سـينـاريـوهـات يـوم الصّلـب: نـظـريّـة الإغـمـاء نـمـوذجًـا(2)
تقرّر إذن بمعرفة حقيقة الدّوسيتية أنّه لا مكان لها في الإسلام وأنّ القائل بها منكر لبشريّة المسيح, يبقى الأمر الذي يحتاج إلى بيان هو مسألة الإغماء والنّظرة الشّرعيّة لها.

والجدير بالذّكر أنّ نظرية الإغماء لا تتعلّق بالإخبار بمصير المسيح بعد حادثة الصّلب, فالقائلون بها اختلفوا فيما حدث له بعد ذلك من قائل بالرّفع وقائل بفراره إلى مصر وقائل بفراره إلى الهند, وما يهمّنا أوّلا الآن هو ما يتعلّق بحال الصّلب. وأوّل شيئ يقرّ به القائل بالإغماء هو وقوع الصّلب من حيث أنّه وضع الشّخص على الصّليب لا على أنّه مات مصلوبًا, لكنّه نجا من الموت على الصّليب, ويعبّر عنه بقولهم: (Survived the Crucifixion), أي نجا من الموت على الصّليب, وهو ما ذهب إليه أهل القول الأوّل وكذا ميرزا غلام أحمد, غير أنّ القاديانيّة يتأوّلون قوله تعالى :"وما صلبوه" أي ما قتلوه على الصّليب, ولا يعني عندهم نفي وضعه على الصّليب, فهم وإن نفوا قتله وموته حال وضعه على الصّليب, إلاّ أنّهم يقولون بأنّه وضع على الصّليب لكنّه نجا من الموت.

ويخلط الكثير من النّاس حينما يريد أن يفسّر الوفاة في القرآن بشأن عيسى عليه السّلام ويعلّل بها الإغماء, فيقول إنّ اللّه تعالى رفعه بعد أن توفّاه بالنّوم, مستدلاًّ على هذا بقوله تعالى ":إنّي متوفّيك ورافعك إليّ", ثمّ يعمد إلى القول بأنّ المسيح عليه السّلام توفّاه اللّه بالنّوم ثمّ رفعه.

والحقيقة أنّ القول بأنّ اللّه تعالى توفّاه بالنّوم حال الرّفع هو وجه سليم في التّفسير, وهو مرويّ عن السّلف وصحّح ابن كثير سنده عن ابن عبّاس في إحدى روايتيه وهو اختياره, لكن يجب أن يعلم أنّ هذه الوفاة ليست حال وقوع الصّلب, أي ليست حال كون المسيح على الصّليب, وإنّما قبل ذلك أي أنّ اليهود والرّومان لم يظفروا بالمسيح أصلاً, فالوفاة إن كانت فسّرت بالنّوم -وإن كان مرجوحًا عندي- فإنّه رفع عليه السّلام حالها ولا إشكال في تعلّق هذا بالصّلب لأنّ توابعه أصلاًُ لم تتحقّق كإلقاء قبض وسجن ونحو ذلك, وإن كانت فسّرت بأنّ الوفاة بمعنى استيفاء الأجر فهذا هو الرّاجح بناء على ما سأذكره لاحقًا عن صحّة الرّؤية الشّرعيّة في الحادثة وإثبات واقعة إلقاء الشّبه.

وترجيح معنى الوفاة على أنّه وفاة القبض والاستيفاء هو الظّاهر من وجوه:

أولاً: في قوله تعالى:" وما قتلوه يقينًا بل رفعه الله إليه" فالرفع هنا يقابل نفي القتل والصلب, ومعلوم أنّه يجب وقوع التلازم بين المثبت والمنفي وإلا لصار قول الله تعالى من غير معنى وهو مستحيل على الله تعالى, فما أُثبِت بعد "بل" لا بدّ أن يكون ضدًَا لما نُفِي وهو القتل والصلب, ولا يكون هنا إلا الرّفع والقبض إلى السّماء.

ثانيا:" في قوله تعالى أيضا:" وما قتلوه يقينًا" دليل على انتفاء أيّ شبهة للموت, ومعلوم أن النّوم من جنس الموت بدليل آية الزمر, ولو حصل النّوم لكان هناك حصول شبهة وهو ينافي اليقين المذكور في الآية, فإن قيل: قد يتضمّن وجود اليقين مع احتمال النّوم, فالجواب أنّه إنما حدّدنا اليقين بما سبق في الآية من قوله :" مالهم به من علم إلا اتباع الظن", ولو كان المسيح نائمًا وظنّوه مات لما عوتبوا باتباعهم الظنّ لأنهم ليسوا مأمورين بعلم الغيب, فتبيّن انتفاء النوم من أجل انتفاء الظنّ ولوازمه وإثبات اليقين الذي هو الرفع.

ثالثا: قوله تعالى على لسان المسيح عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام:"وكنتُ عليهم شهيدًا ما دمتُ فيهم فلما توفّيتني كنتَ أنت الرقيبَ عليهم" يجري عليها ما يجري على ما ذكرناه في الوجه الأول, فقوله توفيتني تشير إلى تغيّر من الحالة الأولى وهي كونه موجود بينهم, ومقتضاها أي وكنت فيهم شهيدًا, فلما رفعتني من بينهم كنت أنت الرقيب عليهم" ولو كان معنى الوفاة هو النّوم لكان سياق الآية وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم فلما نمت كنت أنت الرقيب عليهم, وهو ليس بسديد فتأمّل, فدل أن معنى الوفاة هنا هو الرّفع والقبض. وهذا جواب أيضًا لمن يقول من أهل القبلة عن وقوع النّوم أو الإغماء على الصّليب.

وقبل أن أتكلّم عن الصّلب واختلاف النّاس في ذلك, هاهنا مسألة أحبّ أن أبيّنها أوّلاً وهو أنّه يجب أن يبيّن الباحث منهجه العلمي في تحقيقه هل هو تقريريّ شرعيّ أم إلزاميّ جدليّ, سواء تصريحًا أم تلميحًا, كما يجب على القارئ أن يدرك ماذا يقصده الباحث, فإنّ الباحث أحيانُا يعمد لتقرير مسألة شرعيّة, وفي خضمّ تقريره يعمد إلى التّسليم بفرضيّة ثم يذهب في دحض استدلالات المسألة الأصليّة بناء على ما سلّمه من صحّة الفرضيّة سواء إلزامًا أم تنزّلاًُ, فيتوهّم القارئ أنّ هذا الباحث يستدلّ على صحّة الفرضيّة لا على دحض المسألة الأصليّة, وهذا من جنس ما حصل للشّيخ الدّاعية أحمد ديدات رحمه اللّه, فإنّ منهجه في إحدى كتبه وهو:"مسألة الصّلب حقيقة أم خرافة" أوهم القارئ أنّ الشّيخ أحمد ديدات يقرّ بحادثة الصّلب وإنّما ينكر موت المسيح على الصّليب, والشّيخ أحمد ديدات اعتمد هنا أوّلاً على التّسليم للنّصارى بصحّة كتبهم, فما استدلّ به لنقض أصل المسألة وهو الموت علىالصّليب جعله يتتبّع مجرى النّصوص المقدّسة ويثبت تناقضها وتضاربها ومن ثمّ بطلانها بناء على أنّ الدّليلين إذا تعارضا تساقطا, وقد تتبّعتُ جميع مسائل كتاب الشّيخ أحمد ديدات, فلم أجده خرج في مسألة من مسائله عن تقريرات الشّيخ رحمة اللّه الهندي في كتابه إظهار الحقّ.

ومن جنس ما وقع للشّيخ أحمد ديدات رحمه اللّه, وقع أيضًا للشّيخ الإمام محمّد رشيد رضا رحمه اللّه في مسألة من نوعها, فإنّه ذهب يفنّد زعم النّصارى في إبطال قيامة المسيح من الأموات وقصّة القبر الفارغ, وذكر أنّه على فرض صحّة ما ثبت للنّاس ما رأوه من تجلّي المسيح لهم بعد حادثة الصّلب, فإنّه لا يبعد أن يكون ما رأوه إنّما هو من خيالات وتصوّرات لا يكون وقوعها من جنس الخوارق والمستحيلات وإنّما وقوعها غير مستبعد, ثمّ شرع في إثبات ذلك بقصص واقعيّة وحوادث وقعت في زمانه وذكر رأي الطّب الحديث وعلم النّفس في ذلك, فجاء بعد ذلك من يطعن في تقرير الشّيخ ويقول أنّ الشّيخ الإمام يقول بعدم رفع المسيح وينكر حياته بعد حادثة الصّلب.

ونعود إلى مسألة الصّلب, وقد بيّنتُ أنّ من قال بوقوع الصّلب وأنّه رفع من على الصّليب وهو في حالة وفاة أو إغماء فإنّه متأوّل لقوله تعالى:"وما صلبوه" على أنّ المراد بذلك ما قتلوه على الصّليب, ويستدلّون بأنّ مجرّد وضعه على الصّليب وعدم كسر أعضائه لا يسمّى صلبًا لأنّه في النّهاية نجا من الموت عليه فهو قد نجا من الصّلب, فمعناه أنّه لم يصلب وهذا هو تصديق الآية. والجواب على هذه الشّبهة من وجوه:
أوّلاً: أنّ ذلك متوجّه لو كان ذكر في الآية نفي القتل دون الصّلب, أما وقوله تعالى:" وما قتلوه وماصلبوه", فهو دليل على انتفاء كليهما, أي القتل وكذا الصّورة أو الهيئة التي تؤدّي إلى ذلك, فالآية واضحة في نفي كليهما.

ثانيًا: تأمّل في قوله تعالى:"وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه", ألا ترى أنّهم زعموا القتل, ولو كان حادثة وضعه على الصّليب محتملة كان ردّ اللّه تعالى مقتصرًا على نفي مازعموا من قتله, لكنّ اللّه تعالى ردّ عليهم بنفي ما قرّروه ومقدّمات ذلك, فهم إنّما اكتفوا بقولهم قتلنا, لأنّ القتل عندهم كان بالصّلب, فاللّه تعالى أخبر بنفي ذلك القتل ونفى حصول مقدّماته.

ثالثًا: قوله تعالى:"ومطهّرك من الذين كفروا" ومقتضى الطّهارة وكمالها أن لا يكون في الهيئة التي حصل له بها حال وضعه على الصّليب من إهانة وشتم وضرب وتسمير وتعرية وما تابع ذلك, ومن سلّم له عليه السّلام باعتلائه الصّليب فقد سلّم له بحصول هذه الإهانات والخزي والعار التي هي مخالفة لوعد اللّه تعالى له بالنّجاه والتّطهير من الذين كفروا.فإن قيل نسلّم باعتلائه الصّلب ولا نجزم بحصول تلك الإهانات, قلنا لهم إنّ مصدر اعتلائه الصّليب هو نفس مصدر حصول تلك الإهانات فكيف تفرّقون بينها وقد جاءت من مصدر واحد وهو الكتاب المقدّس ؟

رابعًا: وهو ردّ ثيولوجي, وهو أنّ وقوع الإهانة والألم والشّتم التي هي توابع وضعه على الصّليب هي جزء ممّا يقرّره النّصارى من عقيدة الخلاص وهو الألم والموت من أجل تخليص النّاس من الخطايا, والإسلام جاء بنسف هذا كلّه, فلو حدث اعتلاؤه عليه السّلام الصّليبَ لم تكن حجّة الإسلام قويّة في دحض هذه العقيدة, إذ ردّ مجرّد الموت على الصّليب مع بقاء وجوده على الصّليب لا يمكن أن تكون في معرض الرّدّ القويّ المفحم لعقيدة الصّلب والفداء, إذ قد يكون الإقرار بحصول الصّلب جزء من الإقرار بحصول اللألم والفداء, فتأمّل.







وإلى هنا يتوقّف ما يعتمد عليه عقيدة المسلم من إيمان بالمسيح عليه السّلام, فيكفى المسلم أن يؤمن بأنّه ما قُتل وما صُلب ولكن رفعه اللّه إليه, وبهذا يتعبّد اللّهَ, وليس متعبّدًا أن يعرف ماذا حصل بعد ذلك أو من الذي مات على الصّليب وغير ذلك من توابع المسألة. وما سأضيفه من بيان يفيد في التّحقيق العلمي للمسألة بما يحتاجه الدّعاة إلى اللّه تعالى في هذا الميدان.

بعد أن ذكرتُ اختلاف النّاس القائلين بعدم موت المسيح على الصّليب نعمد إلى مسألة ما بعد الصّلب وما حدث للمسيح عليه السّلام بعده. والقائلون بنظريّة الإغماء اختلفوا فيما حصل للمسيح عليه السّلام بعد ذلك, فقال بعضهم إنّه رفع إلى السّماء بعد إنزاله من الصّليب, وقالت طائفة أنّه عاش حياة عادية وتزوّج من مريم المجدليّة, وقالت القاديانيّة بل هاجر إلى الهند ولم يرفع. والجدير بالذّكر أنّ كفر القاديانيّة ليس من باب أنّهم قالوا بأنّ المسيح أغمي عليه ونجا من الصّلب, فتأويل قوله تعالى:"وماصلبوه" يعني وما قتلوه وإن حصل وضعه على الصّليب ليس تكذيبًا للقرآن ولا يحكم بكفره وإن كان الرّاجح خلافه كما سبق.

أمّا كفر الميرزا غلام أحمد فليس لقوله هذا بالتّحديد, وإنّما بزعمه أنّه المسيح المنتظر وغيره من أقواله الكفريّة, وممّن ردّ عليه وفنّد أقواله وآراءه الشّيخ الإمام محمّد رشيد رضا رحمه اللّه وكفّره, وردّ عليه في مقالات كثيرة ترجمت ونشرت في الهند وانتشرت, إضافة إلى ردوده عليه في المنار منذ بداية أمره, فغضب ميرزا غلام أحمد عليه, فكتب جوابًا هجا فيه الإمام محمّد رشيد رضا وتوعّده بقوله:"سيهزم فلا يُرى", فسخر منه وتحدّاه, وزعم أنّ هذه نبوّة من اللّه فيه وادّعى أنّ الإمام محمّد رشيد رضا يموت قريبًا, فكان من أمر اللّه تعالى أن عاش الإمام محمّد رشيد رضا طويلاً وهلك الميرزا في حياته.

وها هنا سؤال يطرحه الكثير من المعترضين ويحتار فيه الكثير, وهو قولهم كيف تجمعون بين نفيكم لمسألة صلب المسيح وتسفّهون أصحاب هذا القول, ثّم في الوقت نفسه تدّعون أنّ شخصًا آخر صُلب ؟ فأيّ القولين قولكم ؟ هل حادثة الصّلب لم تقع ؟ أم أنّها وقعت لشخص آخر ؟.

والجواب على هذا السّؤال سهل وبسيط, فكلّ ما عمدناه لحدّ الآن هو نفي صلب المسيح عليه السّلام وإبعاده كامل البعد عن هذه الحادثة المزعومة, وما عدا هذا القول فإنّ المسألة تحتمل أمرين: فإمّا أنّ حادثة الصّلب لم تقع أصلاً, وإمّا أنّها وقعت والمصلوب شخص غير المسيح. ومهما اعتقد المسلم من قول فلا يضرّ, وهذا يكفي. أمّا إذا أخذنا الطّريقة الجدليّة لمناقشة النّصارى والاعتماد على الموروث التّاريخي عندهم وهو الكتاب المقدّس, فإنّ الرّأي الأوّل يكون بعيدًا, والثّاني هو الأقرب والميل إليه شرعًا أسلم لأنّه وجه قويّ في تفسير قوله تعالى:"ولكن شبّه لهم".
ويمكن استقراء نصوص الكتاب المقدّس وإثبات أنّ المصلوب المذكور ليس هو المسيح جزمًا وعندي أكثر من عشرين دليلاً على هذا.

وصلت لحدّ الآن إلى أنّ نظريّة إلقاء الشّبه هي أصحّ وأسلم ما في المسألة, وهي إضافة إلى أنّه يمكن الاستدلال عليها من الكتاب المقدّس الموجود حاليًا, إلاّ أنّ بعض الأناجيل الغير المعترف بها عند النّصارى كإنجيل برنابا يذكر هذه النّظريّة بطريقة لا مجال للشّكّ فيها أو التّأويل.

وإذا اعتمد الدّاعية على أنّ الذي صلب هو شخص آخر غير المسيح, فإنّه يمكنه بذلك مسايرة سرد راويات الكتب المقدّسة وتفنيدها جزءاً جزءًا ممّا يساعد على التّشكيك في عقيدتهم, والتّشكيك –كما هو معلوم- أوّل مراحل البحث عن الحقيقة, بل حتّى مسايرتهم في التّسليم لهم بأنّ الذي مات على الصّليب هو المسيح ثمّ الوصول إلى طريق مسدود يدفع ذلك إلى التّشكيك في كبرى عقيدتهم وإيمانهم.

ولو قيل إن سلّمتم بأنّ الذي صلب ومات على الصّليب هو شخص آخر غير المسيح, وتزعمون بأنّ المسيح رفع قبل عمليّة الصّلب, فكيف تفسّرون ظهور المسيح بعد عمليّة الصّلب لبعض تلامذته ؟ والجواب أنّ مصدر هذا الكلام لم يصحّ عندنا إلاّ فيما سلّمناه للنّصارى من إقرارنا لكتابهم ولذلك فهذه لا نسلّم بصحّتها, وعلى فرض صحّتها فليس فيها دليل على إقامته من الأموات, وما رأته مريم المجدلية وغيرها قد يكون ممّا حصل لهم من خيالات وأوهام ظنّت أنّها رأت المسيح عليه السّلام وهذا ليس ببعيد ولا مستبعد, بل ويمكن الاستدلال به من الكتاب المقدّس أيضًا.