جواب الجمهور على من قال بالتحريم : اعتمد ابن حزم رحمه الله تعالى على حديث جدامة للقول بالتحريم وقد أجاب عنه الفقهاء بما يدور حول ثلاثة محاور :
الأول : تضعيف حديث جدامة .
الثاني : الجمع بينه وبين أحاديث الإباحة .
الثالث : التفريق بين معنى الوأد الخفي ، والموؤدة الصغرى التي أنكرها الرسول صلى الله عليه وسلم على اليهود .
فبين الطحاوي أن الفرق مبني على أن حديث جدامة على وفق ما كان عليه الأمر في أول الإسلام من موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل فيه وحي على أساس أن الشرائع المنزلة قالت بذلك ، ثم أعلمه الله فكذهب اليهود فيما كانوا يفعلونه من الموءودة الصغرى .[58]
ويقول البيهقي مجيبا عن حديث جدامة : رواة الإباحة أكثر وأحفظ وإباحة من سمينا من الصحابة فهو أولى ... فيحمل حديث جدامة وأحاديث تكذيب اليهود على الكراهة التنزيهية .[59]
وقال الإمام النووي : ثم هذه الأحاديث مع غيرها يجمع بينها بأن ما ورد في النهي محمول على كراهة التنزيه وما ورد في الإذن محمول على أنه ليس بحرام وليس معناه نفي الكراهة .[60]
وقال ابن القيم : أما حديث جدامة بنت وهب فإنه وإن كان رواه مسلم فإن الأحاديث الكثيرة على خلافه وقد قال أبو داود حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا يحيى أن محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان حدثه أن رفاعة حدثه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا قال يا رسول الله إن لي جارية وأنا أعزل عنها وأنا أكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجال وإن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى قال كذبت يهود لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه وحسبك بهذا الإسناد صحة فكلهم ثقات حفاظ وقد أعله بعضهم بأنه مضطرب فإنه اختلف فيه على يحيى بن أبي كثير فقيل عنه عن محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان عن جابر بن عبدالله ومن هذه السلام أخرجه الترمذي والنسائي وقيل فيه عن أبي مطيع بن رفاعة وقيل عن أبي رفاعة وقيل عن أبي سلمة عن أبي هريرة وهذا لا يقدح في الحديث فإنه قد يكون عند يحيى عن محمد بن عبدالرحمن عن جابر وعنده عن ابن ثوبان عن أبي سلمة عن أبي هريرة وعنده عن ابن ثوبان عن رفاعة عن أبي سعيد ويبقى الاختلاف في اسم أبي رفاعة الشياطين هو أبو رافع أو ابن رفاعة أو أبو مطيع وهذا لا يضر مع العلم بحال رفاعة ولا ريب أن أحاديث جابر صريحة صحيحة في جواز العزل وقد قال الشافعي رحمه الله ونحن نروي عن عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رخصوا في ذلك ولم يروا به بأسا قال البيهقي وقد روينا الرخصة فيه عن سعد بن أبي وقاص وأبي أيوب الأنصاري وزيد ابن ثابت وابن عباس وغيرهم وهو مذهب مالك والشافعي وأهل الكوفة وجمهور أهل العلم وقد أجيب عن حديث جدامة بأنه على طريق التنزيه وضعفته طائفة وقالوا كيف يصح أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كذب اليهود في ذلك ثم يخبر به كخبرهم هذا من المحال البين .[61]
ويقول العراقي : أما حديث جدامة فقد اختلف في زيادة العزل فيه فلم يخرجه مالك في حديثه وقال البيقهي في المعرفة : عورض بحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل قالوا إن اليهود تزعم أن العزل هو الموءودة الصغرى قال : كذبت يهود .
وحمل حديث جدامة على العزل عن الحامل لزوال المعنى الذي كان يحذره من حصول الحمل ،وفيه تضييع للحمل لأن المني يغذوه فقد يؤدي العزل إلى موته أو ضعفه فيكون وأدا خفيا .
وأما قولهم أنها موءودة صغرى فإنه يقتضى أنه وأد ظاهر ولكنه صغير بالنسبة إلى وأد الولد بعد وضعه حيا ، وبخلاف قوله صلى الله عليه وسلم إنه الوأد الخفي فإنه يدل على أنه ليس في حكم الظاهر أصلا ، فلا يترتب عليه حكمه ، وإنما شبهه بالوأد من وجه لأن فيه قطع طريق الولادة .[62]
وأما ابن حجر رحمه الله تعالى فأجاب بأربعة أجوبة :
الأول : أن الحديث معارض بما هو أكثر طرقا منه وتعبيره وهو معارض بحديثين وذكر أحاديث جابر وأبي هريرة .
الثاني : أنه أنكر على ابن حزم استدلاله بحديث جدامة حيث قال : لا يلزم من تسميته وأدا خفيا على طريق التشبيه أن يكون حراما .
الثالث : انه يمكن الجمع بين حديث جدامة وأحاديث تكذيب اليهود على التنزيه وهي طريقة البيهقي .
الرابع : أن لا يكون وأدا حتى يتطور في بطن الأم وأشار إلى حديث ابن عباس أنه أنكر أن يكون العزل وأدا وقال إن المني يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم يكسى لحما وقال : والعزل قبل ذلك كله . [63]
ويجيب العيني من وجوه بقريب من جواب ابن حجر فيقول :
الأول : يحتمل أن يكون الأمر في ذلك كما وقع في عذاب القبر لما قالت اليهود إن الميت يعذب في قبره فكذبهم النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يطلعه الله على ذلك فلما أطلعه الله تعالى على عذاب القبر أثبت ذلك واستعاذ منه .
الثاني : أن حديث جدامة منسوخ بحديث جابر وغيره وهو قول الطحاوي .
الثالث : أن حديث جدامة مضطرب وهو قول ابن العربي .
الرابع : أنه يصار إلى الترجيح ، وأن حديث جابر هو الأولى لأنه صحيح ، وله شاهد من حديث أبي سعيد وأبي هريرة .[64]
الهوامش والمراجع
[1] المصباح المنير 2/407 ، والقاموس المحيط 1333 .
[2] شرح مسلم 10/10 .
[3] فتح الباري 9/305 .
[4] فتح الباري 9/307 وأحياء علوم الدين 2/58 .
[5] فتح الباري 9/307 .
[6] صحيح مسلم 2/1063 .
[7] إحياء علوم الدين 2/53 .
[8] فتح الباري 9/427 والمغني لابن قدامة 7/23 .
[9] أخرجه البخاري 2229 ومسلم 1438 والنسائي في الكبرى 5042 وأبو يعلى في مسنده 123 من طرق عن أبي سعيد به .
[10] أخرجه مسلم في صحيحه 1438 والنسائي في الكبرى 5047 وأحمد في مسنده 3/22 والبيهقي في الكبرى 7/230 من طرق عن معبد بن سيرين عن أبي سعيد الدري به مرفوعا .
[11] أخرجه مسلم في صحيحه 1438 وأبو داود 2170 والنسائي في الكبرى 7697 والترمذي 1138 والبيهقي 7/229 وغيرهم من طرق عن مجاهد ، عن قزعة بن يحيى ، عن أبي سعيد الخدري به مرفوعا .
[12] أخرجه مسلم 1438 وأحمد 3/49 وأبو داود الطيالسي في مسنده 1590 والبيهقي 7/229 والطحاوي 3/34 في شرح المعاني وغيرهم من طرق عن أبي الوداك عن أبي سعيد به مرفوعا .
[13] أخرجه النسائي في العشرة 198 ، 199 ، 200 وأبو داود 3171 والبيهقي 7/230 وابن أبي عاصم في السنة 386 والطبراني 7682 من طرق عن أبي رفاعة ، عن أبي سعيد الخدري به مرفوعا ، والحديث صحيح بشواهده .
[14] أخرجه أحمد في المسند 3/96 ومسدد في مسنده 369 اتحاف الخيرة من حديث قتادة ، عن الحسن ، عن أبي سعيد الخدري مثله ، وإسناده ضعيف لعنعنة قتادة ، والحسن .
[15] أخرج البزار 2/172 كشف والطحاوي في شرح المعاني 3/31 من طريق عياش بن عقبة الحضرمي ثنا موسى بن وردان ، عن أبي سعيد الخدري به مرفوعا .
قال البزار : لا نعلم روى موسى عن أبي سعيد إلا هذا الحديث وهو صالح الحديث ، روى عن أبي هريرة ولا بأس به ، وقال الهيثمي في المجمع 4/300 : رواه البزار وفيه يوسف بن وردان وهو ثقة وقد ضعف ، كذا قال يوسف والصواب موسى .
[16] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 12570 والبيهقي في الكبرى 7/230 والطحاوي في شرح المعاني 3/32 من طرق عن الأعمش عن عبد الملك بن ميسرة ، عن مجاهد قال : سألنا ابن عباس عنه فذكره .
ورواته ثقات .
وأخرج عبد الرزاق أيضا في مصنفه 12553 من حديث ابن جريج ، قال أخبرني عبد الله أبي يزيد وهو جالس أن ابن عباس سأله رجل وهو جالس عنده عن عزل النساء ... فذكره بنحوه .
[17] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 12556 وسعيد بن منصور في سننه 2233 والبيهقي في الكبرى 7/231 كلهم من حديث الثوري عن منصور عن مجاهد أن ابن عباس .
[18] أخرجه عبد الرزاق 12572 ومن طريقه البيهقي 7/230 من حديث الثوري ، عن سلمة بن تمام ، عن الشعبي عن ابن عباس به .
وأخرجه أحمد بن منيع في مسنده 4345 إتحاف الخيرة وابن ابي شيبة في مصنفه 16575 من طريق شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من بني سلمة ، عن ابن عباس به وسمى ابن أبي شيبة الرجل وانه زائدة بن عمير وهو ثقة .
وأخرج سعيد بن منصور 2234 من حديث أبي عوانة ، عن سليمان بن أبي المغيرة قال : سألت سعيد بن جبير عن العزل فقال : كان ابن عكر يكرهه ، وعن ابن عباس لا يرى به بأسا .
[19] أخرجه مالك في الموطأ 100 من حديث حميد بن قيس المكي ، عن رجل يقال له ذفيف أنه قال: سئل ابن عباس عنه .. فذكره .
[20] أخرجه البيهقي في الكبرى 7/231 من حديث أبي معاوية عن الفضل بن يزيد الثمالي ، عن ابن عباس فذكره .
والفضل قال عنه الحافظ : صدوق .
وأخرجه عبد الرزاق 12565 من طريق معمر عن الزهري أن سعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت وابن عباس كانوا يعزلون .
[21] أخرجه عبد الرزاق في المصنف 12586 ومن طريقه الطبراني 9664 من حديث أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن علقمة قال : سئل ابن مسعود عن العزل فقال : .. فذكره .
ورواه شعبة عن حماد ، عن إبراهيم عن علقمة وأصحاب عبد الله قال : لا بأس بالعزل .
وهذه متابعة صحيحة لأبي حنيفة ،وقد وثق الإسناد البوصيري .
وأخرجه سعيد بن منصور في سننه 2221 من طريق هشيم ، نا منصور عن الحارث العكلي ، عن إبراهيم قال : سئل ابن مسعود عن العزل .. فذكره بنحوه .
ورواه عبد الرزاق 12569 من حديث الثوري عن الأعمش ، عن إبراهيم قال : كانوا يقولون : إن النطفة التي قضى الله فيها الولد لو وضعت على صخرة لخرج منها الولد .
[22] مسانيد الإمام الأعظم 2/118 .
[23] مشكل الآثار 2/370 وشرح المعاني 3/34 .
[24] بدائع الصنائع 3/234 .
[25] شرح فتح القدير 2/494 .
[26] البحر الرائق 3/214 .
[27] 586 .
[28] التمهيد 3/148 .
[29] المنتقى 4/141 .
[30] القوانين الفقهية 212 .
[31] مختصر خليل 104 .
[32] التاج والإكليل 6/476 .
[33] مواهب الجليل 3/476 .
[34] الشرح الكبير 2/266 .
[35] فح العلي 1/341 .
[36] يشير بذلك إلى منع استخدام دواء يقطع الحمل أصلا أو يجهضه ، كما في تمام جوابه على السؤال الرابع حيث يقول : كما يفعله سفلة التجار من سقي الخدم عند استمساك الرحم الأدوية التي ترخيه فيسيل الممني منه فتنقطع الولادة .
[37] إحياء علوم الدين 2/53 .
[38] طريح التثريب 7/59 .
[39] فتح الباري 9/244 .
[40] نهاية المحتاج 8/27 .
[41] مسائل أبو داود للإمام أحمد 168 .
[42] المغني 8/132 .
[43] الفتاوى الكبرى 1/71 .
[44] زاد المعاد 4/16 .
[45] منتهى الإرادات 2/227 .
[46] شرح المنتهى 5/149 .
[47] غاية المنتهى 3*61 .
[48] الميزان 2/124 .
[49] فتح العلي المالك 1/399 .
[50] المهذب 2/53 .
[51] شرح مسلم 10/9 .
[52] إرشاد الساري 8/99 .
[53] مختصر منهاج القاصدين 70 .
[54] المغني 7/23 .
[55] 155 .
[56] الروضة البهية 156 .
[57] المحلى 10/70 .
[58] مشكل الآثار 2/372 .
[59] السنن الكبرى 7/232 .
[60] شرح مسلم 10/9 .
[61] زاد المعاد 4/17 .
[62] طرح التثريب 7/59 .
[63] فتح الباري 9/248 بتصرف .
[64] عمدة القاريء 2/159 بتصرف .
اللهم نصرك لغزة الذي وعدت
المفضلات