قوله تعالى : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا}
فيها سبع مسائل :
المسألة الأولى : التحية تفعلة من حي ،
وكان الأصل فيها ما روي في الصحيح:
{ أن الله تعالى خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعا ، ثم قال له : اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة ، فاستمع ما يحيونك به ، فإنها تحيتك وتحية ذريتك ; فقال : السلام عليكم . فقالت له : وعليك السلام ورحمة الله
إلا أن الناس قالوا : إن كل من كان [ ص: 589 ] يلقى أحدا في الجاهلية يقول له : اسلم ، عش ألف عام ، أبيت اللعن . فهذا دعاء في طول الحياة أو طيبها بالسلامة من الذام أو الذم ، فجعلت هذه اللفظة والعطية الشريفة بدلا من تلك ، وأعلمنا أن أصلها آدم .

المسألة الثانية : قوله تعالى : { وإذا حييتم } : فيها ثلاثة أقوال :

الأول : روى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أن قوله تعالى : { وإذا حييتم } أنه في العطاس والرد على المشمت .

الثاني : إذا دعي لأحدكم بطول البقاء فردوا عليه أو بأحسن منه .

الثالث : إذا قيل : سلام عليكم ، وهو الأكثر .

وقد روى عبد الله بن عبد الحكم عن أبي بكر بن عبد العزيز ، عن مالك بن أنس أنه كتب إلى هارون الرشيد جواب كتاب ، فقال فيه : بسم الله الرحمن الرحيم والسلام لهذه الآية : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } . فاستشهد مالك في هذا بقول ابن عباس في رد الجواب إذا رجع الجواب على حق . كما روي رجع المسلم .

المسألة الثالثة : قوله تعالى : { فحيوا بأحسن منها أو ردوها } : فيها قولان :

أحدهما : أحسن منها أي الصفة ، إذا دعا لك بالبقاء فقل : سلام عليكم ، فإنها أحسن منها فإنها سنة الآدمية ، وشريعة الحنيفية .

الثاني : إذا قال لك سلام عليك فقل : وعليك السلام ورحمة الله .

المسألة الرابعة : قوله تعالى : { أو ردوها } : اختلفوا فيها على قولين : [ ص: 590 ]

أحدهما : حيوا بأحسن منها أو ردوها في السلام .

الثاني : أن أحسن منها هو في المسلم ، وأن ردها بعينها هو في الكافر ; واختاره الطبري . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن أهل الكتاب إذا سلموا عليك قالوا : السام عليكم فقولوا عليكم } . كذلك كان سفيان يقولها . والمحدثون يقولون بالواو ، والصواب سقوط الواو ; لأن قولنا لهم : عليكم رد ، وقولنا وعليكم مشاركة ، ونعوذ بالله من ذلك . { وكانت عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم : عليك السام . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : عليكم ففهمت عائشة قولهم ; فقالت عائشة : عليكم السام واللعنة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مهلا يا عائشة فقالت : أولم تسمع ما قالوا يا رسول الله ؟ قال : أو لم تسمعي ما قلت عليكم ؟ إنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم في } .

المسألة الخامسة : قال أصحاب أبي حنيفة : التحية هاهنا الهدية ، أراد الكرامة بالمال والهبة قال الشاعر :

إذ تحيي بضيمران وآس

وقال آخر : والمراد بهذا والله أعلم الكرامة بالمال ; لأنه قال : أو ردوها بأحسن منها ، ولا يمكن رد السلام بعينه . [ ص: 591 ]

وظاهر الآية يقتضي رد التحية بعينها ، وهي الهدية ، فإما بالتعويض أو الرد بعينه ، وهذا لا يمكن في السلام ، ولا يصح في العارية ؟ لأن رد العين هاهنا واجب من غير تخيير . قلنا : التحية تفعلة من الحياة ، وهي تنطلق في لسان العرب على وجوه ; منها البقاء قال زهير بن جناب :

من كل ما نال الفتى قد نلته إلا التحية


ومنها الملك ، وقيل : إنه المراد هاهنا في بيت زهير .

ومنها السلام ، وهو أشهرها قال الله تعالى : { وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } . وقد أجمع العلماء والمفسرون أن المراد هاهنا بالتحية السلام حتى ادعى هذا القائل تأويله هذا ، ونزع بما لا دليل عليه . وإن العرب عبرت بالتحية عن الهدية فإن ذلك لمجاز ; لأنها تجلب التحية كما يجلبها السلام ، والسلام أول أسباب التحية ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : { ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم } وقال : { أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام } .

[ ص: 592 ] فعلى هذا يصح أن تسمى الهدية بها مجازا كأنها حياة للمحبة ، ولا يصح حمل اللفظ على المجاز ، وإسقاط الحقيقة بغير دليل .

فإن قيل : نحمله عليهما جميعا . قلنا لهم : أنتم لا ترون ذلك ; فلا يصح لكم بالقول به ، وإذا ثبت هذا بقيت الآية على ظاهرها ، وإن حملوه على الهدية على مذهبنا في هبة الثواب فنستثني منها الولد مع والده بما قررناه من الأدلة في مسائل الخلاف ، فليطلب هنالك ، فصحت لنا الآية على الوجهين جميعا ، والحمد لله . وبقية الكلام ينظر في مسائل الخلاف فليطلب هنا لك . وقد اختلف في معنى السلام عليكم ، فقيل : هو مصدر سلم يسلم سلامة وسلاما ، كلذاذة ولذاذا ، وقيل للجنة دار السلام ; لأنها دار السلامة من الفناء والتغير والآفات .

وقيل : السلام اسم من أسماء الله تعالى ; لأنه لا يلحقه نقص ، ولا يدركه آفات الخلق . فإذا قلت : السلام عليكم فيحتمل الله رقيب عليكم . وإن أردت بيني وبينكم عقد السلامة وذمام النجاة . حدثنا الحضرمي ، أخبرنا ابن منير ، أخبرنا النيسابوري [ أنبأنا قليله ] ، أنبأنا محمد بن علي ، سمعت أبي يقول : قال ابن عيينة : أتدري ما السلام ؟ تقول : أنت مني آمن .


المسألة السادسة : قال علماؤنا : أكثر المسلمين على أن السلام سنة ورده فرض لهذه الآية . وقال عبد الوهاب منهم : السلام ورده فرض على الكفاية إن كانت جماعة ، وإن كان واحدا كفى واحد . فالسلام فرض مع المعرفة ، سنة مع الجهالة ; لأن المعرفة إن لم تسلم عليه تغيرت [ ص: 593 ] نفسه ، ثم يترتب السلام على حسب ما بيناه في كتب الحديث : من قائم على قاعد ، ومار على جالس ، وقليل على كثير ، وصغير على كبير ، إلى غير ذلك من شروطه .

المسألة السابعة : إذا كان الرد فرضا بلا خلاف فقد استدل علماؤنا على أن هذه الآية دليل على وجوب الثواب في الهبة للعين ، وكما يلزمه أن يرد مثل التحية يلزمه أن يرد مثل الهبة . وقال الشافعي في هبة الأجنبي ثواب ، وهذا فاسد ; لأن المرء ما أعطى إلا ليعطى ; وهذا هو الأصل فيها ، وإنا لا نعمل عملا لمولانا إلا ليعطينا ، فكيف بعضنا لبعض ، وسيأتي بيان ذلك في موضعه في سورة الروم إن شاء الله تعالى .



مسألة: الجزء الأول التحليل الموضوعي

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ السَّلَامَ سُنَّةٌ وَرَدُّهُ فَرْضٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ . وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنْهُمْ : السَّلَامُ وَرَدُّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إنْ كَانَتْ جَمَاعَةً ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا كَفَى وَاحِدٌ . فَالسَّلَامُ فَرْضٌ مَعَ الْمَعْرِفَةِ ، سُنَّةٌ مَعَ الْجَهَالَةِ ; لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ إنْ لَمْ تُسَلِّمْ عَلَيْهِ تَغَيَّرَتْ [ ص: 593 ] نَفْسُهُ ، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ السَّلَامُ عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ : مِنْ قَائِمٍ عَلَى قَاعِدٍ ، وَمَارٍّ عَلَى جَالِسٍ ، وَقَلِيلٍ عَلَى كَثِيرٍ ، وَصَغِيرٍ عَلَى كَبِيرٍ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : إذَا كَانَ الرَّدّ فَرَضَا بِلَا خِلَافٍ فَقَدْ اسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الثَّوَابِ فِي الْهِبَةِ لِلْعَيْنِ ، وَكَمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ التَّحِيَّةِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ الْهِبَةِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي هِبَةِ الْأَجْنَبِيِّ ثَوَابٌ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ; لِأَنَّ الْمَرْءَ مَا أَعْطَى إلَّا لِيُعْطَى ; وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهَا ، وَإِنَّا لَا نَعْمَلُ عَمَلًا لِمَوْلَانَا إلَّا لِيُعْطِيَنَا ، فَكَيْفَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ فِي سُورَةِ الرُّومِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .


مسألة: الجزء الأول التحليل الموضوعي

المسألة السادسة : قال علماؤنا : أكثر المسلمين على أن السلام سنة ورده فرض لهذه الآية . وقال عبد الوهاب منهم : السلام ورده فرض على الكفاية إن كانت جماعة ، وإن كان واحدا كفى واحد . فالسلام فرض مع المعرفة ، سنة مع الجهالة ; لأن المعرفة إن لم تسلم عليه تغيرت [ ص: 593 ] نفسه ، ثم يترتب السلام على حسب ما بيناه في كتب الحديث : من قائم على قاعد ، ومار على جالس ، وقليل على كثير ، وصغير على كبير ، إلى غير ذلك من شروطه .

المسألة السابعة : إذا كان الرد فرضا بلا خلاف فقد استدل علماؤنا على أن هذه الآية دليل على وجوب الثواب في الهبة للعين ، وكما يلزمه أن يرد مثل التحية يلزمه أن يرد مثل الهبة . وقال الشافعي في هبة الأجنبي ثواب ، وهذا فاسد ; لأن المرء ما أعطى إلا ليعطى ; وهذا هو الأصل فيها ، وإنا لا نعمل عملا لمولانا إلا ليعطينا ، فكيف بعضنا لبعض ، وسيأتي بيان ذلك في موضعه في سورة الروم إن شاء الله تعالى .