائدة الخامسة : تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم مما نبزه به المشركون بالجنون .
    الفائدة السادسة : وفور عقل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن نفي الله تعالى عن نبيه الجنون يتضمن إثبات كمال ضده , فليس المقصود فقط أنه ليس بمجنون، وحسب, بل ليس بمجنون، وفوق ذلك هو وافر العقل، والرأي، والرشد .
    الفائدة السابعة : ثبوت اللقيا بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين جبريل، عليه السلام، واتصال سنده برب العالمين، لقوله : (ولقد رآه بالأفق المبين).
    الفائدة الثامنة : الشهادة الربانية للنبي صلى الله عليه وسلم،بكمال البلاغ, لقوله تعالى : ( وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ) .
    الفائدة التاسعة : عصمة الوحي من إلقاء الشياطين، وتلبيسهم, لقول الله تعالى : ( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ) .
    الفائدة العاشرة : عموم دين الإسلام للعالمين, لقوله تعالى إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ).
    الفائدة الحادية عشرة : كون القرآن ذكراً، يرفع الجهل والغفلة, لقوله : ( إن هو إلا ذكر للعالمين ) .
    الفائدة الثانية عشرة : إثبات مشيئة العباد وأفعالهم , لقوله تعالى : (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ) .
    الفائدة الثالثة عشرة : الرد على الجبرية الذين ينكرون مشيئة العباد .
    الفائدة الرابعة عشرة : أن التزام الدين استقامة، وتركه اعوجاج , لقوله تعالى : (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) , فالمعيار في الاستقامة: موافقة الشرع، والوحي, والمعيار في الوسطية موافقة الشرع والوحي. وتجد بعض الناس يصنف الآخرين على ما يحلو له؛ فيقول: فلان متشدد ، وفلان متساهل ، وفلان متوسط بناءً على معيار غير دقيق, فإذا رأى من يلتزم بالسنن، ويحافظ على هدي النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه: فلان متشدد, سبحان الله ! هذا ليس معياراً صحيحاً ؟ بل هذا انحراف, فالمستقيم حقاً, والمتوسط حقاً، هو من وافق هدي النبي صلى الله عليه وسلم فإن زاد فهو متشدد , وإن نقص فهو مفرط .
    الفائدة الخامسة عشرة : إثبات عموم مشيئة الله تعالى, لقوله تعالى وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) .
    الفائدة السادسة عشرة : الرد على القدرية, فإن غلاة القدرية، ينكرون مراتب القدر الأربع كلها، فيقولون لم يعلم، ولم يكتب، ولم يشأ، ولم يخلق أفعال العباد! ومقتصدوهم، وهم المعتزلة، قالوا: علم، وكتب, لكن لم يشأ، ولم يخلق!
    الفائدة السابعة عشرة : أنه لا تنافي بين إثبات المشيئتين , لأن مشيئة الله شاملة لمشيئة العبد. والدليل على ذلك، أن العبد إذا شاء، والرب لم يشأ، لم تقع مشيئة العبد, لقوله تعالى : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ), لكن في نفس الوقت العبد له مشيئة حقيقية , ليس مضطراً, ولا مكرهاً، ولا مجبوراً, على أفعاله الاختيارية، بل يأتي الأشياء، ويذرها بمحض اختياره، وسبق إصراره. وهذا أمر مدرك؛ كل إنسان يجده من نفسه، ويفرق بين أعماله الاضطرارية، وأعماله الاختيارية, ولا ينازع في هذا إلا مخبول. فأنت تفرق بين أن تنزل من السطح إلى الأرض درجة درجة, وبين أن تتدحرج حتى تصل القاع. الأولى اختيارية , والثانية اضطرارية.
    الفائدة الثامنة عشرة : كمال عدل الله، وعلمه ؛ لأن إثبات مشيئة الله العامة، تدل على إثبات علمه، لوقوع الأشياء وفق معلومه. وكونه سبحانه أعطى العبد مشيئة، وفعلاً، واختياراً، رتب عليه الثواب، والعقاب، يدل على كمال عدله . والله أعلم .
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  5. #45
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    سورة التكوير
    (المقطع الثاني)
    فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29))
    (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) فلا أقسم) هذا التعبير كثير في كتاب الله عز وجل , كقول الله تعالى : ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) , ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ) , وقد اختلف المفسرون في توجيهه , فقال بعضهم إن " لا " زائدة , والمراد : " أقسم " , وإنما نفى القسم، لكون الأمر من الوضوح والبيان، لدرجة لا يحتاج فيها إلى القسم. وهذا أبلغ. وقال بعضهم: إن معنى قوله ( لَا أُقْسِمُ ) أو( فَلَا أُقْسِم ُ) على تقدير محذوف, أي: ليس الأمر كما تظنون، ( أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ) , ولا الأمر كما تظنون ( أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ). فالمنفي هو ذلك الباطل الذي يعتقدون. وبعضهم قال إن "لا" زائدة لفظاً لا معنىً ؛ يعني أنه لا يراد بها حقيقة النفي، وإنما يراد بها التأكيد.
    واختلف العلماء في المرادبـ (الخنس الجوار الكنس )على ثلاثة أقوال: فقيل: المراد بها النجوم السيارة, وقيل الكواكب المعروفة,وقيل: الظباء، أو بقر الوحش. ومعنى(الخنس) التي تغيب وتطلع. ومعنى(الْجَوَار) النجوم التي تجري في فلكها، أو الظباء في فلاواتها. ومعنى(الْكُنَّسِ) : المكان الذي تختفي فيه الظباء والوحوش، أي المكانس، وهي الحجر التي تأوي إليها. وأرجح هذه الأقوال الثلاثة النجوم, وإن كان ابن جرير، رحمه الله، رجح بأن المراد كل ما يخنس، ويجري، ويدخل في كناسه، وأن كل ذلك يصلح محلاً للقسم. لكن يؤيد كونها النجوم أن النجوم أبين، وأظهر؛ يراها الناس جميعاً، وتؤيدها آية الواقعة (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) .
    (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)إنه) أي القرآن,(رسول كريم) المراد به جبريل عليه السلام. وهذا لا يعني أن القرآن من كلام جبريل, وإنما المراد أنه مبلغ عن مرسله، فوظيفته في هذا الأمر النقل، والتبليغ. ولهذا عرفه بأنه رسول
    (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ): (ذي العرش) هو الله سبحانه وتعالى, (مَكِينٍ) يعني: ذي مكانة، ومنزلة .
    (مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (مطاع) يعني أن جبريل، عليه السلام، تطيعه الملائكة, (ثَمَّ أَمِينٍ) يعني أنه مؤتمن على الوحي. وكل هذا توثيق للرسالة.
    (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ): المراد بالصاحب محمد صلى الله عليه وسلم. وإنما نفى عنه الجنون، لأنهم كانوا ينبزونه به، فبرأه الله من ذلك.
    (وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ):أي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام، بالأفق المبين، وهو مطلع الشمس، أو مغربها، مكان التقاء الأرض بالسماء.
    ( وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ)ضنين) أي لا يبخل بالوحي، ولا يأخذ عليه أجراً. وفي قراءة أخرى(ظنين) يعني من الظِّنة، أي ليس محلاً للتهمة، والظنة. فليس بمتهم في تبليغ رسالات ربه، وفي هذا أعظم التزكية.
    (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ) : مما برأ الله تعالى به كلامه، أنه ليس بقول شيطان رجيم. فقد فكان من مزاعم كفار مكة أن الشياطين هي التي تلقي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، وأن له رئي من الجن، يعني صاحب من الجن. والحملة الإعلامية التي كانوا يشوهون بها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يزعمون أن للنبي صلى الله عليه وسلم رئي من الجن يلقنه هذه الكلمات، كما يلقن الجن السجع للكهان. فكلام الله بريء من ذلك. وكلمة " شيطان " مشتقة من الشطن، وهو البعد وذلك، لإبعاد الله تعالى له , ومعنى (رجيم) : أي مرجوم، وملعون، ومطرود عن رحمة الله. وفي هذا أيضاً تبرئة، وتوثيق للقرآن العظيم، من أن يكون التبس به شيء، أو خالطه شيء من إلقاء الشياطين. يقول ربنا عز وجل : ( وَمَاأَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) يعني أن الشياطين تحاول التلبيس على الوحي، والتأثير على النبي، بأن تدخل فيه ما ليس منه. ووجه دلالة الآية , من قوله : ( تمنى ) يعني تلا, وليس المراد تمنى من الأماني , وإنما من الأمنية وهي، التلاوة، كما قال الشاعر :
    تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر
    ومعنى ( أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ): يعني أدخل الشيطان لفظاً في تلاوته. لكن الله عز وجل قد تكفل بعصمة الوحي، قال فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ). وقد روي في سبب نزولها عن سعيد بن جُبَيْر، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة "النجم" فلما بلغ هذا الموضع: ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى . وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى ) قال: فألقى الشيطان على لسانه: "تلك الغَرَانيق العلى. وإن شفاعتهن ترتجى". قالوا: ما ذكر آلهَتنا بخير قبل اليوم. فسجَدَ وسجدوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير. وقال ابن كثير ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم)
    وقد صنف فيها الشيخ ناصر الدين الألباني، رحمه الله، رسالة بعنوان " نصب المجانيق في نسف قصة الغرانيق " والمجانيق: جمع منجنيق : هو آلة حربية، يوضع في كفتها ثقل، ويرمى به القلاع، والحصون، فتهدم الجدران. والرسالة المذكورة، اسم على مسمى، فقد نسف هذه القصة من الناحية الحديثية. وعلى أي حال، لو قدرنا أن شيئاً مثل هذا قد وقع، بدلالة آية الحج ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ) فنقول: لو قدر أن وقع شيء من ذلك، وأدخل الشيطان في الآيات ما ليس منها، فإن الله سبحانه وتعالى يبطل هذا الدخيل، ويبقي كلامه الأصيل، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فلم يبق محذور .
    (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ): هذا ردٌّ على القدرية الذين ينكرون القدر السابق. ورد على الجبرية الذين ينكرون مشيئة العبد. فقد أثبت الله للعباد مشيئة حقيقية، داخلة تحت مشيئته، خاضعة لإرادته.
    وبهذا كانت هذه السورة العظيمة قد حققت مقاصدها الجليلة. ومن هذه المقاصد :
    1. الإيمان بالساعة واليوم الآخر .
    2. الإيمان بالقرآن وأنه كلام الله المنزل من عنده .
    3. الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
    4. إثبات مشيئة العباد وأفعالهم التي يتعلق بها الثواب والعقاب .
    وهذه المقاصد العظيمة أسس الاعتقاد , تحفر في عقول المخاطبين، وتقر في قلوبهم، أن يؤمنوا بالبعث وما يجري يوم القيامة, وأن يؤمنوا بهذا القرآن الذي يتلى عليهم، وأنه ليس كلاماً كسائر الكلام, ليس من سجع الكهان، وليس من شعر الشعراء، ولا غير ذلك من كلام البشر, بل هو كلام كريم، من رب العالمين. كذلك هذا الشخص المبلغ له مزية, فهو وإن كان بشراً، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق, لكنه يوحى إليه. ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يوحى إلي) . هذه كلها مفاصل الاعتقاد , ثم ما يترتب على هذه الجمل الإيمانية، والأصول العقدية، من الأثر البالغ، وهو تعليقهم بمسئوليتهم، التي مكنهم الله تعالى فيها؛ من الأدوات، والآلات، فأثبت لهم مشيئة ، وفعلاً ، وقدرة ، واختياراً , على أساسه يترتب الثواب، والعقاب. فيا للعجب هذه السورة على قصر آياتها، كيف احتوت هذه الأصول العقدية العظيمة !

    الفوائد المستنبطة :
    الفائدة الأولى : بلاغة القرآن، وقوة تأثيره, تأمل قول الله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوَارِ الْكُنَّسِ . وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ . وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ), لا تفي العبارات لتصوير الأثر الذي ينقدح بالنفس، من هذه الجمل الرصينة المؤثرة , فهذا مظهر لبلاغة القرآن وجزالته، لاسيما القرآن المكي .
    الفائدة الثانية : إقسام الله بما شاء من مخلوقاته, فلله عز وجل أن يقسم بما شاء من مخلوقاته , لكن ليس للمخلوق أن يقسم إلا بالله عز وجل , فمن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك .
    الفائدة الثالثة: التنبيه على أن مهمة جبريل، عليه السلام، هي البلاغ ، أخذاً من قوله : ( رسول ) .
    الفائدة الرابعة : شرف جبريل، عليه السلام، وفضله على سائر الملائكة, حيث وصفه الله بأنه " كريم " وأنه " مطاع " وأنه " أمين " .
    الفائدة الخامسة : تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم مما نبزه به المشركون بالجنون .
    الفائدة السادسة : وفور عقل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن نفي الله تعالى عن نبيه الجنون يتضمن إثبات كمال ضده , فليس المقصود فقط أنه ليس بمجنون، وحسب, بل ليس بمجنون، وفوق ذلك هو وافر العقل، والرأي، والرشد .
    الفائدة السابعة : ثبوت اللقيا بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين جبريل، عليه السلام، واتصال سنده برب العالمين، لقوله : (ولقد رآه بالأفق المبين).
    الفائدة الثامنة : الشهادة الربانية للنبي صلى الله عليه وسلم،بكمال البلاغ, لقوله تعالى : ( وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ) .
    الفائدة التاسعة : عصمة الوحي من إلقاء الشياطين، وتلبيسهم, لقول الله تعالى : ( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ) .
    الفائدة العاشرة : عموم دين الإسلام للعالمين, لقوله تعالى إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ).
    الفائدة الحادية عشرة : كون القرآن ذكراً، يرفع الجهل والغفلة, لقوله : ( إن هو إلا ذكر للعالمين ) .
    الفائدة الثانية عشرة : إثبات مشيئة العباد وأفعالهم , لقوله تعالى : (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ) .
    الفائدة الثالثة عشرة : الرد على الجبرية الذين ينكرون مشيئة العباد .
    الفائدة الرابعة عشرة : أن التزام الدين استقامة، وتركه اعوجاج , لقوله تعالى : (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) , فالمعيار في الاستقامة: موافقة الشرع، والوحي, والمعيار في الوسطية موافقة الشرع والوحي. وتجد بعض الناس يصنف الآخرين على ما يحلو له؛ فيقول: فلان متشدد ، وفلان متساهل ، وفلان متوسط بناءً على معيار غير دقيق, فإذا رأى من يلتزم بالسنن، ويحافظ على هدي النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه: فلان متشدد, سبحان الله ! هذا ليس معياراً صحيحاً ؟ بل هذا انحراف, فالمستقيم حقاً, والمتوسط حقاً، هو من وافق هدي النبي صلى الله عليه وسلم فإن زاد فهو متشدد , وإن نقص فهو مفرط .
    الفائدة الخامسة عشرة : إثبات عموم مشيئة الله تعالى, لقوله تعالى وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) .
    الفائدة السادسة عشرة : الرد على القدرية, فإن غلاة القدرية، ينكرون مراتب القدر الأربع كلها، فيقولون لم يعلم، ولم يكتب، ولم يشأ، ولم يخلق أفعال العباد! ومقتصدوهم، وهم المعتزلة، قالوا: علم، وكتب, لكن لم يشأ، ولم يخلق!
    الفائدة السابعة عشرة : أنه لا تنافي بين إثبات المشيئتين , لأن مشيئة الله شاملة لمشيئة العبد. والدليل على ذلك، أن العبد إذا شاء، والرب لم يشأ، لم تقع مشيئة العبد, لقوله تعالى : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ), لكن في نفس الوقت العبد له مشيئة حقيقية , ليس مضطراً, ولا مكرهاً، ولا مجبوراً, على أفعاله الاختيارية، بل يأتي الأشياء، ويذرها بمحض اختياره، وسبق إصراره. وهذا أمر مدرك؛ كل إنسان يجده من نفسه، ويفرق بين أعماله الاضطرارية، وأعماله الاختيارية, ولا ينازع في هذا إلا مخبول. فأنت تفرق بين أن تنزل من السطح إلى الأرض درجة درجة, وبين أن تتدحرج حتى تصل القاع. الأولى اختيارية , والثانية اضطرارية.
    الفائدة الثامنة عشرة : كمال عدل الله، وعلمه ؛ لأن إثبات مشيئة الله العامة، تدل على إثبات علمه، لوقوع الأشياء وفق معلومه. وكونه سبحانه أعطى العبد مشيئة، وفعلاً، واختياراً، رتب عليه الثواب، والعقاب، يدل على كمال عدله . والله أعلم .
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  6. #46
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    سورة عبس
    المقطع الأول
    عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
    سورة (عبس) سورة مكية , تتضمن مقاصد عظيمة منها :
    المقصد الأول : بيان القيم الحقيقية .
    المقصد الثاني: إثبات البعث وأهوال القيامة .
    المقصد الثالث : تقرير توحيد الربوبية .
    نزلت هذه السورة في حادثة جرت للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة، فقد كان يعرض الإسلام على عظماء قريش، وصناديدهم، من أمثال عتبة بن ربيعة , وشيبة بن الربيعة , وأبي جهل , وأمثالهم ؛ رجاء إسلامهم، وطمعاً في استمالتهم، وإعزاز هذا الدين. وفي هذه الأثناء، أقبل عليه رجل أعمى، وهو عبد الله بن عمرو بن أم مكتوم، رضي الله عنه، جاءه مسترشداً, ففي حديث عائشة، رضي الله عنها، أنه كان يقول : أرشدني , فيعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنه, فيقول : هل قلت شيئاً فيه بأس , فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا. وكلح بوجهه، وقطب، وكره سؤاله، فأنزل الله هذه الآيات، التي لا يوجد لها نظير في القرآن العظيم، في العتب على النبي صلى الله عليه وسلم، وبَّين له القيم الحقيقية التي ينبغي أن ينبني عليها تقويم الإنسان للذوات، مهما كانت المصالح الموهومة .
    ( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) : "عبس " أي كلح بوجهه، وقطب بجبينه, وهذا التعبير كناية عن الكراهة، والامتعاض من قدوم هذا السائل الأعمى، في هذا الحال.
    ومعنى " تولى " أي أعرض، وصد عنه. فقد وقع منه صلى الله عليه وسلم حيال هذا الأعمى أمر باطني، وأمر ظاهري, فالأمر الباطني: دل عليه قوله " عبس " لأن هذا العبوس ينبئ عما قام في نفسه من الكراهة، وأما الأمر الظاهري: فهو الإعراض عن ذلك السائل .
    ( أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ) : يعني أن الحامل له على ذلك، هو مجيء الأعمى. وقد وصفه الله تعالى بهذا الوصف " الأعمى " من باب حكاية الحال, وفي هذا دليل على أنه لا بأس بوصف الإنسان بما فيه على سبيل التعريف، لا على سبيل التعيير, ولم يزل العلماء يحتملون الألقاب المعرِّفة بأصحابها، كما نجد ذلك كثيراً عند المحدثين، كقولهم: الأعمش, والأعرج, والطويل، وغير ذلك, وذلك مما استثنى من الغيبة.
    كما أن في وصفه بهذا الوصف " الأعمى " : فيه نوع إعذار له، بأنه ما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مشغول بهذا الحال، إلا بسبب كونه أعمى, وربما لو كان بصيراً، ورأى اشتغال النبي صلى الله عليه وسلم، بمن بين يديه، لتريث إلى أن يفرغ .
    ونلحظ نوع تلطف من الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلم في العتاب، بأن ساق هذه الحادثة على سبيل الخبر، بالفعل الماضي فقال: ( عبس وتولى ) , ولم يقل : " عبست وتوليت " . وهذا يدل على أنه ينبغي لمن أراد المعاتبة، أو النصيحة، أن يتلطف ولا يعنف, فإن التعنيف قد يكون مدعاة لرد الموعظة، والنصيحة, فليتعلم الدعاة من ربهم كيف يعاتبون، وكيف ينبهون على الأخطاء.
    ( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) : أي ما يعلمك أنه قد يتزكى بسؤاله هذا , ومعنى ( يزكى ) التزكية هي التطهر من الآثام، والذنوب، والكفر، والفسوق، وغير ذلك, وأصله يتزكى. فلعله بسؤاله هذا، وقوله: أرشدني، علمني مما علمك الله، أن يتطهر. وذهب ابن زيد، رحمه الله، إلى أن معنى يزكى: يسلم ! وأن ابن أم مكتوم حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مسلماً، فقصد بالتزكية في الآية، الإسلام. إلا إن سياق الآيات التالية يدل على أنه، رضي الله عنه، كان مسلماً إذ ذاك.
    ( أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ) : ومعنى الآية، مع التي قبلها، أنه لم يخله من حالين إحداهما " أن يزكى " والأخرى " أن يتذكر " وفي ذلك توجيهان :
    التوجيه الأول: أن ذلك من باب التحلية بعد التخلية , أي أن تكون التزكية دالة على التطهر، والتخلص من الآفات، والذنوب، والعيوب, ثم تكون الذكرى من باب التكميل؛ بفعل الطاعات، والبر، ونحو ذلك. فيكون المقصود الترقي.
    التوجيه الثاني : أن التزكية يراد بها الأكمل، الأتم، بأن يتحقق له زكاة النفس؛ إما بالإسلام إن لم يكن قد أسلم, وإما بالتوبة النصوح، إن كان قد ألمَّ بخطأ. فإن لم يتحقق ذلك كله، فلعله أن يتحقق بعضه، وهو أن يحصل تذكر, فيكون هذا انتقال من الأعلى إلى الأدنى. فيكون المقصود التنويع .
    ولا يخفى أن الذكرى تنفع المؤمنين، كما قال الله عز وجل: ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ), وذلك أن القلب يتراكم عليه من الغفلات، والشهوات، ما يحجبه عن نور الإلهية، فإذا ذكِّر استنار, ولهذا جاء في الحديث : } إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد , فقيل : وما جلائها يا رسول الله ؟ قال ذكر الله { . فتوالي الغفلات، والشهوات يلقي على القلب الران أو الغان, والران أشد من الغان، قال تعالى: ( كلا بل ران على قلوبهم ما كان يكسبون ) فالكسب الحرام والمعاصي غلف القلب فلا تنفذ إليه المواعظ. والغان دون ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : } إنه ليغان على قلبي حتى أذكر الله { فإذا ذكر الله عز وجل انقشع, فالذكرى نافعة على كل حال؛ إن لم تنفع نفعاً كلياً، نفعت نفعاً جزئياً.
    ( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ) : هذا بداية تقسيم, إما أن يكون المراد باستغنائه أنه استغنى عنك، وزهد فيك، وبدعوتك، وأظهر الإعراض عنك, وإما أن يكون استغنى أي بماله ودنياه، لكونه من أهل الثراء، والجاه. والواقع أنه لا مانع من اجتماع الأمرين، بل الغالب أنهما متلازمان؛ فإن أهل الثراء، والترف، والغنى، غالباً ما يزدرون غيرهم لما يقع في قلوبهم من الاستغناء، والشعور بالترفع عن الآخرين. ولعل هذا هو الواقع , فإن الذين تعرض لهم النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا من صناديد قريش، وعظمائها وأغنياءها .
    ( فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) : أي تتعرض، وتبذل له نفسك, ونبينا صلى الله عليه وسلم، إنما فعل ذلك، بأبي هو وأمي، رغبة في إسلامهم، لا يريد منهم نوالاً، ولا عرضاً من الدنيا, ولكن حرصاً على إسلامهم؛ ليسلم بإسلامهم من خلفهم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يعاني من ذلك حتى إن الله قال له : ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ) يعني لعلك مهلك نفسك حزناً، على آثارهم ، واتباعهم، إن لم يؤمنوا بهذا الحديث.
    ( وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) : " ما " إما أن تكون استفهامية، يعني أي شيء يلحقك، ويصيبك، إن لم يتزك هذا الذي استغنى. وإما أن تكون نافية، يعني ( وما عليك ألا يزكى) أي ليس عليك ضير، ولا لوم، ولا عتب، ألا يسلم ؛ لأن مهمتك البلاغ. وعلى كلا التقديرين، فإن الأمر يدل على أن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، هي البلاغ كما قال تعالى: ( إن عليك إلا البلاغ ). فيجب على الرسول أن يبلغ رسالات ربه، فإن استجيب له فذاك, وإن لم يُستجب له، فلا لوم عليه ولا عتب. قال تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت) , وقال : (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) وفي هذا، أيضاً، درس للدعاة إلى الله، والواعظين، أن يجعلوا همهم، وجهدهم، في بيان الحق، وإيضاحه، وألا يهتموا كثيراً بالنتائج, فإن النتائج إلى الله تعالى.
    ( وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ) : بذاته وبدافعيته، فهو جاء بنفسه بينما الآخر تقصده وتتصدى له . وتأمل قوله " يسعى "، ولم يقل : " يمشي "، بل جاء مسرعاً، كالذي وصف الله في سورة يس : ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ) هكذا يصنع الإيمان بصاحبه. إذا اشتعلت جذوة الإيمان في القلب، انطلقت الجوارح، وزال عنها الكسل، والوهن، وصار الإنسان يخب، ويسعى، ويستحث الخطى.
    ( وَهُوَ يَخْشَى ) : قام في قلبه من خشية الله ما حمله على قصد نبيه صلى الله عليه وسلم والسؤال عن أمر دينه. والخشية منَّة من الله، عز وجل، فإذا ألهم الله عبده الخشية، ألهمه الخير. والخشية ثمرة العلم, قال الله عز وجل : (إنما يخشى الله من عباده العلماء), فمن كان بالله أعرف، كان لله أخوف. وفي الآية دليل على أن ابن أم مكتوم، رضي الله عنه، كان إذَّاك مسلماً.
    ( فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) : تتلهى وتتشاغل.
    فالمعنى الإجمالي لهذه الآيات: أن الله سبحانه وتعالى عاتب نبيه صلى الله عليه وسلم في أمر اجتهد فيه، فأخطأ؛ حينما كان مشتغلاً بدعوة صناديد قريش، رغبة في دخولهم الإسلام، حيث أعرض عمن جاءه مسترشداً، مستهدياً، مقبلاً غير مدبر، راغباً غير معرض, فكلح وجهه، وقطب جبينه, هذا والرجل لا يراه، ولم يفه بكلمة واحدة , ومع ذلك عاتبه ربه هذا العتاب البليغ المؤثر. وهذا دليل على أننا يجب أن ننظر بنور الله عز وجل، وأن نقوِّم الناس، والأشخاص، بحسب منزلتهم في ميزان الله لا في ميزان البشر؛ فنعظم، ونكرم، من يستحق التعظيم والتكريم. فالمؤمن أحق بالكرامة، والإجلال، وإن كان فقيراً ضعيفاً، صعلوكاً, مملوكاً. والكافر، لا كرامة له , وإن كان غنياً، شريفاً, كما قال الله عز وجل : ( ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ) , وقال: ( إن أكرمكم عند الله اتقاكم ).
    هذه القيمة الأساسية مما أرساه هذا الدين، وكان به إعلاءً لقيمة الإنسان , فالإنسان ليس قدره بماله، وجاهه، وشرفه، ونسبه, وإنما قدره بما يختزن في قلبه من إيمان, وتقوى. وقد فقه نبينا صلى الله عليه وسلم، هذا الدرس البليغ، فاستخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين في سفراته, ويروى أنه كان إذا لقيه قال: (أهلاً بمن عاتبني فيه ربي). ولما جاء بعض أشراف العرب؛ الأقرع ابن حابس التميمي, وعيينة بن حصن الفزاري, وغيرهما، ورأوا في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، عمار بن ياسر, وبلال بن رباح، وصهيب الرومي، رضي الله عنهم, أنفوا، واستنكفوا أن تراهم العرب في مجلس يضم هؤلاء الموالي، وقالوا : يا محمد اجعل لنا مجلساً. فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم, لكن دار بخلده ذلك، فأنزل الله تعالى قوله: ( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآيتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ) , فحياهم، ورحب بهم, وأبى أن يمتثل لطلب هؤلاء الذين لم يقع الإيمان في قلوبهم بعد.
    وهكذا أدب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فلما قال أحدهم لبلال، رضي الله عنه: يا ابن السوداء قال : } إنك امرؤ فيك جاهلية {، فما كان من هذا العربي القح، إلا أن وضع خده في التراب، وقال لبلال: طأ بقدمك على خدي، يريد أن يستخرج هذا الدخن، هذه البقية الجاهلية من نفسه، حتى يرى الأمور بنور الله، وحتى يزن الأشياء بميزان الله. قال عمر رضي الله عنه : " أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا" يعني بلالاً، رضي الله عنهم، أجمعين.
    الفوائد المستنبطة :
    الأولى : تلطف الله بنبيه صلى الله عليه وسلم، في المعاتبة.
    الثانية : تلطف الله بالأعمى، بما يعذره في فعله .
    الثالثة : الحرص على التزكية، والتطهر، من الشرك، والمعصية .
    الرابعة : فضل التذكر (أو يذكر فتنفعه الذكرى ) .
    الخامسة : ضبط المصالح والمفاسد بالضوابط الشرعية, وتقدير المصلحة والمفسدة بالمعايير الدينية. ويتفرع عن ذلك أن من الناس من يتوسع بما يسمى (مصلحة الدعوة) فربما يتقحم بعض المحظورات باسم مصلحة الدعوة. وهذا ليس إليه , فإن الدعوة ليست ملكاً لأحد، لأن الدعوة لله عز وجل، فلابد أن يدعو العبد إلى ربه، وفق مراده، ووفق شرعه، وألا يقدم، ولا يؤخر، ولا يصطفي، ولا ينحي، بناءا على محض رأيه، وتقديره، بل لابد أن يستنير بنور الله .
    السادسة : هوان المستغنين عن الهدى، المعرضين عنه، على الله .
    السابعة : أن وظيفة الداعية هي البلاغ، وليس عليه الهدى ( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ) .
    الثامنة : حرص المؤمن على الهدى، والعلم, وسعيه في تحصيلهما.
    التاسعة : أن الخشية ثمرة الإيمان الصادق.
    العاشرة : بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، وإمكان صدور الخطأ منه. فهو بشر يلحقه ما يلحق البشر في الأمور البدنية، والعملية (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) إلا أنه لا يقر على الخطأ. وهذا هو معنى (العصمة) الحقيقي. بينما آحاد الناس يخطئون، وقد يشعرون، وقد لا يشعرون أما النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من عصمة الله له أنه إذا أخطأ، بين له خطئه .
    وهذا يرد به على الذين يغالون في وصف النبي صلى الله عليه وسلم، بغير ما وصفه الله تعالى به، فقد قال تعالى لنبيه : ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) فأثبت له ذنباً، كم أثبت للمؤمنين وللمؤمنات، وأمره أن يستغفر لنفسه، ولهم. وقد استجاب لأمر ربه، فكان يستغفر الله في المجلس مائة مرة, وقال عن نفسه : ( فإني استغفر الله سبعين مرة ) .
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  7. #47
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    المقطع الثاني

    كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)
    ( كَلَّا إِنَّهَا ترذْكِرَةٌ ) : ( كلا ) كلمة ردع، وزجر, ولعلها لم تقل لنبينا صلى الله عليه وسلم في القرآن كله إلا في هذا الموضع, والمشار إليه في قوله ( إنها ) إما هذه الواقعة التي جرت، ففيها تذكرة. وإما أن المراد بذلك هذه الآيات التي تلوناها وأنزلناها, وهذا أقرب لدلالة ما بعدها .
    ( فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ) : يعني فمن أراد أن يتعظ، ويدَّكر، فهاهي بين يديه. قال بعضهم: إن مرجع الضمير في قوله " فمن شاء ذكره " إلى الله عز وجل, ولكن الأليق بالسياق أن يكون المراد هذه الآيات، بدلالة ما بعدها، لأنه قال : ( فمن شاء ذكره , في صحف مكرمة , مرفوعة مطهرة , بأيدي سفرة , كرامٍ بررة ), إذاً، هذه التذكرة هي هذه الآيات المتلوة، التي حفظت هذه الواقعة, وبهذا نجمع بين القولين.
    ( فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ) : أي القرآن المتلو, في صحف مكرمة، يعني أنه مكتوب في صحف كريمة، شريفة .
    ( مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ) : أي في منزلة عالية، رفيعة، بعيدة عن الدنس .
    ( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ) : قيل إن السفرة هم كتبة المصحف، يعني القراء. وإلى هذا ذهب قتادة، رحمه الله، فقال: إن السفرة هم اللذين يكتبون هذه الأسفار، وهم كتبة الوحي، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, أي القراء من الصحابة الذين يحفظون القرآن في السطور، وفي الصدور. وذهب ابن عباس، رضي الله عنهما، في الرواية المشهورة عنه، إلى أن المراد بالسفرة الملائكة, وربما روي من طريق آخر عنه أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم , وهي رواية قتادة عنه, والرواية الأخرى المقدمة، هي رواية العوفي عنه. وإنما سمي الملائكة سفرة، لأنهم سفراء بين الله وبين أنبيائه، والأقرب أن المراد بالسفرة الملائكة .
    ووصفت هذه الصحف بأنها (مكرمة) و (مرفوعة) و (مطهرة) لأنها صحف الملائكة التي يستنسخون بها الوحي ويكتبونه فيها. فلا شك أن ما بأيدي الملائكة رفيع القدر، بعيد عن الدنس.
    ( كِرَامٍ بَرَرَةٍ ) : وصف الله تعالى الملائكة بوصفين : ( كرام بررة ), كما قال في الآية الأخرى : ( كراماً كاتبين ) والكريم هو الشريف, وأصل البر ما دل على كثرة الخير , فالبار هو كثير الخير. ولهذا سمي البَر بَراً لسعته وكثرته. وقد وصف الله عباده الصالحين بأنهم أبرار , ولم يصفهم بأنهم بررة, كما قال الله تعالى : (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) , أما الملائكة فقد وصفوا بأنهم بررة، لكثرة طاعتهم لله، قال الله عز وجل : ( يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) , (لا يسئمون ) , (لايستحسرون ) , وقال : ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) عليهم صلوات الله وسلامه , وفي هذا ملحظ لطيف، ذكره الحافظ ابن كثير، رحمه الله، وهو أنه ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله، وأقواله، على السداد، والرشاد. فإذا كان الملائكة، سفراء الله إلى أنبيائه، الذين يحملون الصحف المكرمة، المرفوعة، المطهرة، هذا وصفهم " كرام بررة "، فينبغي لحامل القرآن من عباد الله، أن يكون على طريق الرشاد، وعلى سبيل السداد ؛ احتراماً، وصوناً لهذا للكلام الذي بين جنبيه.
    ( قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ) : هذا دعاء من الله عز وجل على الإنسان. ولا يستقيم في هذا المقام أن نقول جنس الإنسان, بل ينبغي أن نخصه بالكافر. وقد لاحظ ابن عاشور، رحمه الله، أن ذكر الإنسان في القرآن المكي، غالباً ما يراد به الإنسان الكافر , كما في قول الله تعالى : ( كلا إن الإنسان ليطغى ).
    وقوله ( قتل ) هذا دعاء على الكافر بالقتل. والدعاء عليه بالقتل المراد به اللعن، لأن ذلك طرد، وإبعاد له عن رحمة الله.
    وقوله : ( ما أكفره ) تحتمل (ما) معنيين :
    أن تكون تعجبية : أي ما أشد كفره, فالله خلقه، ورزقه، وأعده، وأمده، ثم يكفر به ! أو تكون استفهامية : يعني أي شيء أكفره ؟ لماذا كفر ؟ وكأنها تعجبية أوقع .
    ( مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) : هذا الاستفهام للتقرير ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعلم, والمراد ما أصل خلقه ؟ .
    ( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَه ُ) : والمراد هنا: من سوى آدم عليه السلام , لأن آدم عليه السلام خلق من قبضة من تراب, والمراد بالنطفة: هو نطف المني ودفقته. هذا أصل خلق الإنسان, ما يقذفه الرجل في رحم الأنثى، يكون منتن الريح، يستحي من ذكره. وقد جاء العلم الحديث ليبين أن حال الإنسان أحقر حتى مما كان يفهم من مجرد الصورة الظاهرة للنطفة؛ فالإنسان يخلق من خلية لا ترى إلا بالمجاهر الدقيقة, فهذه النطفة، أو القذفة المنوية، تحتوي على ملايين الحيوانات المنوية. فتأمل بداية خلق الإنسان ! فما الذي يجعله يشمخ بأنفه، ويتعالى على ربه، ويستنكف عن عبادته ؟
    ( فقدره ) بعد أن خلقه، أمده، وأعده, أعطاه الآلات، والأدواتن التي يقدر فيها على الفعل، والكسبنوالحرث، والضرب في الأرض .
    ( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) : قيل في معنى ( السبيل ) قولان :
    إما أن المراد بالسبيل: طريق خروجه من بطن أمه. وإلى هذا ذهب ابن عباس رضي الله عنهما. وهذا الأمر مدهش ! هذا الجنين الذي احتواه الرحم تسعة أشهر، يسهل الله تعالى مخرجه من هذه المخارج الضيقة ! ويجري من التغيرات العضوية على الرحم، ومخرج الولد، ما يجعله يتسع، ليخرج منه هذا الكائن.
    وقيل أن المراد بالسبيل: هو طريق الحق أو الباطل. ومعنى ( يسره) أي مهد له ذلك السبيل، وبين له الخير من الشر، كما قال في الآية الأخرى : ( إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً). فهذه الآية تؤيد المعنى الآخر، وإلى هذا ذهب مجاهد، رحمه الله، ويشهد له قول الله عز وجل : ( وهديناه النجدين ) يعني الطريقين؛ طريق الخير، وطريق الشر. ولا مانع من حمل الآية على المعنيين؛ لأنه لا تعارض بينهما.
    ( ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) : يعني بعد أن طوى هذا العمر، سالكاً طريق الخير، أو الشر، أماته , لأن الله تعالى قضى بالموت على كل حي، حتى ملك الموت يموت , فلا يبقى إلا الله الواحد القهار. والموت أمر وجودي، كما قال الله تعالى : ( الذي خلق الموت والحياة ) فالموت إذاً أمر وجودي لأنه مخلوق. ومعنى ( أقبره ) أي أمر بدفنه ؛ وفي اللغة يقال " قابر " ويقال " مُقبر " فالقابر هو الذي يباشر الدفن, والمُقبر هو الذي يأمر بالدفن. فهنا قال: ( فأقبره ), ولم يقل " فقبره ". والدفن سنة كونية، ولهذا لما قتل ابن آدم الأول أخاه ( بعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يوارى سوءة أخيه قال ياويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين ) , فلم يزل بنو آدم يقبرون موتاهم، إلا من طمسه الله عز وجل، من الذين يحرقون الموتى, لكنهم بعد إحراقهم للموتى يدفنون رمادهم .
    ( ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ) : أي بعثه وأحياه بعد موته. وقوله ( إذا شاء ) ليس المراد أنه قد يشاء أن ينشره، وقد لا يشاء ذلك؛ لأنه لابد من البعث, وإنما المراد زمن بعثه، يعني إذا شاء أن ينشره أنشره في الوقت المعين.
    ولو تأملنا في هذه الآيات، لوجدنا أن العطف يقع تارة " بثم " وتارة " بالفاء " فمن الناحية البلاغية، سنجد أن العطف جاء " بالفاء " فيما يقصد به التعقيب المباشر , و " بثم " فيما يفصله عما قبله تراخي , قال ( من نطفة خلقه فقدره ) أعطاه الآلات التي يقدر فيها على قضاء مصالحه, بعد ذلك قال: ( ثم السبيل يسره ) لأنه جرى بعد ذلك فاصل، سواء على القول الأول أنه خروجه من رحم أمه؛ لأنه أخذ يترقى في الخلقن من نطفة، إلى علقة، إلى مضغة، إلى أن كسا العظام لحماً , فأتى " بثم " لوجود فاصل زمني , أو على القول الثاني أنه الخير، والشر، بأن يمضي عليه سنوات حتى يصبح مكلفاً، فهذا فاصل زمني يناسب أن يأتي بعده " بثم ". ثم قال ( ثم أماته )، لأنه قد عاش ردحاً من الزمن، فناسب أن يأتي " بثم " التي تدل على تراخ وفاصل طويل , ثم قال: ( فأقبره ) أتى " بالفاء " لأن الفاصل بين الموت والدفن فاصل قصير. ثم قال: (ثم إذا شاء أنشره ) أتى " بثم " لأن بين موت الإنسان وبعثه زمن طويل . فتأمل!
    ( كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) : أي ليس الأمر كما يظن ذلك الكافر المنكر للبعث، أنه أدى ما عليه، وأنه لا شيء عليه، وغير ذلك , كلا! فإنه لم يؤد حق الله الذي افترضه عليه .
    الفوائد المستنبطة :
    الأولى: وصف القرءان بالتذكرة .
    الثانية : إثبات مشيئة العباد، وأفعالهم ( فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ), وفي هذا رد على الجبرية الذين يسلبون العبد مشيئته، وفعله. فالعبد له مشيئة حقيقية , لكن مشيئته داخلة تحت مشيئة الله ( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ.وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) .
    الثالثة : كرامة كلام الله, وكرامة محله، وحملته.
    الرابعة : أن القرآن كلام الله، ليس كلام الملائكة، لقوله ( سفرة ) لوصفهم بالسفارة فمهمتهم النقل فقط. ففيه الرد على المعتزلة الذين قالوا إن القرآن كلام محمد، أو جبريل، وليس كلام الله الصادر منه.
    الخامسة : إثبات الملائكة، ووصفهم بالكرامة وكثرة البر
    السادسة : ذم الكافر الجاحد، والتعجيب من حاله .
    السابعة : بيان أصل الإنسان المهين.
    الثامنة : بيان فضل الله على الإنسان قدراً، وشرعاً، أما قدراً فلقوله ( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ , ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ , ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) , وأما شرعاً فلقوله ( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَه ُ) على القول إن السبيل المراد به طريق الحق والباطل .
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  8. #48
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    سورة عبس
    المقطع الثالث
    ( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42))
    ( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ) : هذه دعوة من الله عز وجل للإنسان , والمراد به هاهنا جنس الإنسان ؛ لأن هذا لا يختص بالكافر, وإن كان الخطاب يتوجه بالدرجة الأولى إلى الكافر، المنكر للبعث, لكنه في الواقع يتناول المؤمن ليتعظ، ويتدبر. والإنسان بطبعه يتبلد حسه بالنسبة للأمور المألوفة, فلا يلقي لها بالاً، ولا يعتبر دوماً، ولا يتبصر بما يتكرر عليه ليل نهار، صباح مساء. فالله تعالى يصرف فكر الإنسان إلى أقرب الأشياء إليه، وهو هذا الطعام الذي يتناوله يومياً، ولم تحدثه نفسه أن يفكر في مصدره, وكيف سيق إليه ؟
    ( أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ) : وهذه القراءة هي المشهورة بفتح الهمزة (أَنَّا)، وعلى هذا تكون الجملة بدل اشتمال لقوله ( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ). والمراد بصب الماء كون الله عز وجل أنزل المطر على الأرض غزيراً قوياً, متتابعاً .
    ( ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ) : و " ثم " ها هنا تفيد التراخي ؛ لأن الإنبات لا يحصل مباشرة , بل يقع في جوف الأرض من التكونات العضوية لهذه النباتات ما يستغرق فترة طالت، أو قصرت. ومعنى ( شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ) أن الله سبحانه وتعالى فتق وجه الأرض ، فأخرج هذا النبات. فتجد النبتة تشق الصعيد، أو تبحث من بين الصخور الصلبة عن شق تخرج منه , حتى إذا قويت واشتد عودها فلقت الصخر، بقدرة الله عز وجل .
    ( فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ) : أي في هذه الأرض, والحب: اسم جنس لجميع الحبوب، فيشمل البر، والشعير، والذرة ، والدخن ، وغير ذلك من أنواع الحبوب .
    ( وَعِنَبًا وَقَضْبًا ) : العنب هو الكرم , وذكرهما الله تعالى لكرامتهما، عند من نزل فيهم القرآن , فإن الحب قوتهم، والعنب فاكهتهم .
    وأما (القضب) التفسير الشامل أو العام لهذه اللفظة أنه كل ما يقضب من النبات، فيجز، فينبت مرة أخرى. ومعنى أنه يقضب من القضب وهو القبض، وجذرهما واحد. وقد اختلفت عبارات المفسرين في معنى القضب، فقيل في معناه: أنها الرطبة يعني أي نبت رطب، وقيل في معناه: العلف، وتحديداً القت, ويلحق به على هذا جميع أنواع البقوليات التي تنبت على وجه الأرض .
    ( وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا) : الزيتون معروف , وقد ذكره الله في غير ما موضع في كتابه , وهو شجرة كريمة، ويخرج منه زيت مبارك (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ), والنخل كذلك معروف، وهو الشجرة الرئيسية، والثمرة الأساسية التي يقتاتون منها, ولا ريب أنها من أكرم أنواع الأشجار، بل هي أكرمها، وأعظمها فائدة، ولهذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن بالنخلة, وألغز أصحابه يوماً، فسألهم عن شجرة لا يسقط ورقها، مثلها مثل المؤمن، فوقع الناس في شجر البادية, وهذا من الخطأ؛ إذا سئل الإنسان، أن يجنح إلى الأمور البعيدة، ينبغي أن يبدأ بالأقرب. فوقع في نفس ابن عمر، رضي الله عنهما، أنها النخلة، قال: فنظرت، فإذا أنا أصغر القوم، فاستحييت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم، إنها النخلة, قال: فحدثت أبي، فأسف عمر،رضي الله عنه، وتمنى أن لو أجاب ابنه، ولا أن له بذلك كذا وكذا. والمقصود أن النخل من أكرم الأشجار، وأعظمها بركة. وقد ذكره الله عز وجل، في مواضع كثيرة من كتابه .
    ( وَحَدَائِقَ غُلْبًا ) : الحدائق البساتين ؛ لأنها تحدق بمن كان بداخلها لكثافتها، والتفاف أشجارها. ومعنى ( غلباً ) أي غلاظاً، وقيل عظيمة، وقيل كراماً، والحق أنه يشمل ذلك كله؛ بمعنى أن الحدائق هذه حدائق تحتوي على أشجار ضخمة، عظام، كرام, ولهذا فسرت بأنها النخل الكرام, فمعنى " الغلب " ما يدل على العظمة، والمتانة، والقوة، ونحو ذلك .
    ( وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) : " الفاكهة "ما يتفكه به الإنسان من أنواع الثمار, و" الأب " قيل: إنه النبات عموماً، وقيل إنه ما يختص بطعام الحيوان. وكأن هذه اللفظة " أب " مأخوذة من ( آب ) , فالنبات الذي يحصد، ثم يخرج يقال له " أب " من الإياب، وهو العَود. فيشمل الأعلاف، وما شابهها. فكأنه أراد التقسيم : " الفاكهة " للإنسان , و " الأب " للحيوان. وأما ما يروى عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، أنه قال لما سئل عن " الأب " : ( أي سماء تظلنيوأي أرض تقلني أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم ) , فهو من حيث السند منقطع, ومن حيث المعنى صحيح؛ فإن الإنسان لا يحل له أن يقول في كتاب الله بمجرد الرأي, بل لابد أن يصدر في ذلك عن أثارة من علم ؛ لأن القول على الله عظيم , وقد كان الصحابة، رضوان الله عليهم، يسألون عن الحديث فيحدثون، فإذا سئلوا عن تفسير القرآن أمسكوا، تعظيماً للمقام؛ لأنهم يرون أن هذا قول على الله عز وجل، وتوقيع عن رب العالمين، فكانوا يتحرجون غاية الحرج، أن يقولوا في كتاب الله مالا يعلمون. فالواجب على الإنسان ألا يخوض فيما لا يعلم, ويروى عن عمر، رضي الله عنه، أنه ساءل نفسه عن " الأب " ثم قال، إن هذا لهو التكلف يا عمر! وقد يكون هذا مشكلاً, فقد يفهم بعض الناس من هذا الأثر، وهو صحيح، أن الإنسان لا يسأل عما خفي عليه, لكن لا يظهر أن هذا هو مراد عمر، رضي الله عنه, وإنما كره أن يقول فيه بلا بينة، فعد ذلك تكلفاً، أن يستنبط شيئاً بلا جزم ولا يقين. وربما كان هذا اللفظ " الأب " ليس من لغة قريش، فخفي على عمر، رضي الله عنه؛ فإن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فبعض ألفاظه ومفرداته، قد لا تكون من لغة قريش, وإنما من لغة بعض أحياء العرب، فخفي على عمر، فنهى نفسه أن يتعجل قولاً بلا جزم ولا بينة، فقال: إن هذا لهو التكلف. ولكن هذا لا يعني أن لا يسأل الإنسان عن معاني ما أنزل الله تعالى على نبيه, لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك شاذة، ولا فاذة، إلا بينها، كما قال تعالى : ( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم ) , وقال : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ ) , وقال : ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ ) , وقال : ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) , وقال : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) , فلابد من تعقل القرآن جميعه، ومعرفة مفرداته، وتراكيبه, ولكن هذا لا يكون بمجرد الرأي المحض، لابد من تفسيره بالمأثور، وقد بين ابن عباس، رضي الله عنهما أن تفسير القرآن على أربعة أضرب :
    الوجه الأول : تعرفه العرب من لغتها : مثل معرفة " غَاسِقٍ " , و " وَقَبَ " , و " الرَّقِيمِ " , و " الأب " ونحو ذلك، فهذا يطلب من علوم العربية ، وقد كانوا ينشدون الأشعار، ويحفظون الشواهد، التي يفسر بها القرآن, وقد جرى بين ابن عباس، رضي الله عنهما، ونافع بن الأزرق سجال في هذا, وكان ابن عباس يستدل على معنى كل لفظة، ببيت من شعر العرب .
    الوجه الثاني : ما لا يعذر أحد بجهالته : وهو المعلوم من الدين بالضرورة. فإذا قال الله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلَاةَ) , فليس لقائل أن يقول: المقصود بالصلاة هنا الدعاء. لأن الشرع أتى بمعنى اصطلاحي للصلاة، وأنها عبادة ذات أقوال، وأفعال، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم. هكذا.
    الوجه الثالث : ما يعلمه العلماء : وهو الذي يحتاج إلى طلب، ورواية، ودراية؛ كمعرفة الناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والخاص والعام.
    الوجه الرابع : مالا يعلمه إلا الله، فمن أدعى علمه فهو كاذب : والمقصود به الكيفيات، وحقائق المغيبات, فهذا لا يمكن أن يعلمه إلا الله. فإذا أخبر سبحانه وتعالى أنه ( عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) فإننا نثبت الاستواء، ونثبت معناه؛ أنه العلو, لكننا لا ندرك كيفيته، فكيفيته لا يعلمها إلا الله. الاستواء معلوم ، والكيف مجهول. وإذا أخبر الله تعالى، عن ما يقع في اليوم الآخر؛ من النفخ في الصور، والبعث، والنشور، والحشر، والصراط، والميزان, فإننا نعلم هذه المعاني من حيث اللغة , لكن لا ندرك الكيفيات, فهذا مما أستأثر به الله تعالى بعلمه، أي بعلم كيفيته .
    ( مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ) : " متاعاً " أي منفعة مؤقتة؛ لأن المتاع يدل على النفع، ويدل على الاستمتاع. والاستمتاع لابد أن يكون موقوتاً. فهذه المذكورات فيها منفعة لكم، وفيها منفعة لأنعامكم. ثم لاحظ أن هذه الأنعام تحيل ذلك إلى طعام؛ فيؤخذ منها اللبن، ويؤخذ منها الزبد، والسمن، واللحم. إذاً هي أيضاً تعود إلى الطعام، فتدخل في عموم قوله ( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ).
    فهذه الجولة في هذه المكونات الغذائية، التي ينبتها الله تعالى على وجه الأرض، ويتناولها الناس، تجعل الإنسان في موقف المتدبر لطعامه، من حين أنزل الله المطر من السماء، إلى أن وصلت إلى فيه. هذه المراحل تستدعي منه النظر، والاعتبار، والتفكر.
    ( فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ) : الصاخة: اسم من أسماء الساعة. وسميت بذلك لأنها تصخ الآذان لشدة صوتها، فهي صيحة مرعبة، مدوية.
    ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ): هذا وصف لتفاصيل القيامة، وهو مشهد مرعب، مفزع , أقرب الناس إليه، من يتمنى أن يفديهم في دنياه ، وأن يدفع عنهم الأذى ، ويتمنى أن يصيبه دونهم , يوم القيامة، يفزع منهم، وينفض يديه منهم، ويفر منهم , لا أحد ينعطف على أحد، ولا أحد يلتفت على أحد. حتى أخيه الذي درج معه في مراتع الصبا، لا يباليه يوم القيامة، ولا يلتفت إليه .
    ( وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ) : سببا وجوده في هذه الحياة، أحن الناس عليه، وأشفقهم به , يفر منهم. يسألانه حسنة واحدة، فلا يبذلها لهما, يقول نفسي! نفسي! النجاء! النجاء!
    ( وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ) : الصاحبة: هي الزوجة، ألصق الناس به, والتي جعل الله بينه وبينها، في هذه الدنيا مودة، ورحمة،يوم القيامة، يفر منها, وفلذة كبده، وبضعة منه، يفر منه يوم القيامة .
    لا ريب أن هذا يدل على هول المطلع، وعظم الموقف، وأن الإنسان ما كان ليبدر منه هذا التنصل من أقرب الناس إليه، إلا لشدة الحال. ولو تأملت في حياتك الدنيا، لوجدت أنك لو رأيت بعض هؤلاء الأحبة يغرق لألقيت نفسك عليه، لتستنقذه، وربما تهلك معه, وإذا وجدته يحترق، ربما ألقيت نفسك عليه، وإذا فقدته لحقك حزن عظيم، وهم، واكتئاب. لكن تأمل ! يوم القيامة، لا مكان لهذه المشاعر، لأن المرء يدرك أن أمامه مصير مستديم، وهول عظيم، يريد أن ينجو بنفسه، يريد أن ينقذ ذاته، لا يلوي على أحد .
    ( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) : يعني يغنيه عن النظر إلى غيره
    كلانا غني عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا
    ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَة ٌ) : في ذلك الموقف العصيب يتمايز الناس؛ فمن خافه في الدنيا، أمنه في الآخرة, ومن أمنه في الدنيا، أخافه في الآخرة. وإنما عبر الله تعالى عن الذوات بالوجوه، لأن الوجه هو مرآة الإنسان، بل هو مرآة القلب فتظهر انفعالات القلب على الوجه, فالوجه صفحة ظاهرة، تنبيء عما في الباطن. ومعنى ( مسفرة ) مضيئة مستنيرة, ووصف الوجوه بأنها ( ضَاحِكَةٌ ) لأن الضحك يرى في الوجه, والضحك يكون من فرح، ومن أنس، ومن موعود حسن, ومعنى ( مستبشرة ) أي فرحة، متفائلة، لما تنتظر ما عند الله عز وجل من النعيم، والفضل. جعلنا الله وإياكم منهم .
    ( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ) : كالحةٌ مظلمةٌ .
    ( تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ) : أي سواد، وظلمة، كما قال الله في الآية الأخرى : ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) .
    ( أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) : جمعوا بين فسادين؛ بين فساد القلب، وفساد العمل, فساد القلب دل عليه وصفها بالكفر، وفساد العمل دل عليه وصفها بالفجور.

    الفوائد المستنبطة :
    الأولى :فضيلة التفكر في نعم الله وآلائه , والدعوة إلى ذلك.
    الثانية : بديع صنع الله في النفس، والآفاق.
    الثالثة : كرم هذه الثمرات، والنباتات, لأن الله تعالى ما خصها بالذكر إلا لمزيد مزيتها.
    الرابعة : وجوب شكر المنعم وعبادته ؛ لأنه قال ( مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ).
    الخامسة : عظم أمر الساعة، وهول أحوال يوم القيامة.
    السادسة : تبرؤ الإنسان من أقرب الناس إليه يوم القيامة.
    السابعة : أن الجزاء من جنس العمل.
    الثامنة : أن الكفر كفران؛ كفر اعتقادي، وكفر عملي ( أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) , لأن الموصوف
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  9. #49
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    سورة النازعات
    المقطع الأول
    وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً
    سميت هذه السورة الكريمة بالنازعات ؛ لورود هذا اللفظ في مستهلها , ومقاصد هذه السورة قريبة من مقاصد سورة النبأ , فإن فيها ما في القرآن المكي من المقاصد العقدية :
    فمن مقاصدها : إثبات البعث , وبيان أهوال يوم القيامـة .
    ومن مقاصدها : بيان مصارع المكذبين بالبعث ، كما في قصة فرعون .
    ومن مقاصدها أيضاً : تقرير توحيد الربوبية، المقتضي لتوحيد الإلوهية. كما في قوله في بقية السورة : ( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ) , وما بعدها .
    ثم أخيراً من مقاصدها : إثبات أفعال العباد , وترتب الثواب والعقاب عليها .
    ويمكن تقسيم هذه السورة إلى مقاطع ذات وحدة موضوعية متميزة , فمنها الآيات الخمس الأول يقول الله عز وجل : ( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً (5)) , هذه أمورٌ خمسة أقسم الله - سبحانه تعالى - بها , ولله - عز وجل - أن يقسم بما شاء من مخلوقاته. قيل في هذه الخمس جميعاً أن المراد بها الملائكة , وقيل أقوال أخر.
    ( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً ) أي : الملائكة التي تنزع أرواح الكفار نزعاً شديداً , وتجذبها جذباً أليماً . فمعنى ( غرقاً ) أي : شديداً , من الاستغراق بالفعل، فهو نزع شديد , كما جاء موصوفاً في حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - : " كما ينزع السفود من الصوف المبلول " , فإن روح الكافر عند القبض، تتفرق في أنحاء جسده , فإذا نزعتها الملائكة وقالت: (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام/93] , تتفرق روحه في جسده , فينزعها الملك نزعاً شديداً . هكذا قيل في تفسير ( والنازعات غرقاً ) , وهو مروي عن جمع من الصحابة - رضوان الله عليهم - , وقيل في تفسير ( النازعات ) : أي الموت ، كما يقال نزعات الموت , أو نزع الموت , وقيل أيضاً أن المراد بالنازعات : النجوم التي تنزع من جهة إلى جهة , وتتحرك من جهة إلى أخرى , فهي تنزع من جانب من السماء إلى جانب , وتنتقل من منزل إلى منزل, وقيل المقصود بالنازعات: القسي الذي يكون فيها السهم , فكأن الله تعالى أقسم بهذه القسي حينما تنزع إلى منتهاها , وقيل في تفسير ( النازعات ) النفس .
    هذه أقوال خمسة , وأقرب هذه الأقوال هو القول الأول , وهو أن المراد بالنازعات الملائكة حين تنزع أرواح الكفار من أجسادهم .
    ( وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ) أحسن ما قيل فيها : الملائكة حينما تسل أرواح المؤمنين سلاً رفيقاً , كما جاء موصوفاً في حديث البراء بن عازب : " فتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين " , وسل الشعرة من العجين أرفق ما يكون , لا صوت، ولا ألم . فأقسم الله بالملائكة حينما تسل أرواح المؤمنين من أبدانهم . وقيل فيها أيضاً ما قيل في سابقتها ؛ أن المقصود بالناشطات الموت ، أو النجوم حينما تنشط من جهة إلى جهة، وقيل فيها أيضاً المقصود بالناشطات : الأوهاق، يعني الحبال التي ترمى بها الأنشوطة, فيسحب بها مثلاً الصيد , والأنشوطة : حبل يكون فيه كالعقدة، يرمى على الشيء البعيد، فيجر به .
    ( والسابحات سبحاً ) , الأصل في السبح العوم في الماء، وأيضاً في الهواء , فالسبح لا يكون فقط في الماء، بل يكون في الهواء أيضاً, ولهذا يوصف الجواد بأنه سابح
    أعز مكان في الدنا سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب
    وأولى الأقوال، كما أسلفنا، أن المراد بها الملائكة حينما تعرج في أجواز الفضاء صعوداً، وهبوطاً، بأمر الله عز وجل , فإن الملائكة كما أخبر الله : ( تعرج الملائكة والروح إليه ) , وقال : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا ) , فالملائكة تصعد وتهبط بأمر الله عز وجل , وقيل في ( السابحات ) أيضاً ما قيل في ما قبلها؛ أن المراد بها الموت, وقيل أن المراد بها النجوم ؛ لأنها تسبح في فضاء الله عز وجل, وقيل فيها أيضاً السفن؛ لأنها تمخر اليم فهي تسبح فيه في الواقع .
    ( فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً ) هذه الفاء للتفريع تدلنا على أن جميع المذكورات شيء واحد , وصفات لموصوف واحد , فالمذكورات السابقة النازعات , والناشطات , والسابحات هي لموصوف واحد وهي الملائكة على القول الراجح , وأنها ليست أنواعاً يعني ليست النازعات شيء , والناشطات شيء , والسابحات شيء , بل كل هذه صفات لجنس واحد ؛ لأنه أتى بعد ذلك بالفاء للتفريع على ما مضى .
    ( فالسابقات سبقاً ) أي : الملائكة تتسابق في امتثال أمر الله , وتنفيذ ما يطلب منها من أنواع الوظائف التي أناطها الله بها. وقيل أيضاً أن المراد بالسابقات: الموت كما قيل فيما مضى , وقيل المراد بها الخيل ؛ لأن السابقات مما توصف به الخيول كما قال الله تعالى : ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً ) فهن يعدون ويتسابقن, وقيل أيضاً: المراد بها النجوم ؛ لتسابقها في المطالع والمغارب .
    وأولى الأقوال هو القول الأول كما أسلفنا.
    ( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) أما المدبرات فإنها بإجماع المفسرين: الملائكة , فهي تدبر الأمر الذي يأمرها الله تعالى به. وهذه الجملة الأخيرة، التي هي الوصف الخامس، تؤيد أن جميع ما مضى صفات لموصوف واحد ؛ لأن الله تعالى عطف المدبرات على السابقات , والسابقات جاءت مصدرة بالفاء التي تفيد التعقيب , فهذا يرجح بقوة أن النازعات , والناشطات , والسابحات , والسابقات , والمدبرات كلها طوائف من الملائكة، أناط الله تعالى بها أعمالاً ووظائف .
    هذه الآيات الخمس عبارة عن قسم , بين الله تعالى المقسم به ولم يبين جواب القسم ؛ والظاهر والله أعلم، أن الله تعالى أخفاه إما تعظيماً لشأنه , وإما لشهرته ؛ لكونه هو الأمر الذي كان يجري الخلف فيه مع مشركي العرب، وهو البعث . فتقدير جواب القسم : لتبعثن. كأن الله تعالى يقول والنازعات، والناشطات، والسابحات , فالسابقات ، فالمدبرات لتبعثن. فيكون المعنى الإجمالي لهذه الآيات الخمس أن الله تعالى أقسم بطوائف من الملائكة منها النازعات التي تنزع أرواح الكفار بشدة ، والناشطات التي تنشط أرواح المؤمنين بيسر وسهولة ، والسابحات التي تسبح في أجواز الفضاء صعوداً وهبوطاً ، والسابقات التي تتسابق في إنفاذ أمر ربها ، والمدبرات التي تدبر ما أمرها الله تعالى بتدبيره مما يقع في الكون , أقسم الله تعالى بهذه الطوائف من الملائكة على أمر عظيم جليل , عليه مدار الحياة، وإقامة الحق, وهو البعث بعد الموت، الذي كان ينكره مشركو العرب، ولا ريب أن هذه القضية قضية عظيمة ثقيلة يتأثر بها مسار الحياة؛ فإن من امتلأ قلبه بالإيمان باليوم الآخر، انضبط، وصار عنده حس يقظ , وصار عنده تخطيط، وشعور بالمسؤولية لما هو مقبل عليه .
    ونستفيد من هذه الآيات الخمس الفوائد التالية :
    أولاً : إقسام الله تعالى بما شاء من مخلوقاته , فلله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته , وليس للمخلوق أن يقسم إلا بالله وحده. فمن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك , أما الله عز وجل فله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وآياته الكونية، والشرعية .
    ثانياً : إثبات الملائكة، وأعمالهم. والإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان. والملائكة عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور, وسخرهم لعبادته وطاعته , فهم يسبحون الليل والنهار لا يسئمون , ولا يفترون , ولا يستحسرون. وقد جعل الله تعالى طبيعتهم طبيعة تعبدية، لا ينزعون إلى الشر أبداً، على النقيض من الشياطين الذين جعل الله طبيعتهم طبيعة تمردية. وبين الطائفتين الإنسان؛ فإن الإنسان ليس كالملك لا ينزعه إلا الخير, وليس كالشيطان لا ينزعه إلا الشر, بل هو كما قال الله تعالى : ( ونفس وما سواها , فألهمها فجورها وتقواها , قد أفلح من زكاها , وقد خاب من دساها ) , فالإنسان بين بين , فهو إن زكى نفسه صارت نفسه ملائكية؛ يعني طائعة لله عز وجل لا أنه يكون ملكاً, لكن تصبح نفسه نفساً مطيعة لله عز وجل منقادة كالملائكة, وإن كانت الأخرى صارت نفسه شيطانية .
    ثالثاً : أن إخفاء المقسم عليه يكون للتعظيم , أو للشهرة , فالله تعالى قد أخفى المقسم عليه، وهذا يزيد الأمر جلالةً ومهابةً .
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  10. #50
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-05-2024
    على الساعة
    12:48 AM

    افتراضي

    تفسير سورة النازعات
    المقطع الثاني
    ( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ) . تسع آيات ذات وحدة موضوعية واحدة .
    ( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) ) : هذا الظرف متعلق بما أضمر، وتقديره: لتبعثن يوم ترجف الراجفة. والراجفة: قيل في تفسيرها: النفخة الأولى التي يحصل بها الصعق، والرادفة النفخة الثانية التي يحصل فيها البعث. ولا ريب في وجود نفختين، فإن الله سبحانه وتعالى قال : ( ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ) فالنفختان هما: نفخة الصعق , ونفخة البعث. وأضاف بعض العلماء نفخة ثالثة، سموها نفخة الفزع , واستدلوا لذلك بأحاديث. وقيل أيضاً في تفسير الراجفة: أنها النفخة الأولى ، وأن الرادفة هي النفخة الثانية , وقد ورد هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقيل: إن المراد بالراجفة هي الأرض نفسها؛ لقول الله تعالى : ( يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيباً مهيلاً)، والرادفة: السماء؛ لكون انشقاق السماء يأتي بعد ذلك, فتكون الراجفة الأرض حين ترجف , والرادفة السماء حين تنشق. ولعل ما ذهب إليه ابن عباس أقرب .
    ( قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) ) : صور الله سبحانه وتعالى، مظاهر الفزع، والخوف، ظاهراً، وباطناً ؛ أما الباطن ففي قوله : ( قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ) أي : خائفة , والخوف محله القلب وأي خوف أعظم من ذلك الخوف الذي لا يدرى صاحبه إلى أين يصار به؛ إلى جنة أم إلى نار ؟ تخيل نفسك في بعض مواقف الدنيا، في أمر دنيوي عما قليل تتجاوزه، وتشتغل بغيره؟ فكيف بهذا الأمر الأبدي، السرمدي، الذي هو نهاية حال العبد ؛ فلذلك كانت القلوب واجفة .
    ( أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ) : أبصار أصحاب القلوب خاشعة، أي: ذليلة؛ لأن الخشوع هو الهبوط. ولا ريب أن القلب هو سر العبد الداخلي, ولا ريب أن العين، أعظم ما يظهر عليه الأثر. العين هي المرآة التي تكشف عما في القلب. ولما وصف الله حال الظالمين، قال : ( ينظرون من طرف خفي )! فالطرف، والنظر، ينبأ عما في القلب فهو مرآته العاكسة. والخشوع يدل على الهبوط, قال تعالى: ( وترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ) .
    ( يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ) : تساؤل عجيب! يكشف عن قلق، وتوتر، وعجب لا ينقطع. (لمردودون) يعني: معادون , ( في الحافرة ) الحافرة: هي الحياة بعد الموت. يعني أنعود نحيا بعد أن متنا , كما وصف الله عز وجل هذا في موضع آخر: ( ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ) والنسلان هو الإسراع في المشي, ( قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا ) ما كانوا يتوقعون هذا ولا يأملون ؛ لأنهم كانوا منكرين للبعث, ( هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ) , فيالها من مفاجأة , وأي مفاجأة ! صدمة هائلة لهؤلاء المنكرين للبعث. وتأمل وقع هذه الآيات عليهم في الدنيا، وهم ينكرون البعث, لا ريب أن مثل هذه الآيات هزت كثيراً من القلوب ودعتها إلى الإيمان , إلا من أبى. وقيل في تفسير الحافرة، أي: الأرض؛ يعني: أنحن مردودون إلى الأرض التي كنا نسكنها ؟ وقيل، وهو قول بعيد: (الحافرة) النار. ولا يستقيم هذا مع قولهم ( لمردودون ) ؛ لأنهم ما كانوا فيها حتى يردوا إليها. وأصل الحافرة في لغة العرب: رجوع المرء من الطريق الذي أتى منه. تقول العرب : " رجع فلان إلى حافرته " كأن الإنسان إذا سلك درباً حفر أثره في طريقه, فإذا قيل رجع فلان إلى حافرته، كأنما قيل رجع أدراجه يعني رجع على سيرته، وخطته التي مشاها.
    ( أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً ) : يعني بعد أن كنا عظاماً، بالية، فانية, فارغة يصوِّت فيها الريح ؛ لأنها لما بليت، صارت مجوفة، فصارت الريح تصفر فيها، تدخل، وتخرج. وقيل أيضاً من معاني نخرة: مرفوتة، يعني مدقوقة محطمة .
    ( قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ) : يعني إن كان الأمر كذلك، فهذه رجعة لا خير فيها، والعياذ بالله؛ لأنهم يعلمون أنهم أساءوا في الأولى، فهم غير متفائلين لهذه الرجعة، فلذلك حكموا على رجعتهم بأنها خاسرة ،لا خير فيها .
    ( فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ) : يعني كل ما في الأمر, فالأمر هين بالنسبة لله عز وجل، أنها زجرة واحدة، وحسب. , والزجرة: هي الصيحة, لكنها بهذا التعبير زجرة تعطي معنىً أشد، من كلمة صيحة, ففيها معنى العنت، والعنف, زجرة واحدة، لا مثنوية فيها .
    ( فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ) : يعني فإذا القوم تنشق عنهم قبورهم، ويبعثون ؛ ليكونوا في الساهرة, والساهرة: هي الأرض بعد التبديل. يقول الله عز وجل : ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ), فالأرض التي يبعث عليها الناس، أرض كالقرصة, وكالخبزة , ليس فيها معلم لأحد؛ فإن الله أخبر أن الجبال تدك، فتصبح: (قاعاً صفصفاً . لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ) , مشهد مهيب، مهول, تعود الأرض ممدودة كمد الأديم، ليس فيها معلم لأحد؛ لا جبل يشرف منه الإنسان، ولا وادٍ يُكنُّه, بل يصبح الناس على حد سواء. هذه هي أرض المحشر. وقيل في تفسير الساهرة أي: أنها اسم مكان معروف من الأرض في الشام, وقيل : إنه جبل إلى جانب بيت المقدس. وأقرب هذه الأقوال أن الساهرة هي الأرض التي تكون بعد التبديل, أرض ليست كأرضنا التي نحيا عليها الآن, بل أرض مهيأة لاجتماع الخلائق عليها, منذ آدم عليه السلام إلى آخر من يموت على وجه الأرض, ليس الآدميين فحسب، بل كما سيأتي إن شاء الله , ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) , فالعشار, والوحوش, وكل شيء يجتمع على تلكم الأرض .
    هذه الآيات العظيمة تتضمن إقرار عقيدة البعث، بأوضح ما يكون، وبأشد ما يكون! فالله سبحانه وتعالى يبدأ بذكر ما يجري يوم القيامة؛ من رجف الأرض, فيخبر الله عز وجل بأن هذه الأرض المستقرة، التي امتن علينا باستقرارها في موضع، فقال : ( أمن جعل الأرض قراراً ), ضع يدك على الأرض تحس أنها مستقرة, لم يدر بخلدك يوماً أن تتحرك، وتهتز, هذه الأرض ترجف ( يوم ترجف الراجفة ) , ورجف الأرض مقارن للنفخة الأولى, فلا تعارض بين التفسيرين, ولا مانع من الحمل عليهما معاً, (تتبعها الرادفة) نفخة أثر نفخة. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أن بينهما أربعون, فقيل : أربعون سنة؟ قال : أبيت، فقيل: أربعون شهراً ؟ قال : أبيت , قيل: أربعون يوماً ؟ قال : أبيت . فالله أعلم، بأي تقدير تلك الأربعين,. ويكون حال الناس، ما وصف الله تعالى من وجف القلوب، واضطرابها, ومن خشوع الأبصار وقلقها، وحيرتها، فزعاً مما هي مقبلة عليه. ويتساءل المنكرون للبعث في ذلك المقام، تساءل المشدوه، الفزِع، المصدوم: ( أإنا لمردودون ) لما كنا فيه من حياة, معادون للأرض التي كنا نسكنها ؟ يا لها من خسارة فادحة ! فهم قد علموا من حالهم أنهم كانوا مكذبين، وحق عليهم ما توعدهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم، فأدركوا أن أمرهم في خسار، وسفال, فلذلك جزموا ( تلك إذاً كرة خاسرة ) , وبين الله تعالى أن الأمر حق، لا مثنوية فيه : ( فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة ) .
    هذه الآيات تضمنت العديد من الفوائد منها :
    الأولى : إثبات النفختين.
    الثانية : عظم شأن الساعة. ولهذا كان من رحمة الله عز وجل أن الساعة، لا تقوم على مؤمن , لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق .
    الثالثة : بيان مظاهر الخوف؛ الظاهرة، والباطنة؛ الباطنة في القلوب , والظاهرة في الأعين
    الرابعة: صدمة الكفار يوم القيامة, وشدة ندمهم .

    .
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

صفحة 5 من 6 الأولىالأولى ... 4 5 6 الأخيرةالأخيرة

التفسير العقدي لجزء عم

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. الأمن العقدي للشيخ عادل المقبل الجزء الثاني
    بواسطة أبوفاطمة1981 في المنتدى منتدى الصوتيات والمرئيات
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 30-04-2014, 07:14 PM
  2. الأمن العقدي للشيخ عادل المقبل الجزء الثاني
    بواسطة أبوفاطمة1981 في المنتدى منتدى الصوتيات والمرئيات
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 28-04-2014, 08:54 PM
  3. الأمن العقدي للشيخ عادل المقبل الجزء الأول
    بواسطة أبوفاطمة1981 في المنتدى منتدى الصوتيات والمرئيات
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 27-04-2014, 07:22 PM
  4. مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 11-11-2008, 08:35 AM
  5. التفسير المبسر000000
    بواسطة ahmad2008 في المنتدى فى ظل أية وحديث
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 20-06-2008, 05:56 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

التفسير العقدي لجزء عم

التفسير العقدي لجزء عم