149)‏
إن مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون‏
(‏ آل عمران‏:59)*‏
بقلم الدكتور‏:‏ زغـلول النجـار
هــذه الآية الكريمة جاءت في نهاية الثلث الأول من سورة آل عمران‏,‏ وهي سورة مدنية‏,‏ ومن طوال سور القرآن الكريم إذ يبلغ عدد آياتها مائتي آية بعد البسملة‏.‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي قصة امرأة عمران‏,‏ وابنتها السيدة مريم أم عيسي‏(‏ عليهما السلام‏),‏ كما تروي معجزة ميلاده من أم بغير أب‏,‏ وتذكر عددا من المعجزات التي أجراها الله‏(‏ تعالي‏)‏ علي يديه‏.‏
ويدور المحور الرئيسي لسورة آل عمران حول حوار أهل الكتاب لتحديد عدد من ركائز العقيدة الإسلامية وتشريعاتها‏.‏

وتستفتح السورة الكريمة بالحروف المقطعة الثلاثة الم التي جاءت في مطلع ست من سور القرآن الكريم‏.‏ وقد سبق التعليق علي هذه المقطعات في عدد من المقالات السابقة‏,‏ ولا أري ضرورة لتكرار ذلك هنا‏.‏
ويدور نصف السورة تقريبا‏(‏ من الآيات‏1‏ ـ‏85)‏ في حوار أهل الكتاب‏(‏ ممثلين في وفد نصاري نجران الذي كان قد قدم المدينة المنورة في السنة التاسعة للهجرة من أجل خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏).‏

وتتضمن هذه الآيات الكريمة الإشارة إلي اليهود‏,‏ وإلي خبث نواياهم‏,‏ وكراهيتهم للحق وأهله‏,‏ وتآمرهم علي غيرهم من الأمم‏,‏ ومكرهم وخداعهم‏,‏ كما تتضمن تحذير المسلمين منهم ومن دسائسهم ومؤامراتهم‏,‏ ومؤامرات غيرهم من أهل الكفر والشرك والضلال الذين يدعمونهم‏,‏ وأهل النفاق الذين يلتفون من حولهم‏.‏
وتؤكد سورة آل عمران ضرورة الإيمان بجميع الرسالات السماوية‏,‏ وبجميع أنبياء الله ورسله دون أدني تفريق لأن رسالتهم جميعا واحدة وهي الإسلام العظيم الذي بعث به كل نبي وكل رسول وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب‏*(‏ آل عمران‏:19)‏

ويقول‏(‏ عز من قائل‏):‏
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين‏*‏
‏(‏آل عمران‏:85)‏

وقد جاء الخطاب إلي أهل الكتاب في‏(‏ قرابة السبعين‏)‏ آية‏(‏ من الآية‏18‏ إلي‏85)‏ نختار منها قول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون‏*‏
‏(‏آل عمران‏:64)‏

وبعد ذلك تحدثت الآيات في سورة آل عمران عن عقاب المرتدين‏,‏ وحكم الله‏(‏ تعالي‏)‏ فيهم‏,‏ ودعت إلي الإنفاق في سبيل الله‏,‏ وحذرت من تحريف اليهود للتوراة‏,‏ وأمرت بإتباع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين‏.‏
وأشارت السورة الكريمة إلي الكعبة المشرفة بصفتها أول بيت وضع للناس‏,‏ وأكدت فريضة الحج علي المستطيع من المسلمين‏,‏ وكررت من عتاب أهل الكتاب‏,‏ كما عتبت علي كفار قريش كفرهم وضلالهم بينما آيات الله تتلي عليهم وفيهم خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وأوصت بتقوي الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ في السر والعلن‏,‏ وبضرورة الاعتصام بحبله جميعا‏,‏ ونهت عن فرقة الكلمة‏,‏ وذكرت العباد بنعم الله‏(‏ تعالي‏)‏ عليهم‏,‏ ودعت إلي نفرة أمة الإسلام للدعوة إلي الخير‏,‏ وإلي الأمر بالمعروف‏,‏ والنهي عن المنكر‏,‏ ووصفت الذين يستجيبون لهذا النداء الإلهي بأنهم هم المفلحون‏.‏

وتحدثت سورة آل عمران عن مصائر كل من المؤمنين والكافرين في الآخرة وجزائه‏,‏ وأكدت أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق‏,‏ أنزله بالحق علي خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وأنه هدي وموعظة للمتقين‏.‏ وخاطبت أمة الإسلام بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله‏...*(‏ آل عمران‏:110)‏

وبعد ذلك انتقلت سورة آل عمران إلي الحديث عن غزوة أحد‏,‏ وما أصاب المسلمين فيها من انكسار بسبب مخالفتهم لأوامر رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في ساحة المعركة‏,‏ وذكرت بانتصارات بدر‏,‏ وبمبررات ذلك الانتصار‏,‏ وصاغت تلك الأحداث صياغة ربانية معجزة لا تتوقف عند حدود وصف المعركتين وصفا مجردا‏,‏ ولكن تتجاوز ذلك إلي توجيهات ربانية دائمة في بناء الجماعة الإسلامية‏,‏ وتوضيح سنن الله في النصر والهزيمة إلي يوم الدين‏,‏ مؤكدة أن لله ما في السماوات وما في الأرض‏,‏ وأن الله تعالي يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وأنه غفور رحيم‏.‏ وتنهي هذه السورة الكريمة عن أكل الربا‏,‏ وتحذر من عذاب النار‏,‏ وتأمر بطاعة الله ورسوله‏,‏ وبالمسارعة إلي طلب المغفرة من الله‏,‏ وسؤاله الجنة التي أعدت للمتقين الذين أوردت شيئا من صفاتهم‏,‏ وتوصي بالسير في الأرض من أجل الاعتبار بعواقب المكذبين الذين كذبوا رسل الله وحاربوا دينه وأولياءه‏.‏
ثم عاودت سورة آل عمران إلي التذكير بغزوة أحد في مواساة رقيقة للمسلمين‏,‏ مؤكدة لهم أنهم هم دائما الأعلون ما داموا علي إيمانهم بالله‏,‏ علي الرغم من تعرضهم لشيء من النكسات في بعض الأوقات لأن النصر والهزيمة من سنن الله في الحياة‏,‏ لكل منها قوانينه‏,‏ وأن الأيام دول يداولها الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بين الناس لحكمة يعلمها بعلمه المحيط لعل منها أن يتخذ من المؤمنين شهداء‏,‏ وأن يميز المؤمنين من المنافقين‏,‏ وأن يطهر المؤمنين بشيء من الإبتلاء والتمحيص مما قد يقعون فيه من الذنوب‏,‏ ويهلك كلا من الكافرين والمشركين والطغاة المتجبرين بذنوبهم‏,‏ والله‏(‏ تعالي‏)‏ لا يحب الظالمين من المعتدين‏,‏ كما لا يحب المتخاذلين في الدفاع عن دمائهم‏,‏ وأعراضهم‏,‏ ومقدساتهم‏,‏ وممتلكاتهم‏,‏ وأراضيهم‏,‏ وعن الحق وأهله‏.‏ وهذا الخطاب كما كان لرسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وأصحابه وأهل زمانه‏,‏ هو خطاب لكل من آمن به من بعده إلي يوم الدين‏.‏

وتؤكد هذه السورة الكريمة بشرية سيدنا محمد‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وأنه رسول قد خلت من قبله الرسل لا يجوز لأي ممن آمن به واتبعه أن يرتد عن ذلك بعد موته‏,‏ فرسالته خالدة‏,‏ باقية إلي يوم الدين لأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد تعهد بحفظها‏.‏ وتؤكد الآيات أن من يرتد عن دينه فلن يضر الله شيئا‏,‏ ولكنه يهلك نفسه بتعريضها لسخط الله وعذابه‏.‏
وتنتقل الآيات إلي الحديث عن قضية الأجل مؤكدة أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد جعل لكل نفس أجلا محددا لا تموت إلا عنده‏,‏ وقد جعل الله‏(‏ تعالي شأنه‏)‏ الأجل غيبا لا يعلمه إلا هو‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ حتي لا تتوقف عجلة الحياة‏,‏ وحتي يتجاوز المسلم حاجز الخوف من الموت فيتقدم إلي مواكب الشهادة في سبيل الله دون وجل أو مهابة‏.‏

وتؤكد الآيات في سورة آل عمران أن من قصد بعمله أجر الدنيا أعطاه الله إياه‏,‏ وليس له في الآخرة من نصيب‏,‏ وأن من قصد بعمله أجر الآخرة أعطاه الله تعالي أجري الدنيا والآخرة‏.‏ وأن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ يجزي عباده بحسب شكرهم لنعمه‏,‏ واعترافهم بعظيم فضله‏,‏ وإن كانت هذه أحكاما عامة إلا أن فيها تعريضا واضحا بمن رغبوا في غنائم الحرب أثناء شدة القتال في غزوة أحد فتسببوا في عدم إتمام النصر الذي بدا في أول الأمر محققا للمسلمين‏.‏
ثم تنتقل الآيات إلي الحديث عن العلماء الربانيين‏,‏ والمجاهدين الصادقين الذين قاتلوا مع أنبياء الله ورسله من أجل إعلاء دين الله واقامة عدله في الأرض‏,‏ فقتل منهم من قتل شهيدا‏,‏ وأصيب من أصيب‏,‏ ولكنهم لم يذلوا لعدوهم أبدا‏,‏ ولم يخضعوا له‏,‏ واحتسبوا وصبروا في كل ما مر بهم من الشدائد والمحن ولذلك امتدحهم القرآن الكريم بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين‏*‏ وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا علي القوم الكافرين‏*‏ فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين‏*(‏ آل عمران‏:146‏ ـ‏148)‏
وتعاود السورة المباركة إلي التحذير من موالاة كل من الكافرين والمشركين‏,‏ مؤكدة أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو مولي المؤمنين‏,‏ وهو خير الناصرين الذي يعدهم النصر بقوله الحق‏:‏

سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوي الظالمين‏*‏
‏(‏آل عمران‏:151)‏

ومرة أخري تستعرض الآيات‏(152‏ ـ‏175)‏ أحداث معركة أحد بهدف تربية المسلمين‏,‏ وتحذيرهم من مزالق الطريق‏,‏ وتنبيههم إلي ما يمكن أن يحيط بهم من كيد الكفار والمشركين كالذي أحاط بهم في القديم والذي يحيط اليوم بجميع المسلمين‏,‏ وفي ذلك يحاول الشيطان أن يعين أولياءه كي يجعل منهم مصدر إرهاب وتخويف للمؤمنين‏,‏ والخوف لا يجوز أن يكون إلا من رب العالمين‏.‏
وتطلب الآيات من رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ ألا يحزن علي الذين يسارعون في الكفر لأنهم لن يضروا الله شيئا في الوقت الذي يضرون أنفسهم ضررا بليغا‏,‏ ويريد الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ ألا يجعل لهم حظا في الآخرة‏,‏ ولهم عذاب عظيم‏.‏ وإمهالهم في الدنيا‏,‏ والتمكين لهم فيها ليس من صالحهم لإزديادهم في المعاصي والآثام مما يجعلهم أهلا لمضاعفة العذاب في الآخرة‏.‏ وعلي النقيض من ذلك فإن ابتلاء الله‏(‏ تعالي‏)‏ لصفوف المؤمنين ليميز الخبيث من الطيب‏(‏ وهو أعلم بهم‏),‏ وليظهر ذلك لمن يشاء من عباده كما فعل في معركة أحد‏,‏ وفي ذلك يقول‏:‏

ما كان الله ليذر المؤمنين علي ما أنتم عليه حتي يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم علي الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم‏*‏
‏(‏ آل عمران‏:179)‏

وتدعو الآيات إلي الإيمان بالله وتقواه‏,‏ وببذل المال في سبيل الله‏,‏ وتتوعد الذين يبخلون بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير‏*‏ آل عمران‏180‏

ثم تعاود الآيات إلي ذكر شيء من جرائم اليهود المروعة‏,‏ ودسائسهم الخبيثة‏,‏ وأساليبهم الملتوية‏,‏ وتطاولهم الكاذب علي الله‏(‏ تعالي‏)‏ وعلي غيرهم من الخلق‏,‏ ومحاربتهم دين الله‏,‏ وأولياءه وأنبياءه‏,‏ ورسله‏,‏ ونقضهم العهود والمواثيق‏,‏ ونشرهم المعلومات الكاذبة والأباطيل والأساطير‏,‏ والإشاعات المختلقة المزيفة‏,‏ والادعاءات الباطلة‏(‏ قاتلهم الله‏).‏
وتنطلق الآيات إلي تأييد خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في وجه المكذبين لدعوته ولبعثته الشريفة فتقول‏:‏

فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير‏*‏
‏(‏آل عمران‏:184)‏

وتؤكد السورة الكريمة أن الفناء هو مصير الخلائق‏,‏ وأن الموت مكتوب علي كل نفس‏,‏ وأن جزاء الأعمال سوف يوفي كاملا يوم القيامة‏,‏ وأن الإبتلاء من سنن الحياة‏,‏ ولا يملك الإنسان في مواجهته أفضل من الصبر والاحتساب‏,‏ وتقوي الله‏(‏ تعالي‏)‏ وذلك كله من عزم الأمور‏.‏
وتعاود الآيات للمرة الثالثة إلي استعراض بعض مخازي بني إسرائيل ومنها كتم ما أنزل عليهم‏,‏ ونبذه وراء ظهورهم‏,‏ وبيعه بالحقير من حطام الدنيا الفانية‏.‏ وتختتم سورة آل عمران بتوجيه الناس جميعا إلي التأمل في خلق السماوات والأرض‏,‏ واستخلاص شيء من صفات الخالق العظيم بالتعرف علي بديع صنعه في خلقه‏,‏ وتدعوهم لتكثيف الدعاء إلي الله‏(‏ تعالي‏)‏ والرجاء من فضله بالنجاة من النار‏,‏ ومن خزي يوم القيامة‏,‏ والمغفرة من الذنوب‏,‏ وتكفير السيئات‏,‏ ورفع الدرجات‏,‏ والاستجابة إلي كل ذلك من فيض كرم الله‏(‏ تعالي‏),‏

وفي ختام هذه السورة المباركة أيضا يأتي الخطاب إلي رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وإلي جميع المسلمين من بعده ألا يغتروا بتقلب الذين كفروا في البلاد في شيء من النعم المادية والجاه والسلطان‏,‏ وذلك لأن متاع الدنيا قليل‏,‏ ومن ثم لابد أن ينتهي بهم إلي جهنم وبئس المصير‏,‏ بينما الصالحون المتقون قد يعيشون في الدنيا عيشة الفقراء‏,‏ وحياة الابتلاء ثم تنتهي بهم هذه الحياة إلي نعيم الآخرة الأبدية الخالدة وما أعد الله‏(‏ تعالي‏)‏ لهم فيها من خير كثير‏.‏
وتعاود السورة الكريمة في ختامها إلي ذكر أهل الكتاب بمن اهتدي منهم ومن حقت عليه الضلالة‏,‏ فالذين اهتدوا إلي دين الله‏,‏ وآمنوا بخاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وبالقرآن الكريم الذي أنزل إليه‏,‏ فمن الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ عليهم بالخشوع لجلاله‏,‏ والخضوع لأوامره‏,‏ واجتناب نواهيه‏,‏ والاعتزاز به وتعظيمه‏,‏ فأكرمهم بأن لهم أجرهم عند ربهم‏,‏ وتقفل سورة آل عمران بوصية من الله‏(‏ تعالي‏)‏ إلي عباده المؤمنين يقول لهم فيها‏:‏
يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون‏*.‏
‏(‏ آل عمران‏:200)‏

وهذه الوصايا الربانية هي عدة المؤمن في مواجهة أهل الباطل في كل عصر وفي كل حين‏.‏

من الآيات الكونية في سورة آل عمران
‏1‏ ـ الإشارة إلي أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ هو الذي يصور الخلق في أرحام الأمهات كيف يشاء‏.‏
‏2‏ ـ التعبير عن دوران الأرض حول محورها أمام الشمس بظاهرتي ولوج الليل في النهار‏,‏ وولوج النهار في الليل‏.‏
‏3‏ ـ تشبيه دورة الحياة والممات والبعث بإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي‏.‏

‏4‏ ـ التأكيد علي خلق كل من آدم وعيسي ابن مريم‏(‏ عليهما السلام‏)‏ من تراب‏,‏ ثم قيام كل منهما بالأمر الإلهي‏:‏ كن فيكون‏,‏
‏5‏ ـ ذكر حقيقة أن‏..‏ أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدي للعالمين‏*‏

‏6‏ ـ التأكيد علي أن لله ما في السماوات وما في الأرض وأن إليه ترجع الأمور‏.‏
‏7‏ ـ الإشارة إلي حقيقة أن كل نفس ذائقة الموت‏,‏ وأن الموت كتاب مؤجل لا يحل إلا بإذن الله‏.‏

‏8‏ ـ التلميح إلي قضية نفسية مهمة لم تعرف إلا مؤخرا وهي معالجة الغم بغم جديد من أجل تخفيفه‏.‏
‏9‏ ـ التأكيد علي أن خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار فيهما آيات لأولي الألباب‏,‏ وأن التفكير في مثل هذه القضايا من وسائل التعرف علي الخالق العظيم‏,‏ وعلي شيء من صفاته العليا وقدراته التي لا تحدها حدود‏.‏

وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة مستقلة‏,‏ ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الرابعة من القائمة السابقة والتي تتعلق بالتأكيد علي خلق كل من آدم وعيسي ابن مريم‏(‏ عليهما السلام‏)‏ من تراب ثم قيام كل منهما بالأمر الإلهي‏:‏ كن فيكون‏.‏

من الدلالات العلمية للآية الكريمة
يؤكد ربنا تبارك وتعالي في محكم كتابه أن الخلق الأول لأبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ قد تم بمعجزة وذلك بالأمر الإلهي كن فيكون‏,‏ ولحكمة يعلمها الله‏(‏ تعالي‏)‏ تم هذا الأمر علي عدد من المراحل المتتالية كما يلي‏:‏
‏(1)‏ من تراب‏(‏ آل عمران‏/59,‏ الكهف‏/37,‏ الحج‏/5,‏ الروم‏/20,‏ فاطر‏/11.‏ غافر‏/67)‏

‏(2)‏ ثم من طين وهو التراب المعجون بالماء‏(‏ الأنعام‏/2,‏ الأعراف‏/12,‏ السجدة‏/7,‏ ص‏/76,71,‏ الإسراء‏/61)‏
‏(3)‏ ثم من سلالة من طين أي من خلاصة منتزعة من الطين برفق‏(‏ المؤمنون‏/12)‏

‏(4)‏ ثم من طين لازب أي لاصق بعضه ببعض‏(‏ الصافات‏/11)‏
‏(5)‏ ثم من صلصال من حمأ مسنون أي أسود منتن‏(‏ الحجر‏/33,28,26)‏
‏(6)‏ ثم من صلصال كالفخار‏(‏ الرحمن‏/14)‏

‏(7)‏ ثم نفخ الله‏(‏ تعالي‏)‏ فيه من روحه فأنشأت نسمة الروح مراد الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ من خلقه‏.‏ ويجمل القرآن الكريم هذه المراحل كلها بالإشارة إلي خلق الإنسان من الأرض‏(‏ هود‏/61,‏ طه‏/55,‏ النجم‏/32,‏ نوح‏/18,17),‏ ومن الماء‏(‏ الفرقان‏/54)‏

ويتحدث القرآن الكريم عن تسلسل النسل بالتكاثر‏,‏ والمادة أصلا هي تراب الأرض ونفخة الروح‏,‏ ويجمل ذلك في تعبير من ذكر وأنثي‏(‏ الحجرات‏/13)‏ كما يجمله في الماء‏(‏ الفرقان‏/54),‏ وفي الماء الدافق‏(‏ الطارق‏/6),‏ وفي الماء المهين‏(‏ المرسلات‏/20),‏ وفي سلالة من ماء مهين‏(‏ السجدة‏/8),‏ ومن نطفة‏(‏ النحل‏/4,‏ يس‏/77,‏ عبس‏/19),‏ ومن نطفة إذا تمني‏(‏ النجم‏/46),‏ ومن نطفة أمشاج‏(‏ الإنسان‏/2),‏ ومن علقة‏(‏ القيامة‏/38,‏ العلق‏/2),‏ ومن مضغة مخلقة وغير مخلقة‏(‏ الحج‏:5),‏ ويجمع المراحل كلها حتي انشاء الجنين خلقا آخر‏(‏ الحج‏:5,‏ المؤمنون‏:12‏ ـ‏14)‏ ويضمها في تعبير خلقا من بعد خلق‏(‏ الزمر‏/6),‏ وفي تعبير أطوارا‏(‏ نوح‏/14),‏ وفي أحسن تقويم‏(‏ التين‏/4).‏ ويرد الخلق كله إلي الخلق الأول لأبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ في تعبير من نفس واحدة‏(‏ النساء‏/1,‏ الأعراف‏/189,‏ الزمر‏/6),‏ ويشير إلي خلق أمنا حواء من هذه النفس الواحدة‏(‏ أبينا آدم عليه السلام‏)‏ بقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا‏*(‏ النساء‏:1)‏

وقوله‏(‏ عز من قائل‏):‏
‏*‏هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها‏..*‏
‏(‏الأعراف‏:189)‏

وقوله‏(‏ جلت قدرته‏):‏
‏*‏خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها‏..*(‏ الزمر‏:6)‏
والنفس الواحدة هي آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ الذي خلقه الله‏(‏ تعالي‏)‏ أصلا من تراب‏,‏ وفي ذلك يقول المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض‏,‏ فجاء بنو آدم علي قدر الأرض‏:‏ جاء منهم الأحمر‏,‏ والأبيض‏,‏ والأسود وبين ذلك‏,‏ والخبيث والطيب وبين ذلك
‏(‏ أخرجه كل من الإمام أحمد‏,‏ وأبو داود‏,‏ والترمذي‏)‏

وعملية الخلق بأبعادها الثلاثة‏:‏ خلق الكون‏,‏ وخلق الحياة‏,‏ وخلق الإنسان عملية غيبية غيبة كاملة عنا حيث لم يشهدها أي من الإنس أو الجن وفي ذلك يقول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا‏*(‏ الكهف‏:51)‏

ولكن الله‏(‏ تعالي‏)‏ الذي قرر هذه الحقيقة يطالبنا في أكثر من آية من آيات القرآن الكريم بان نتفكر في كيفية الخلق‏,‏ ومن ذلك قوله عز من قائل‏:‏
‏*‏إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون‏*(‏ البقرة‏:164)‏

‏*‏ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب‏*‏ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلي جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار‏*(‏ آل عمران‏:191,190)‏
‏*‏ أو لم يروا كيف يبديء الله الخلق ثم يعيده إن ذلك علي الله يسير‏*‏ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشيء النشأة الآخرة إن الله علي كل شيء قدير‏*(‏ العنكبوت‏:20,19)‏
‏*‏ لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏*‏
‏(‏غافر‏:57)‏

‏*‏ ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو علي جمعهم إذا يشاء قدير‏*(‏ الشوري‏:29)‏
والجمع بين هذه الآيات يشير إلي أنه علي الرغم من أن عملية الخلق قد تمت في غيبة الإنسان‏,‏ إلا أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ ـ من رحمته بنا ـ قد ترك لنا في أنفسنا‏,‏ وفي صخور الأرض من حولنا‏,‏ وفي صفحة السماء من الشواهد الحسية ما يمكن أن يعين الإنسان ـ بإمكاناته المحدودة ـ علي الوصول إلي تصور ما عن كيفيات الخلق‏.‏ ولكن هذه التصورات تبقي قاصرة‏,‏ عاجزة‏,‏ ومنقوصة في غيبة الاستهداء بالنصوص الواردة في كتاب الله وفي سنة رسوله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ عن ذلك‏.‏

وللتدليل علي ذلك نقول بأن تدرج عمارة الأرض بالخلق عبر فترة زمنية طويلة تقدر بحوالي‏8‏ و‏3‏ بليون سنة قد أغرت عددا من الكفار والمشركين ومن علي دربهم من المنافقين بالمناداة بنظرية التطور العضوي التي تنادي بمادية الخلق الأول الذي نشأ نتيجة لتفاعل أشعة الشمس مع طين الأرض بعفوية كاملة‏,‏ ثم التطور الذاتي العشوائي وغير الواعي لهذا الخلق الأول حتي وصل إلي الإنسان‏.‏ ولكن تعقيد بناء الخلية الحية ينفي امكانية إيجادها بغير تدبير حكيم مسبق‏.‏ وتعقيد بناء العضيات المختلفة في الخلية الحية وبناء الشفرة الوراثية‏.‏ ينفي ذلك نفيا مطلقا‏,‏ وكل نشاط طبيعي أو كيميائي أو حيوي وكل منتج عن تلك الأنشطة يؤكد علي حقيقة الخلق‏,‏ وعلي رعاية الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏).‏ فالشفرة الوراثية سجل محكم من المعلومات والأوامر المنظمة تنظيما مذهلا‏,‏ والتي تنفذ بدقة مبهرة علي مستوي أدق التفاصيل‏,‏ مما يعطي الخلية الحية في أبسط صورها مستوي من عظمة التصميم‏,‏ وتعقيد البناء‏,‏ ومستوي التنفيذ لا يمكن أن يصل إليه أكبر المصانع التي أنشأها الإنسان بل التي فكر في انشائها ولم يتمكن من ذلك بعد فيستحيل علي أكثر التقنيات تقدما اليوم انتاج واحدة من أبسط الخلايا الحية علي الرغم من معرفتنا بتركيبها الكيميائي الدقيق مائة بالمائة‏.‏

ليس هذا فقط‏,‏ بل إن لبنة بناء الخلية الحية وهي الجزيء البروتيني عبارة عن بناء معقد من جزيئات الأحماض الأمينية المحددة التي تبلغ العشرين‏,‏ والمرتبة ترتيبا معينا‏,‏ والمرتبطة مع بعضها البعض بروابط كيميائية محددة‏,‏ في تتابعات خاصة‏,‏ وبنسب مقدرة بدقة فائقة‏,‏ ولارتباط تلك الأحماض الأمينية برابطة واحدة هي الرابطة البيبتيدية‏(PeptideBond)‏ فإن البروتينات تعرف باسم عديدة البيبتيدات‏(Polypeptides).‏ وقد يشترك عدد كبير من مختلف الأحماض الأمينية في تكوين السلسلة البيبتيدية للبروتين وهذا لا يمكن أن يتم بمحض الصدفة أبدا‏,‏ وذلك لأن جميع البروتينات في أجساد كل الكائنات الحية مبنية من العشرين نوعا المحددة من أنواع الأحماض الأمينية‏,‏ وكلها من أنموذج واحد يعرف باسم أنموذج أ‏(AlphaType),‏ وكلها مرتبط ببعضه البعض برابطة محددة هي الرابطة البيبتيدية‏,‏ وأبسط جزيء بروتيني معروف يتكون من خمسين جزيئا من جزيئات الأحماض الأمينية العشرين المحددة‏,‏ وبعض الجزيئات البروتينية مكون من آلاف الجزيئات من الأحماض الأمينية‏.‏ وجميع هذه الضوابط والقيود ـ وغيرها كثير ـ تجعل احتمال تكون جزيء بروتيني واحد بمحض الصدفة من أكبر المستحيلات‏.‏
فإذا أضفنا إلي ذلك تعقيد بناء جزيء الحمض الأميني نفسه الذي يتكون من ستة عناصر أساسية هي‏:‏ الكربون‏,‏ الإيدروجين‏,‏ الأكسجين‏,‏ النيتروجين‏,‏ الكبريت‏,‏ والفوسفور‏,‏ وأن مجرد اختيار تلك العناصر الستة من بين أكثر من مائة عنصر معروفة لنا بمحض الصدفة يجعل الأمر أشد استحالة‏.‏ ويزيد الأمر تعقيدا أن الذرات تترتب في الأحماض الأمينية ترتيبا يساريا في أجساد جميع الكائنات الحية‏,‏ ولكن بمجرد موت الكائن الحي فإنها تعيد ترتيب ذاتها ترتيبا يمينيا بمعدلات ثابتة مما يعين علي تحديد لحظة وفاة الكائن الحي بحساب نسبة الترتيب اليميني إلي اليساري في جزيئات الأحماض الأمينية في أية فضلة تبقي عن ذلك الكائن الحي‏.‏

ليس هذا فقط بل إن جزيئات الأحماض الأمينية تترتب في داخل الجزيئات البروتينية المكونة للخلية الحية ترتيبا يساريا كذلك في جميع الأحياء‏,‏ بينما تترب الذرات في النويدات‏(Nucleotides)‏ ترتيبا يمينيا والنويدات هي الحروف التي تكتب بها الشفيرة الوراثية‏(DNACODON).‏
وإذا أضفنا إلي كل ذلك إحكام بناء الخلية الحية علي ضآلة أبعادها فإن أية إمكانية للعشوائية أو الصدفة تنتفي تماما‏,‏ فالخلية الحية لها جدار رقيق من غشاء حي في كل من الإنسان والحيوان يتبادل الغذاء والنفايات والأكسجين مع الخلايا المجاورة‏,‏ ولها جدار من غشاء سميك غير حي في النباتات‏,‏ والخلية لها السائل الخلوي الذي يتكون أساسا من البروتينات‏,‏ والدهنيات‏,‏ والسكريات‏,‏ والعديد من العناصر الذائبة‏,‏ ويسبح في هذا السائل الخلوي العديد من الصبغيات‏,‏ والنواة التي لها جدار حي وتحتوي علي الشفرة الوراثية المحمولة علي عدد من الصبغيات المحدد لكل نوع من أنواع الحياة‏,‏ وتتكون الصبغيات من جزيئات الحمض النووي الريبي المنقوص الأوكسجين‏,‏ وبالنواة كذلك والحمض النووي الريبي المراسل‏,‏ والبروتينات‏(‏ ومنها الهرمونات والإنزيمات‏),‏ والكربوهيدرات‏,‏ والدهون‏(Lipids),‏ والفيتامينات‏,‏ والإليكتروليتات‏,‏ وغيرها من المركبات الكيميائية المرتبة ترتيبا محكما وبنسب محددة‏,‏ واختيار دقيق‏,‏ وتناسق عجيب ليقوم كل منها بدوره علي أكمل وجه‏.‏

وللخلية الحية مصادرها المختلفة من الطاقة‏,‏ ومصانعها‏,‏ ومختبراتها‏,‏ ومحطات التكرير الخاصة بكل منتج تنتجه‏,‏ ووسائل الانتقال المحددة بداخلها‏,‏ ولها شفرة وراثية شديدة التعقيد يضم الصبغي الواحد من بين‏46‏ صبغيا في الخلية الواحدة من خلايا جسم الإنسان‏6‏ و‏18‏ بليون قاعدة كيميائية‏,‏ وكل ذلك ينفي الصدفة‏,‏ ويؤكد الخلق المتقن‏,‏ والتدبير الحكيم الذي لا يقوي عليهما إلا رب العالمين‏.‏
وإذا استحالت الصدفة علي ايجاد خلية حية واحدة‏,‏ فالأمر أشد استحالة بالنسبة للكائن الحي الكامل‏,‏ وهو أبلغ بالنسبة إلي الإنسان الذي يتكون جسده في المتوسط من ألف مليون مليون خلية‏,‏ تنتظمها أنسجة متخصصة‏,‏ في أعضاء متخصصة‏,‏ في أجهزة متخصصة‏,‏ تعمل كلها في توافق عجيب يخدم هذا الجسد المكرم‏,‏ ولذلك قال ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
‏*‏ ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو علي كل شيء وكيل‏*‏
‏(‏ الأنعام‏:102)‏

‏*..‏ قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار‏*(‏ الرعد‏:16)‏
‏*‏ الله خالق كل شيء وهو علي كل شيء وكيل‏*(‏ الزمر‏:62)‏
‏*‏ ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فاني تؤفكون‏*(‏ غافر‏:62)‏

‏*‏ هو الله الخالق الباريء المصور له الأسماء الحسني يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم‏*(‏ الحشر‏:24)‏
فإذا قال هذا الخالق الباريء المصور أنه خلق الإنسان من تراب‏,‏ أو من طين‏,‏ أو من طين لازب‏,‏ أو من سلالة من طين‏,‏ أو من صلصال من حمأ مسنون‏,‏ أو من صلصال كالفخار فلا يملك المؤمن بالله‏(‏ تعالي‏)‏ إلا أن يقول آمين‏,‏ لأن هذا هو الخالق يتحدث عن خلقه‏,‏ ومن أدري بالخلق من خالقه‏!!‏

وإذا خلق الله‏(‏ تعالي‏)‏ عبده ورسوله عيسي ابن مريم من أم بلا أب بأمره فهو نفس الأمر الإلهي بـ كن فيكون الذي خلق به آدم من تراب‏.‏ والإنسان ـ في ضعفه ـ قد استطاع استنساخ عدد من الحيوانات من أم بلا أب فهل يعجز ذلك خالق الإنسان؟
والخلق من تراب ينطبق في الحالين‏:‏ حال أبينا آدم‏(‏ عليه السلام‏)‏ الذي بدأ الله‏(‏ تعالي‏)‏ خلقه من تراب وكان جميع نسله في صلبه لحظة خلقه ومنهم عبد الله ورسوله عيسي ابن مريم‏.‏ كما ينطبق الخلق من تراب علي المسيح عيسي ابن مريم نفسه لأنه نشأ من بيضة أمه الموروثة عن أبوينا آدم وحواء‏(‏ عليهما السلام‏)‏ وتغذي وهو جنين علي دمائها المستمدة من غذائها وهو مستمد من عناصر الأرض‏,‏ وتغذي وهو رضيع علي لبنها‏,‏ وهو مستمد من نفس المصدر‏,‏ وتغذي بعد ذلك علي نباتات الأرض‏,‏ وعلي منتجات المستباح من حيواناتها‏,‏ وكل ذلك مستمد أصلا من عناصر تراب الأرض ومائها وهوائها ولذلك قال ربنا‏(‏ وهو أحكم القائلين‏):‏

إن مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون‏*(‏ آل عمران‏:59)‏
ولا يملك عاقل أن يقول بعد كلام الله الخالق الباريء المصور قولا‏...!!‏

ولعل في ذلك ما يرد نفرا من أبناء المسلمين الذين فتنوا بالغرب ومنجزاته‏,‏ وانبهروا بمعطياته المنطلقة من بوتقة الكفر والشرك والإلحاد‏,‏ فتحدثوا عن التطور العضوي وزينوه في عقول نفر من غير المتخصصين‏,‏ ومن المنهزمين نفسيا أمام الحضارة الغربية المزيفة فانطلقوا بخيال جامح يؤولون كلام الله تأويلا مرفوضا‏,‏ وينكرون نصوصا قرآنية كريمة‏,‏ وأحاديث نبوية شريفة قطعية الثبوت‏,‏ قطعية الدلالة‏,‏ وهم يعلمون جيدا حكم من ينكر معلوما من الدين بالضرورة‏,‏ فافترضوا ـ دون أدني دليل علمي أو منطقي وجود بشر قبل آدم‏,‏ والنصوص القرآنية الكريمة والنبوية الشريفة لا تفرق بين الآدمية والبشرية‏.‏

ويبقي في قول ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
إن مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون‏*(‏ آل عمران‏:59)‏

يبقي في ذلك سبق علمي حقيقي أثبتته الدراسات المتأخرة في علم الوراثة والتي أكدت أن انقسام الصبغيات الحاملة للشفرة الوراثية ينتهي بنسب بلايين الأفراد الذين يعمرون أرض اليوم‏,‏ والبلايين الذين جاءوا من قبلنا ثم ماتوا‏,‏ والذين سوف يأتون من بعدنا إلي قيام الساعة‏,‏ هؤلاء جميعا ينتهي نسبهم إلي أب واحد وأم واحدة هما أبوانا آدم وحواء‏(‏ عليهما السلام‏)‏ ولما كان عيسي‏(‏ عليه السلام‏)‏ من نسل آدم‏,‏ مخلوق من تراب فان جسد عيسي ابن مريم يحوي بالقطع جزءا من التراب الموروث عن أبيه آدم‏,‏ وقد غذي بدم ولبن أمه وهو أيضا مستمد من عناصر تراب الأرض‏,‏ فهو من تراب كما خلق أبوه آدم من تراب‏.‏ كذلك أثبتت محاولات الاستنساخ في النبات والحيوان إمكانية انتاج جنين من أم بلا أب‏,‏ وإذا استطاع الإنسان ـ علي ضعفه ـ تحقيق ذلك فإنه لا يعجز خالق الإنسان‏..!!‏

فسبحان الذي أنزل القرآن الكريم بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ كلمة كلمة‏,‏ وحرفا حرفا‏,‏ حتي يبقي حجة علي الخلق جميعا إلي قيام الساعة‏,‏ وصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد النبي والرسول الأمين الذي بلغ الرسالة‏,‏ وأدي الأمانة‏,‏ ونصح الثقلين حتي أتاه اليقين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏